يتجه تيار المحافظين الأصوليين تدريجيًا إلى تكريس سيطرته على مؤسسات صنع القرار في إيران. وقد بدا ذلك جليًا في التشكيلة الجديدة لمجلس تشخيص مصلحة النظام التي أصدر المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي قرارًا بشأنها في 21 سبتمبر الجاري. إذ كان لافتًا أن هذه التشكيلة الجديدة تخلو من اسم الرئيس السابق حسن روحاني، ونائبه إسحاق جهانجيري، ووزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف. ويطرح ذلك تساؤلات عديدة حول مغزى هذه الخطوة، لا سيما أن عدم تعيين رئيس الجمهورية الذي انتهت ولايته يمثل تغيرًا في قواعد سار عليها النظام في تعامله مع الرؤساء السابقين، على غرار الرئيسين السابقين هاشمي رفسنجاني (توفي في 8 يناير 2017)، ومحمود أحمدي نجاد الذي تم التجديد له في التشكيلة الأخيرة.
اعتبارات عديدة
رغم أن تحليلات عديدة أشارت إلى أن غياب روحاني عن التشكيلة الجديدة قد يكون بناءً على رغبته، حيث يتبقى له داخل دوائر صنع القرار منصبه كعضو في مجلس خبراء القيادة (الذي يتولى تعيين وعزل المرشد الأعلى للجمهورية، ومراقبة أعماله، ويُنتخب كل ثماني سنوات) فإن الغياب النسبي لتيار المعتدلين (الذي يضم أقطابًا من تياري الإصلاحيين والمحافظين التقليديين) عن التشكيلة يوحي بأن هناك اتجاهًا لدى النظام لتعزيز نفوذ تيار المحافظين الأصوليين، وتكريس سيطرته على معظم مؤسسات صنع القرار إن لم يكن مجملها، بداية من مجلس الشورى الإسلامي (البرلمان)، مرورًا برئاسة الجمهورية والحكومة، وانتهاءً بالمؤسسات المعينة على غرار مجلس صيانة الدستور ومجلس تشخيص مصلحة النظام. وقد تعززت هذه التكهنات بغياب علي أكبر ناطق نوري، الرئيس السابق لهيئة التفتيش التابعة لمكتب المرشد، الذي يحسب على تيار المحافظين التقليديين.
ويمكن تفسير هذا التوجه الجديد في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:
- استبعاد المدافعين عن الاتفاق النووي: كان لافتًا أن معظم المسئولين الذين كانوا مكلفين بإدارة المفاوضات النووية مع قوى مجموعة “5+1” والتي انتهت بالإعلان عن الاتفاق النووي في 14 يوليو 2015، تعرضوا للتهميش حتى قبل نهاية الفترة الرئاسية الثانية للرئيس حسن روحاني. ويعود ذلك في المقام الأول إلى إخفاق الرهان على الاتفاق وما يمكن أن يفرضه من تداعيات إيجابية على إيران. ففي أعقاب الوصول إلى هذا الاتفاق في منتصف عام 2015، شنت حكومة روحاني ووفد التفاوض حملة قوية في الداخل لتمرير الاتفاق والترويج للعوائد الاستراتيجية التي سوف تعود على إيران من خلاله. إلا أن قرار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بالانسحاب من الاتفاق، في 8 مايو 2018، ثم إعادة فرض العقوبات الأمريكية على إيران بداية من 7 أغسطس من العام نفسه، وجّه ضربة قوية ليس فقط إلى الاتفاق النووي، وإنما إلى التيار الذي دافع عنه بقوة. وقد بدا ذلك جليًا في المرحلة التي سبقت الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي أجريت في عام 2021. فقد دفعت ضغوط تيار المحافظين الأصوليين وزير الخارجية آنذاك محمد جواد ظريف إلى العزوف عن الترشح رغم دعوات أقطاب تيار المعتدلين أمثال الرئيس الأسبق محمد خاتمي له للإقدام على تلك الخطوة. كما رفض مجلس صيانة الدستور (المكلف بالبت في أهلية المرشحين) ملف ترشيح نائب الرئيس إسحاق جهانجيري للانتخابات. وبعد الإعلان عن فوز إبراهيم رئيسي، وبداية اتجاهه إلى تشكيل الحكومة الجديدة، كان من أول القرارات التي اتخذها هو استبعاد عباس عراقجي من منصب مساعد وزير الخارجية للشئون السياسية ورئيس وفد التفاوض، حيث تم تعيين علي باقري كني في هذا المنصب.
ومع أن حكومة رئيسي ما زالت حريصة على مواصلة المفاوضات النووية، فإنها تروج إلى أن هذه المفاوضات هي خيار اضطراري، بمعنى أن إيران لا تستطيع بسهولة إعلان فشل المفاوضات أو وقف العمل بالاتفاق النووي رغم تخفيض مستوى التزاماتها به، نتيجة التبعات السلبية التي يمكن أن تتعرض لها بسبب ذلك. وقد كان لافتًا أن الرئيس إبراهيم رئيسي أكد خلال كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، في 21 سبتمبر الجاري، أن “إيران وقعت على الاتفاق بحسن نية وأوفت بجميع التزاماتها دون استثناء، إلا أن أمريكا داست عليه”. وهنا، فإن “حسن النية” الذي ركز عليه رئيسي لا يعبر عن دعمه للمفاوضات أو الاتفاق، بل على العكس يشير إلى انتقاداته القوية لأداء الحكومة السابقة وفريق التفاوض الذي كلف بإدارة المفاوضات مع القوى الدولية.
- تكريس الانقسام داخل تيار المحافظين الأصوليين: مع أن هذا التوجه الجديد قد يدعم من سيطرة تيار المحافظين الأصوليين على معظم مؤسسات صنع القرار، إلا أن ذلك ربما يكون خيارًا مؤقتًا، بانتظار حدوث انقسام داخل التيار نفسه، على نحو يمكن أن يؤدي إلى ظهور أجنحة متصارعة، وبالتالي تتوزع مصادر القوة السياسية مرة أخرى بين أكثر من جهة. ويمثل ذلك قاعدة أخرى اعتمد عليها النظام السياسي في أكثر من مرحلة سياسية.
فعندما سيطر تيار المحافظين الأصوليين على مؤسسات صنع القرار في عام 2005، بعد فوز الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد بانتخابات الرئاسة على أكبر هاشمي رفسنجاني، بدأ هذا التيار في الانقسام تدريجيًا إلى أكثر من جناح سياسي، على نحو أدى إلى تغير توازنات القوى السياسية، فبدأ تيار المحافظين في الانقسام إلى محافظين أصوليين ومحافظين تقليديين، الذين اتجهوا بدورهم إلى التحالف مع الجناح الإصلاحي الذي يؤمن بنظام ولاية الفقيه، ليشكلا فيما بعد تيار المعتدلين.
وهنا، يمكن القول إن النظام الإيراني لا يفضل باستمرار سيطرة تيار سياسي واحد. إذ تبقى هذه السيطرة المؤقتة بمثابة مرحلة انتقالية سرعان ما تنتهي بانقسام هذا التيار إلى أجنحة سياسية متنافسة. وثمة مؤشرات عديدة تكشف عن ذلك، منها اتساع نطاق التباين بين رئيس الجمهورية إبراهيم رئيسي ورئيس مجلس الشورى محمد باقر قاليباف، للدرجة إلى دفعت تحليلات عديدة إلى ترجيح أن يكون للأول دور في إثارة أزمة سفر عائلة قاليباف إلى إسطنبول لشراء ملتزمات حفيده، في أبريل الماضي، حيث ظهرت علامات البذخ خلال الزيارة في الوقت الذي تتصاعد فيه حدة الأزمة الاقتصادية وما تفرضه من ضغوط معيشية على الإيرانيين.
- استمرار المعاناة من أعراض اغتيال سليماني: رغم مرور أكثر من عامين ونصف على اغتيال قائد “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري قاسم سليماني، في 3 يناير 2020، إلا أنه يمكن القول إن النظام الإيراني لم يتخلص بعد من تبعات هذا الحادث، الذي ما زال يفرض تأثيره على الدور الإقليمي الإيراني. فقد كان سليماني مسئولًا عن إدارة العمليات الخارجية لإيران. وقد نجح في نسج علاقات قوية مع كل المليشيات الشيعية الموجودة في المنطقة، فضلًا عن بعض الفصائل الأخرى السنية. وبالتالي، فإن غيابه عن المشهد أدى إلى ارتباك هذه العلاقات، على نحو يبدو جليًا في الحالة العراقية، حيث لم ينجح خليفته إسماعيل قاآني في القيام بالدور نفسه الذي سبق أن قام به سليماني، وبالتالي استمرت الأزمة السياسية العراقية حتى الآن دون حل رغم مرور نحو عام على إجراء الانتخابات التشريعية، حيث لم تتوافق القوى الشيعية الرئيسية على تشكيل الحكومة بعد.
المهم في ذلك كله أن اغتيال سليماني بقرار من الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب أحدث هزة قوية لدى النظام الإيراني. فالأخير كان دائمًا حريصًا على تجنب الانخراط في مواجهة مباشرة، خاصة إذا كانت مع القوة العظمى الأولى في العالم، وقد وجد نفسه فجأة في مواجهة هذا الخيار. ورغم أن هذه المواجهة لم تدم إلا ساعات، إلا أنها وجهت تحذيرًا للنظام بأن هذا الخيار لم يعد مستبعدًا، وأن سياسة الحرب بالوكالة سوف يكون لها حدود على الأرض. وقد بدا اهتزاز النظام بفعل هذه المواجهة المحدودة جليًا في إسقاط الطائرة المدنية الأوكرانية في الليلة نفسها التي قام فيها بشن هجمات صاروخية ضد قاعدتين عراقيتين تتواجد بهما قوات أمريكية ردًا على اغتيال سليماني، وذلك في 8 يناير 2020.
لكن تداعيات اغتيال سليماني لم تقف عند هذه الحدود، بل امتدت إلى الساحة الداخلية، حيث تكرست لدى النظام نظرية “المؤامرة”، التي تقوم في الأساس على وجود تيار داخلي ينفذ أجندة خارجية ويسعى إلى دعم جهود قوى أجنبية لتقويض دعائم النظام. وهنا، بدأ تيار المعتدلين (الذي دعم الاتفاق النووي) يتعرض لحملة أقوى على الساحة الداخلية، يقودها تيار المحافظين الأصوليين الذي يصفه دائمًا بـ”التيار المتغربن”، في إشارة إلى سعيه الدائم للانفتاح على الدول الغربية، ودعوته إلى الوصول لاتفاق نووي جديد حتى لو لم يكن يستوعب مجمل شروط إيران.
وقد أنتجت هذه الحملة تداعيات على الأرض. فقد تم تهميش تيار المعتدلين في الانتخابات البرلمانية التي أجريت في عام 2020، التي اعتبرت بمثابة “تنافس بين الحلفاء الأصوليين”، واستخدم مجلس صيانة الدستور مقصلته في استبعاد عدد كبير من المرشحين القريبين من تيار المعتدلين أو المحسوبين عليه في الانتخابات الرئاسية التي أجريت في عام 2021، لدرجة أفسحت المجال أمام تحقيق إبراهيم رئيسي فوزًا مضمونًا في الانتخابات.
وفي ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن خريطة توازنات القوى السياسية داخل إيران تبدو مقبلة على تحولات عديدة خلال المرحلة القادمة، سوف تتضح ملامحها تدريجيًا مع اقتراب الاستحقاقات السياسية المهمة على غرار انتخابات البرلمان ومجلس الخبراء في عام 2024 والرئاسية في عام 2025.