في الخامس عشر من سبتمبر الجاري جرت الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية التونسية، لاختيار الرئيس السادس لتونس منذ استقلالها عام 1957، في مشهد سياسي اكتنفه الكثير من الغموض والضبابية، واتسم بالسيولة الشديدة خاصة مع اتساع دائرة التنافس على مقعد الرئاسة ليصل عدد المرشحين إلى 26 مرشحًا. وتعد انتخابات الرئاسة لعام 2019 هي ثاني انتخابات حرة مباشرة في تونس منذ عام 2011، إذ كانت انتخابات 2014 التي فاز فيها الرئيس السابق “الباجي قايد السبسي” هي أول اقتراع مباشر يدلي فيه المواطنون بأصواتهم؛ حيث كان اختيار الرئيس الأسبق “المنصف المرزوقي” يتم بطريقة غير مباشرة عبر المجلس الوطني التأسيسي.
أولًا- السياق العام للعملية الانتخابية:
أُجريت الانتخابات الرئاسية التونسية قبل موعدها المحدد بنحو شهرين؛ إذ كان من المقرر إجراؤها في السابع عشر من نوفمبر المقبل عقب الانتخابات التشريعية المقرر إجراؤها في السادس من أكتوبر المقبل، غير أن وفاة الرئيس “الباجي قائد السبسي” أدت إلى التعجيل بإجراء الانتخابات الرئاسية لتصبح في منتصف سبتمبر.
ومنذ مطلع العام تشهد تونس جدلًا عامًّا حول إمكانية ترشح الرئيس “السبسي” لولاية ثانية، غير أنه منذ فبراير تعالت الأصوات الرافضة لترشح الرئيس الذي يبلغ من العمر 92 عامًا لولاية ثانية، تأثرًا بأحداث الجزائر ورفض الجماهير ترشح الرئيس “بوتفليقة” لولاية خامسة، فضلًا عن الخلافات بشأن ترشح الرئيس داخل الائتلاف الحاكم نفسه، إذ عانى الائتلاف والحزب الحاكم من حالة انقسام داخلي، على خلفية الصراع بين “حافظ قائد السبسي” -نجل الرئيس- ورئيس الوزراء “يوسف الشاهد”، على زعامة الحزب إلى الحد الذي طالب فيه الأول باستقالة الثاني من رئاسة الوزراء، وتحميله مسئولية تراجع نسب تمثيل الحزب في الانتخابات البلدية الأخيرة. وردًا على تلك الاتهامات، أعلن “الشاهد” في مايو الماضي عدم نيته تقديم استقالته، واستند إلى دعم كتلة النهضة له بالبرلمان، مرجعًا الانقسام داخل الحزب لسياسات “حافظ السبسي”، الذي اتهمه “الشاهد” بالسعي إلى الترشح للرئاسة خلفًا لأبيه. لكن الرئيس “السبسي” حسم هذا الجدل في مطلع أبريل الماضي حين أعلن موقفه بعدم نيته خوض الانتخابات مرة أخرى.
وقد جرت الانتخابات الرئاسية في ضوء القانون الانتخابي القديم، بعدما تعطّل إصدار القانون الجديد مع رحيل “السبسي”، والذي كان من شأنه استبعاد الكثير من المرشحين. إذ يمنع مشروع القانون الجديد الذي لم يصدره البرلمان ترشّح أيّ شخص عمل في جمعيّة أو منظّمة خيريّة لمدّة عام، إلى جانب أولئك الذين يمتلكون قنوات تلفزيونيّة تقوم بالدعاية السياسيّة. وقد ساهم تعذر إصدار قانون جديد للانتخابات في زيادة حالة السيولة التي يشهدها السباق الانتخابي الراهن.
وفي منتصف أغسطس الماضي أعلن رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات “نبيل بفون” عن قبول ملفات 26 مرشحًا نجحوا في استيفاء شروط الترشح التي كان من بينها الحصول على 10 تزكيات من نواب البرلمان أو 40 تزكية من قبل رؤساء البلديات أو 10 آلاف تزكية من عامة الناخبين في 10 دوائر مختلفة بحسب القانون، وذلك من أصل 97 متقدمًا قاموا بتقديم أوراقهم مع فتح باب الترشح للانتخابات في الثاني من الشهر ذاته، لتتأكد القائمة النهائية في 31 أغسطس. وانطلقت الحملة الانتخابية في الثاني من سبتمبر وحتى الثالث عشر من الشهر ذاته، على أن تتولى هيئة الانتخابات التصريح بالنتائج النهائية إثر انتهاء الطعون على النتيجة في أجل لا يتجاوز 21 أكتوبر، أي قبل 3 أيام فقط من انتهاء المدة الرئاسية المؤقتة، والتي حدد الدستور مدتها القصوى بـ90 يومًا.
وقد شهدت الانتخابات الرئاسية التونسية عقد مناظرات بين المرشحين للمرة الأولى، والتي اختِير لها عنوان “الطريق إلى قرطاج – تونس تختار”، والتي امتدت لثلاث حلقات، من السابع حتى التاسع من سبتمبر بعدما أُجريت بإشراف الهيئة العليا للاتصال السمعي والبصري بجانب الهيئة العليا المستقلة للانتخابات. ورغم أنها لم تسفر عن مؤشرات حاسمة يستطيع من خلالها الناخبون حسم موقفهم إزاء مرشح بعينه؛ إذ قدّم الجميع رؤى متشابهة إزاء الأوضاع والقضايا المختلفة، لم تسفر المناظرات بين المرشحين عن ترجيح كفة أحد المرشحين مبكرًا، على نحو ما عكسته النتائج المفاجئة للجولة الأولى.
ثانيًا- خريطة المرشحين:
ضمت القائمة الانتخابية 26 مرشحًا، جاء من بين أبرز هؤلاء المرشحون رئيس الحكومة الحالي “يوسف الشاهد” ذو التوجهات الليبرالية والسياسة الوسطية المعتدلة، ويتبنى الفكر البورقيبي كمرجعية لتصوراته السياسية والمرشح عن حزب “تحيا تونس”. وكان من بين هؤلاء أيضًا رئيس البرلمان بالنيابة “عبدالفتاح مورو”، الذي رشحته “حركة النهضة“، والرئيس التونسي الأسبق “منصف المرزوقي”، مؤسس ورئيس حزب “المؤتمر من أجل الجمهورية” منذ تأسيسه حتى 13 ديسمبر 2011 تاريخ استلامه رئاسة الجمهورية التونسية، وبعد خسارته الانتخابات الرئاسية التونسية في 2014 أسس “حراك شعب المواطنين” الذي انضوى تحته عدة أحزاب منهم المؤتمر، ثم أسس في 20 ديسمبر 2015 حزب “حراك تونس الإرادة” الذي خاض غمار الانتخابات تحت رايته. ويستند “المرزوقي” في شعبيته إلى تاريخه الحقوقي بصورة أكبر من استناده إلى رصيده الضعيف في فترته الرئاسية.
كما خاض المنافسة الانتخابية وزير الدفاع “عبدالكريم الزبيدي” الذي تقدم باستقالته من أجل خوض السباق الانتخابي، والمدعوم من حزب “نداء تونس”، ورئيس الحكومة الأسبق “المهدي جمعة” رئيس حزب “البديل التونسي”. كما ضمت القائمة كذلك رجل الإعلام “نبيل القروي”، رئيس حزب “قلب تونس” وهو أحد مؤسسي نداء تونس مع الرئيس الراحل “الباجي قايد السبسي”، وأبرز المساهمين في دعايته السياسية التي مكنته من الفوز بالرئاسة في عام 2014. وبعدها كان “القروي” أحد أبرز صانعي توافق “السبسي” مع حركة النهضة الإسلامية. وبالرغم من كون “القروي” تحت الحبس الاحتياطي على ذمة قضية تتعلق بغسيل الأموال وممارسات مالية أخرى معيبة؛ إلا أنه كان من البداية من أبرز المرشحين لإحراز نتائج كبيرة في الانتخابات. بجانب ترشح “محمد الهاشمي الحامدي”، الإعلامي المقيم في لندن، والمرشح عن حزب “تيار المحبة”، و”سليم الرياحي”، رجل الأعمال المثير للجدل، والمرشح عن حزب “الوطن الجديد”، الذي لا يزال مستقرًّا خارج تونس بعد صدور أحكام قضائية غيابية بتهمة غسل الأموال.
وقد شملت قائمة المرشحين المستقلين تسعة مرشحين، ينتمي عدد منهم إلى تيارات وأحزاب سياسية كبيرة؛ إلا أنهم فضلوا خوض الانتخابات بصفة مستقلة من بينهم “ناجي جلول” وزير التربية الأسبق والأمين العام السابق لحزب نداء تونس، ومدير المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية. و”حمة الهمامي” المتحدث باسم ائتلاف الجبهة الشعبية. و”حمادي الجبالي” الذي كان رئيسًا لحركة النهضة ورئيس أسبق للحكومة. و”حاتم بولبيار”، القيادي المستقيل من حركة النهضة. بجانب مرشحين مستقلين لم يعرف عنهم الانتماء لأي من الأحزاب السياسية في السابق في مقدمتهم أستاذ القانون الدستوري “قيس سعيد”.
وضمت القائمة امرأتين هما “عبير موسى”، رئيسة حزب “الدستوري الحر” والمحسوبة على نظام زين العابدين بن علي، وأحد أشد خصوم حركة النهضة، والتي أعلنت أنها لن تقدم على التعاون معها حال فوزها، وتستمد شعبيتها من خطابها المعادي للإسلاميين، ومن تعاطف الجماهير غير الراضية عن نتائج الثورة التونسية. كما شملت القائمة أيضًا “سلمى اللومي”، القيادية بحزب “نداء تونس”، والتي ترشحت في الانتخابات الحالية عن “حزب الأمل”، وهي سيدة أعمال ووزيرة سابقة للسياحة شغلت منصب رئيسة الديوان السياسي للرئيس الراحل “الباجي قائد السبسي” قبل ثمانية أشهر من وفاته.
ثالثًا- القضايا الحاسمة:
شهدت فترة الحملات الانتخابية إثارة العديد من القضايا الخلافية التي تشغل الجمهور التونسي، ويأتي في مقدمة تلك القضايا قضيتا: الأوضاع الاقتصادية، ومكافحة الإرهاب.
1- الأوضاع الاقتصادية:
يعاني الاقتصاد التونسي من تدهور قيمة العملة التونسية التي فقدت نحو 60% من قيمتها في مقابل الدولار منذ عام 2014 حتى الآن، الأمر الذي دفع معدلات التضخم للارتفاع إلى مستوى 7,4٪ في أكتوبر 2018، مقابل 6,4% في 2017، و4,2% في 2016، ما أدى إلى ارتفاع الأسعار وانخفاض القدرة الشرائية للمواطنين، ولا سيما الطبقات الوسطى والبسيطة، فقفزت قروض الأسر التونسية لتلبية الاحتياجات المتزايدة بنسبة 117% في الفترة بين ديسمبر 2010 ويونيو 2018، لتصل إلى 8 مليارات دولار.
وقد تسببت هذه المشكلات في مواجهة حكومة “الشاهد” عثرات اقتصادية كبرى للحد الذي أدى بالاتحاد العام التونسي للشغل لتنظيم إضراب عام في مطلع العام الجاري، على خلفية اعتراض “الشاهد” على رفع الأجور، المطلب الذي تقدم به الاتحاد في الاجتماع الذي عقد بالقصر الرئاسي بحضور الرئيس “السبسي” والكتل الحزبية الداعمة للحكومة بالبرلمان، الأمر الذي تسبب في تقدم ثمانية أعضاء من حزب نداء تونس باستقالاتهم والانضمام للمعارضة، وتحميل الحزب مسئولية سوء الأوضاع المعيشية، والاعتذار للشعب عن عدم وفاء الحزب بوعوده الانتخابية في عام 2014. ومن بين التحديات الاقتصادية التي تنتظر الرئيس الجديد والحكومة الجديدة على حد سواء، محاربة البطالة التي بلغت نسبتها نحو 15% على المستوى الوطني و29,7% لدى خريجي الجامعات والمعاهد، فضلًا عن تشجيع الاستثمارات الأجنبية التي تراجعت منذ سقوط نظام بن علي.
2- مكافحة الإرهاب:
يظل الإرهاب في مقدمة الأولويات التي تحكم الناخب التونسي، إذ يتعين على الرئيس القادم استعادة الأمن والقضاء على منابع التطرف الفكري. وفي هذا الصدد، تعمل السلطات التونسية منذ سنوات على الحد من المخاطر الإرهابية، واتخذت خطوات وإجراءات هدفها تضييق الخناق على الأنشطة الإرهابية ومنع وصول التمويلات المالية المشبوهة إلى التنظيمات الإرهابية. ولا تزال التهديدات الإرهابية قائمة، إذ تواجه أجهزة مكافحة الإرهاب وجود مجموعة من الخلايا النائمة المرتبطة بالتنظيمات الإرهابية الأساسية التي كانت ناشطة في وقت سابق كتنظيم “أنصار الشريعة”، فيما يُعرف بظاهرة “الذئاب المنفردة”، تتراوح أعداد منتسبيها وفقًا لبعض التقديرات بما بين 300-400 خلية نائمة، ومن ثم يتعين على الرئيس القادم مواصلة مكافحة الإرهاب ومتابعة تطورات المشهد في كل من ليبيا والسودان والجزائر.
رابعًا- قراءة في النتائج:
في السابع عشر من سبتمبر، أعلنت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات النتائج الأولية للجولة الأولى التي أمكن معها الخروج بعدد من الملاحظات:
1- شارك في العملية الانتخابية 3,3 ملايين ناخب من أصل 7 ملايين ناخب مسجلين، بنسبة مشاركة بلغت 45% وهي النسبة الأقل منذ الإطاحة بالرئيس الأسبق “زين العابدين بن علي”، حيث شهدت انتخابات المجلس الوطني التأسيسي في أكتوبر 2011 مشاركة 52% من الناخبين، كما بلغت نسبة المشاركة في الانتخابات الرئاسية في عام 2014 نحو 64% من إجمالي الناخبين المسجلين. ويأتي هذا التزايد في معدل العزوف الانتخابي ليثير الكثير من الأسئلة بشأن ثقة الناخب التونسي في العملية السياسية برمتها، خاصة مع تعدد مظاهر هذا العزوف التي كان آخرها مشاركة 35% فقط من الناخبين في الانتخابات البلدية التي أُجريت في مايو 2018.
2- في ظل العدد الكبير للمرشحين شهدت نتائج الجولة الأولى تشتتًا كبيرًا للأصوات في ظل تعدد المرشحين الممثلين للتيار السياسي الواحد، حيث شارك أربعة مرشحين مرتبطين بحزب النهضة، مقابل ستة مرشحين يتصلون بحزب “نداء تونس”. وتؤكد هذه الظاهرة أهمية تعديل القانون الانتخابي من أجل فرض شروط أكثر إحكامًا للترشح على منصب الرئاسة من أجل ضمان جدية الانتخابات الرئاسية في المستقبل.
3- أسفرت نتائج الجولة الأولى عن حلول المرشَّحَيْن المستقلين “قيس سعيد” و”نبيل القروي” في المركزين الأول والثاني على الترتيب، بعدما حصل الأول على 620 ألف صوت مثل 18,4% من الأصوات، مقابل 525 ألف صوت للمرشح الثاني مثل 15,6% من الأصوات، ليخوضا جولة الإعادة التي ستحسم مصير رئاسة تونس. ولم يكن تقدم المرشحين المستقلين ظاهرة غريبة في ظل نفور الناخبين من المرشحين الحزبيين على نحو ما ظهر في الانتخابات البلدية الأخيرة التي حصل المستقلون فيها على 44% من المقاعد في المجالس البلدية.
4- إلى جانب “قيس سعيد” و”نبيل القروي” حصل خمسة مرشحين فقط على أكثر من 5% من إجمالي الأصوات وهم على الترتيب: “عبدالفتاح مورو” بنسبة 12,9%، و”عبدالكريم الزبيدي” بنسبة 10,7%، و”يوسف الشاهد” بنسبة 7,4%، و”أحمد الصافي سعيد” بنسبة 7,1%، و”لطفي الرمايحي” بنسبة 6,6%. وتشير هذه النتائج إلى الثمن الباهظ الذي دفعته كل من حركة النهضة وحزب نداء تونس للانقسامات الداخلية التي ظهرت في السنوات الأخيرة، والتي أسفرت عن تعدد المرشحين الرئاسيين عن كلٍّ منهما.
إجمالًا، ساهمت الانتخابات الرئاسية التونسية لعام 2019 في الكشف عن عددٍ من التغيرات الجوهرية في المشهد السياسي التونسي، والتي يتوقع أن تستمر آثارها في التكشف في الانتخابات التشريعية المقبلة التي ستُجرى في السادس من أكتوبر القادم. كما يظل من الصعب توقع النتيجة النهائية لانتخابات الرئاسة في ظل أسبقية عقد الانتخابات التشريعية على جولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية، وهي التي ستلقي بظلالها على التوجهات العامة للناخب التونسي، وكذلك في ظل الوضع القانوني المعقد للمرشح “نبيل القروي” المسجون احتياطيًّا على ذمة قضايا تتعلق بمخالفات مالية.