بعد أن اقتربت المباحثات بين حزبي الليكود وكاحول لافن لتشكيل حكومة وحدة وطنية من النجاح، عادت الأمور مجددًا إلى المربع الأول، حيث أعلن “بنيامين نتنياهو” رئيس الوزراء المؤقت، عن فشل المباحثات قبل يوم واحد من انعقاد جلسة الكنيست الأولى التي كان مقررًا لها الانعقاد يوم الاثنين ٢٣ مارس الجاري.
وحسب تصريحات “نتنياهو”، بحسب التسريبات، فإن محتوى المباحثات كان يدور حول تشكيل حكومة يتم تبادل منصب رئيسها وبعض حقائبها الوزارية بين الحزبين على فترتين، على أن يحصل الليكود في الفترة الأولى ولمدة عام ونصف على مناصب رئيس الحكومة وحقيبة المالية ورئاسة الكنيست، مقابل حصول كاحول لافن على مناصب: نائب رئيس الحكومة، ووزارة الدفاع، ووزارة الخارجية. ثم يتم تبادل المواقع لمدة عام ونصف أخرى بعد انقضاء المدة الأولى.
وأشارت تقارير إسرائيلية عديدة إلى الأسباب التي حالت دون إتمام الاتفاق وإنفاذه عمليًّا، وعلى رأسها رفض “يائير لبيد” (الرجل الثاني في تحالف كاحول لافن) الاتفاق، فهو يرفض أن يتولى منصبًا وزاريًّا تحت رئاسة “نتنياهو”، كما أنه مرفوض من جانب الأحزاب الدينية (شاسويهودة هتوراه) التي لا تقبل المشاركة في حكومة بها وزير مثل “لبيد” يتبنى أفكارًا معادية لهم، ويسعى لفرض التجنيد الإجباري على أتباعهم، مثله مثل “أفيغدور ليبرمان” زعيم حزب إسرائيل بيتينو.
أسباب مثيرة للارتباك
الأسباب المذكورة هنا تثير الارتباك من البداية، إذ إنها تشير إلى أن المفاوضات جرت بين الحزبين دون علم الرجل الثاني في كاحول لافن أو بالرغم منه، كما لا توضح التسريبات حول هذه المباحثات هل كانت تدور حول تشكيل ائتلاف من الليكود وكاحول لافن فقط؟ أم إن “نتنياهو” كان يتفاوض نيابة عن كتلة اليمين؟ وبالتالي فإن الائتلاف الذي كان يعمل عليه كان سيضم أيضًا حلفاءه (الأحزاب الدينية، وحزب يمينا). أيضًا لم يكن واضحًا مصير العام الأخير من الائتلاف الذي يفترض نظريًّا أن يستمر أربع سنوات والكيفية التي ستوزع بها المناصب خلاله بين الحزبين.
واقع الأمر، أن كلًّا من الليكود وكاحول لافن قد دخلا هذه المفاوضات وليست في نية أي منهما التوصل لاتفاق فعلي، خاصة كاحول لافن. الأخير دخل المفاوضات في ظل رفض اثنين من نوابه من البداية الحصول على تكليف تشكيل الحكومة بدعم من القائمة العربية المشتركة، كما أنه كان من المعروف مسبقًا أن “يائير لبيد” (نائب جانتس) لم يكن مستعدًّا للمشاركة في ائتلاف يقوده “نتنياهو” حتى لو كان سيحصل على إحدى الحقائب السيادية (الدفاع، الخارجية، المالية)، وهذا يعني أن “بيني جانتس” ربما كان يخطط لخداع “نتنياهو” وكتلته بالتظاهر بأنه مستعدٌّ للتفاهم معهما، في الوقت الذي كان يسعى فيه بقوة في مسار آخر يستهدف الانفراد بتشكيل اللجان النوعية في الكنيست، وحرمان كتلة اليمين من رئاسة أي منها، خاصة اللجنة القضائية التي يمكن أن يتم استغلالها لتمرير قانون يمنع أي عضو كنيست يتعرض لمحاكمة -بموجب اتهامات محددة- من إمكانية الترشح لتشكيل الحكومة، مثلما هو وضع “نتنياهو” حاليًّا، والذي تم تأجيل إجراءات محاكمته -بتهم الرشوة والفساد- لمدة شهرين بسبب حالة الطوارئ التي تعيشها إسرائيل على خلفية تهديد وباء كورونا. ويرجح هذا الاحتمال تصريح “جانتس” قبل يوم واحد من انعقاد الكنيست، أو حسبما ذكر تقرير لصحيفة Jerusalem Post الأحد الماضي بقوله: “لم نصل إلى أي اتفاق مع من لا يتعامل بجدية ويقوم بتسريب أنباء ضارة، وأقول له لا تحاول إفساد نظامنا الديمقراطي ومواطنينا بالسعي لإصابة الكنيست بالشلل”.
هذا يعني أن “جانتس” كان يتحسب لاحتمال أن يكون “نتنياهو” يسعى فقط لتأمين انعقاد الكنيست وضمان تقاسم اللجان النوعية، ومنع تمرير أي قانون يمكن أن يحول بينه وبين الترشح لرئاسة الحكومة مستقبلًا.
الشك في نوايا “نتنياهو” له تاريخ طويل، سواء من جانب حزب “يش عتيد” الذي كان يرأسه “يائير لبيد” -قبل التحالف مع بيني جانتس تحت راية كاحول لافن- أو من جانب أحزاب مثل حزب كاديما الذي كانت ترأسه “تسيبي ليفني” عام2013 . ومن ثم يبدو مفهومًا لماذا أعلن الليكود عن مقاطعته جلسة الكنيست الافتتاحية بعد أن تم التأكد من دفع “جانتس” الأمور نحو استبعاد رئيس الكنيست الموالي لـ”نتنياهو” (يولي أدلشتين) وتقسيم اللجان بشكل احتكاري اعتمادًا على الأغلبية التي تحظى بها المعارضة (62 مقعدًا).
ورغم نفي “جانتس” التوصل إلى أي اتفاق مع “نتنياهو”؛ إلا أن الأخير ما يزال يعمل على محاولات مكشوفة لزرع الشقاق داخل كاحول لافن، بمهاجمته “يائير لبيد” واتهامه بأنه السبب في منع “جانتس” من توقيع الاتفاق الذي كان قد تم التوصل إليه لتشكيل حكومة وحدة وطنية. ويسيطر “لبيد” كزعيم لحزب يش عتيد الذي أقام تحالفًا مع “بني جانتس” دون إعلان عن حل حزبه، على ثلث نواب تحالف أزرق أبيض. و”لبيد” معروف بكراهيته للأحزاب الحريدية الشريكة الأساسية لـ”نتنياهو” في جبهة اليمين. ولو نجح “نتنياهو” في مسعاه لأصبح من السهل ضم النواب التابعين لـ”جانتس” (22 نائبًا)، وبذلك يستطيع تأمين ائتلاف قوي بـ70 نائبًا في الكنيست.
غير أن مثل هذا السيناريو يبدو صعب التحقق، خاصة مع انعدام الثقة بين “جانتس” و”نتنياهو”، وحتى هذا الأخير لا يضمن وقوف كل شركائه في جبهة اليمين معه حال التصويت في انتخابات اللجان النوعية (23 لجنة)، حيث رفض حزبا يمينا ويهدوت هتوراه التوقيع على وثيقة تعهد بالولاء لنتنياهو وضعها حزب الليكود، حسبما أفاد موقع “واللا الإخباري” الأحد الماضي (22 مارس 2020).
وبحسب ما ورد في الموقع، طُلب من حلفاء “نتنياهو” أن يتعهدوا بإيقاف أي مفاوضات لتشكيل حكومة وحدة إذا قام أزرق أبيض بتعيين رئيس للكنيست ليحل محل “إدلشتين”.
تعطل محاولات تشكيل الحكومة ربما تقود إلى الذهاب إلى انتخابات رابعة، والتي يبدو أنها لم تعد سيناريو مخيفًا بالنسبة لأعداء “نتنياهو” الذين يفضلونها على أي احتمال يتضمن بقاءه (أي نتنياهو) في الساحة السياسية اليوم وغدًا.
في يوم الأحد الماضي حذر الليكود في بيان له من أن التصويت على استبدال رئيس الكنيست سيحكم علينا جميعًا بانتخابات رابعة. ولكن الرد جاء سريعًا من “يوفال ديسكين” رئيس جهاز الشاباك (الأمن الداخلي) الأسبق بقوله: “يبدو من الأفضل لإسرائيل أن تذهب إلى انتخابات رابعة في أقل من عام ونصف العام وفي أثناء مواجهة كارثة وباء كورونا، خيرًا من بقاء نتنياهو فترة أطول في منصبه، وناشد ديسكين زعيم كاحول لافن بيني جانتس بألا يوافق على تشكيل حكومة يتناوب رئاستها مع نتنياهو”.
البدائل التي يمتلكها “جانتس”
برفضه عرض “نتنياهو”، يبدو “بيني جانتس” مستعدًّا للمغامرة بأن تمضي المدة الممنوحة له من رئيس الدولة لتشكيل الحكومة دون أن ينجح في تحقيق هذه المهمة. وإذا لم يتمكن “جانتس” وحلفاؤه (أحزاب اليسار والقائمة العربية وحزب إسرائيل بيتينو) من تمرير قرار من داخل الكنيست يمنع رئيس الدولة من إسناد محاولة تأسيس الحكومة لنتنياهو، فالخيار الوحيد أمامه سيكون إما تشكيل حكومة تضم كل الأحزاب من خارج كتلة اليمين والتي تمتلك مجتمعة 62 مقعدًا في ظل مخاطر حقيقية بأن تنهار هذه الحكومة بأسرع مما يمكن تصوره نتيجة عدم تجانسها، إذ ستضم أحزابًا من اليسار والوسط واليمين ومدعومة بالقائمة العربية من خارج الائتلاف. وإما أن يضطر “بيني جانتس” نتيجة صعوبة تشكيل مثل هذه الحكومة أو بقائها لفترة معقولة، إلى تقديم تنازلات لليكود والقبول بتشكيل حكومة معه، أو أن يمضي بإسرائيل لانتخابات رابعة.
بالنسبة لـ”نتنياهو” يبدو القدر وكأنه يقف إلى جواره، حيث جاء قرار تأجيل محاكمته بسبب ظروف القيود المفروضة على البلاد جراء وباء كورونا بمثابة عصا الإنقاذ له، كما أنه في ظل عدم اليقين بإمكانية تمرير قانون داخل الكنيست (حتى الآن على الأقل) يمنعه من تلقي التكليف بمحاولة تشكيل حكومة في حالة فشل جانتس، فإن نتنياهو سيبقى في منصبه لمدة شهرين على الأقل كرئيس حكومة لتصريف الأعمال، وهو وضع يمنحه مزيدًا من الأوراق لمواجهة خصومه. وحتى إذا ما مر مثل هذا القانون الذي يسعى “جانتس” ورفاقه لتمريره في الكنيست، فإن “نتنياهو” ربما لن يستسلم وسيحاول الذهاب إلى المحكمة العليا للطعن على مثل هذا القرار، وهو إجراء قد يؤخر عملية منعه من تلقي خطاب التكليف من قبل رئيس الدولة.
وإذا ما تحقق هذا السيناريو فإن ما فعله نتنياهو عندما تذرع بوباء كورونا للحد من حرية الكنيست، يمكن أن يكرره إذا ما استمر خطر انتشار كورونا قائمًا لعدة شهور قادمة (يتنبأ البعض بأن تعافي العالم من الوباء قد لا يتحقق قبل يونيو القادم أو بعده بقليل)، وذلك بمحاولة تأجيل الانتخابات نفسها حتى بعد الإعلان عن موعدها. ولا يمكن استبعاد مثل هذا الاحتمال في ظل أن بعض التقارير في الولايات المتحدة نفسها ناقشت احتمال أن يسعى “ترامب” في حالة استمرار خطر كورونا إلى طلب استثنائي بتأجيل الانتخابات الرئاسية الأمريكية المحدد لها شهر نوفمبر المقبل، إذ سيكون بوسع نتنياهو الذي يروج خصومه أنه معادٍ للديمقراطية ويسعى لتعطيلها، الرد على ذلك بالاستشهاد بالحالة الأمريكية التي لا يمكن التشكيك في مؤسساتها ولا الزعم بأنها تخضع لإرادة فرد في السلطة أيًّا كان موقعه.