في عام الانتخابات الأمريكية ٢٠٠٨، كان صعود باراك أوباما مفاجئًا وصادمًا في كل دوائر السياسة العربية والعالمية بعد أن توقع الكثيرون أن يكون فرس الرهان هو جون ماكين. وسمعت من دبلوماسيين مصريين وعرب أثناء الحملة وقبل وقت قليل من الانتخابات في نوفمبر من العام نفسه كلامًا مقللًا من شأن المرشح الديمقراطي الواعد، وجاءت عبارات من نوعية أن الولايات المتحدة لن تسمح بانتخاب “أسود”، أو أن اسمه وأصوله المسلمة ستحول دون انتخابه، وهو ما كنت أقابله دائمًا باستغراب وصمت في معظم الأحوال لأن ترديد مقولات شائعة دون الدخول في عمق ما يجري من تغييرات هو بداية الفشل في التقديرات وعدم قدرة على بناء رؤية حقيقية إزاء منعطفات محورية في تاريخ الدولة العظمي الأولى في العالم وصاحبة اليد الطولى في العلاقات الدولية حتى اليوم.
اليوم، في تلك المرحلة الدقيقة من تقلبات السياسة الأمريكية، أشتم رائحة استهانة بفرص جوزيف بايدن المرشح الديمقراطي -أيضًا- السيناتور ونائب الرئيس أوباما، وهناك أسباب عديدة لسريان تلك الحالة في الأوساط السياسية المصرية والعربية، منها غلبة الأمنيات على آراء سياسيين وخبراء في ملف العلاقات مع الولايات المتحدة نتيجة المواقف المتناقضة إزاء الوضع في مصر بعد ثورة الشعب المصري في ٣٠ يونيو ٢٠١٣، والتي خلقت مساحة كبيرة من سوء الفهم بين الإدارتين المصرية والأمريكية، وعلامات استفهام أكبر حول موقف جناح مسيطر داخل الحزب الديمقراطي والتيار الليبرالي من قوى الإسلام السياسي، وتلاقي أفكارهم مع نوايا وأهداف قوى مساندة لجماعة الإخوان المسلمين وعلى رأسها السلطة الحاكمة في قطر وتركيا.
ومن الأسباب الأخرى في هذا السياق، أن سياسات الجمهوريين الحالية تبدو أكثر استيعابًا للمخاوف والمحاذير التي تبديها حكومات عربية، على رأسها مصر والسعودية والإمارات، تجاه تيارات الإسلام السياسي، وهو موقف يمثل منعطفًا مهمًّا في السياسة الأمريكية عبر عنه دبلوماسي أمريكي رفيع المستوى مؤخرًا بالقول: “إن الولايات المتحدة تحتاج إلي مراجعة مواقفها والتكفير عن أخطاء الانحياز للإسلاميين في فترات سابقة”.
صحيفة “نيويورك تايمز” قالت مؤخرًا: إن جو بايدن “يبحث عن أفكار ديمقراطية كبيرة”، وأنه مع حلفائه في الكونجرس يسابق الزمن من أجل صياغة “أجندة حكم جديدة” أكثر جرأة بكثير من أي شيء صاغته مؤسسة الحزب الديمقراطي من قبل”. وتشمل الأجندة الموسعة لحملة بايدن تقديم أفكار بشأن استثمارات جديدة ضخمة في الأشغال العامة والاقتصاد الأخضر، وتوسيع الرعاية الصحية ورعاية الأطفال، وحماية أكبر للعمال ومشاركة أكبر لهم في عوائد الشركات، فيما تتواصل المناقشات داخل دوائر السياسة الديمقراطية حول تحسين معدلات الدخل، وضمان الوظائف الفيدرالية، وقانون الضرائب المعدل، فضلًا عن الجهود المبذولة لإعادة بناء قاعدة التصنيع الأمريكية. ويرى محللون بارزون في معاهد بحثية مرموقة أن تفاصيل السياسة الخارجية تغيب عن خطط “بايدن”، ووصف جابرييل ديبيدينيتي في مجلة نيويورك خطط بايدن للرئاسة بأنها “أكثر طموحًا من خطط روزفلت”، لكنها تجنبت إلى حد كبير الشئون الدولية.
وقد قامت حملة جو بايدن بتعديلات عديدة لأجندة السياسات الخاصة بحملته وبرنامجه الرئاسي في الفترة الأخيرة بعد جائحة فيروس كورونا COVID-19. ومع الحاجة إلى كسب تأييد ناخبي المرشح التقدمي بيرني ساندرز، حيث تتبني حملته اليوم أجندة محلية أكثر طموحًا، في ظل أدلة محدودة جدًّا على اهتمام المرشح الديمقراطي بصياغة أجندة للسياسة الدولية على نحو مماثل للأجندة الداخلية رغم أن علاقة بلاده بالعالم تحتاج إلى إعادة تفكير وتعديلات جوهرية في المرحلة المقبلة.
وكانت حملتا بايدن وساندرز قد شكلت “ست فرق عمل موحدة” لحشد الديمقراطيين حول أجندة تدمج ما بين رؤية بايدن وما طالب به ساندرز قبل خروجه من السباق الديمقراطي، تضم فرق العمل أسماء كبيرة مثل ألكسندريا أوكاسيو كورتيز، وجون كيري، والمدعي العام السابق إريك هولدر، فيما تغطي قضايا مهمة مثل تغير المناخ، وإصلاح العدالة الجنائية، والاقتصاد، والتعليم، والرعاية الصحية، والهجرة، إلا أن السياسة الخارجية ليست على القائمة، حتى الآن على الأقل.
الملامح الأولى لصياغة سياسة خارجية لحملة بايدن غير مبشرة، حيث لم يضع المختصون حوله -ومعظمهم من الذين عملوا معه في البيت الأبيض في إدارة أوباما وينتشرون اليوم في مراكز بحثية ليبرالية وجامعية مرموقة- رؤية واضحة، وتكمن المشكلة في أن فريق بايدن السياسي يبدو مقتنعًا أن الحملة التقدمية في الأجندة المحلية ستعزز من فرص انتخابه، لكن تصميم أجندة دولية تقدمية يمكن أن تضعه في مرمي نيران حملة ترامب، وهو ما يفسر فشل جو بايدن في استخدام وباء كورونا للإعلان عن سياسة خارجية مختلفة جذريًّا.