استدعاء التاريخ ومظلومية ما سمي بسلب حق الشعوب الإثيوبية في مياه نهر النيل لا يبدو محض صدفة في الخطاب السياسي والإعلامي الدعائي الإثيوبي في قضية سد النهضة، حيث ترتكز الطبقة السياسية الحاكمة على توظيف التاريخ القديم للشعوب الإثيوبية بحثًا عن المشترك من أجل توحيد الصفوف، وإعطاء سد النهضة مكانة التحول التاريخي العظيم في مسيرتهم، وهو ما يعطي الطبقة السياسية المتحالفة من مختلف القوميات متنفسًا في بلد مأزوم سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا بغض النظر عن حقوق الآخرين فيما يروج له الإثيوبيون أنفسهم في خطابهم للعالم الخارجي عن “الاقتسام العادل للموارد المائية” مع الدول الشريكة في حوض النيل.
في مقال بصحيفة “أديس ستاندرد” يقول الكاتب يشيواس ديجو بيلاي: “واحدة من الأغاني الإثيوبية الأكثر شهرة والخالدة والتي تسمى عدوة ADWA، يردد المطرب إيجيجيهو شباباو الملقب بـ(جيجي) صدى بطولة الإثيوبيين في القرن التاسع عشر، والأهمية الرمزية والثقافية والسياسية، ليس فقط للإثيوبيين ولكن أيضًا للسود ككل، إنه انتصار إفريقيا العظيم، عدوة”. وفي الثاني من مارس 1896، هزم الإثيوبيون الجيش الإيطالي في معركة عدوة في شمال إثيوبيا.
المقاربات التاريخية في الخطاب الإعلامي الإثيوبي
يضيف كاتب المقال المشار إليه: “لقد حمى الانتصار استقلال الدولة في خضم التدافع الأوروبي على إفريقيا، وشكل قوة أيديولوجية مهمة للنضالات الإفريقية المتتالية في القارة وخارجها”. يقولون في إثيوبيا إن قرية “عدوة” هي معلم تاريخي يجسد الثقافة والهوية الشعبية على الرغم من الانقسام والتفسيرات التاريخية. وعندما احتفلت إثيوبيا بالذكرى 124 لانتصارها على الإيطاليين، كانت آلة الدعاية المحلية تربط بين الحادثة التاريخية وبين قدرة البلاد على استكمال بناء سد النهضة وبدء الملء الأول في استراتيجية واضحة للربط بين المظلوميات التاريخية وبين بناء السد الذي تروج الطبقة السياسية بكل أطيافها له باعتباره يعيد حقوقًا تاريخية لبلادهم بعد أن “هيمنت” دولة المصب على مياه النيل لمئات السنين، وهو ما تجلى في قول كاتب المقال المشار إليه: “ليس من المبالغة أن نقول إنه لم يتم ربط أي مشروع تنموي آخر بشكل لا يصدق بماضي إثيوبيا غير سد النهضة، الذي يمثل حجر الزاوية في تنمية إثيوبيا. ويعتبر انتصار العدوة حدثًا نموذجيًا يمكن نقله من خلال المثل العام.. على الرغم من الانقسام على أسس سياسية متعددة، إلا أن الإثيوبيين كانوا متوحدين -وما زالوا موحدين عندما يتعلق الأمر بجوهر المصلحة الوطنية- وضربوا الجيش الإيطالي الآلي الضخم الذي كان يهدف إلى السيطرة على السيادة ومصالحها. بعد أكثر من قرن من الزمان، لا يزال الموقف الموحد ضد الاستعمار في أذهان صناع القرار ووسائل الإعلام الوطنية وعامة الناس اليوم. إن مثل هذا الوعي التاريخي لا يهدف فقط إلى التفكير في الشئون الجارية بأثر رجعي، ولكن أيضًا لتحقيق مساعي التنمية المعاصرة”.
ومنذ تدشين سد النهضة رسميًا في أبريل 2011 على نهر النيل الأزرق -لتوليد 6500 ميجاوات من الكهرباء- أطلقت إثيوبيا حملات داخلية وخارجية لتسويق المشروع الوطني الكبير. اعتمدت هذه الحملات على إذكاء الروح الوطنية، والمبالغة في التجارب الثقافية والتاريخية التي كانت علامات فارقة من أجل النهوض بالبلاد. وقالت رئيسة البلاد سهلي وورك زودي: “يجب أن يتكرر انتصار العدوة في كفاحنا ضد الفقر لخلق إثيوبيا مزدهرة”. وفي سبيل استكمال المشروع، كانت فكرة حشد المواطنين في عملية التبرع للبناء في الداخل وبين المهاجرين الإثيوبيين والدعاية والشحن المعنوي الهائل على وسائل الإعلام الاجتماعي على مدى قرابة عشر سنوات، عناصر أساسية من أجل خلق صورة الوطن الذي ينتزع حقوقه من أنياب “الدولة المهيمنة” على مياه النيل. وتشير كتابات عديدة إلى أن سد النهضة يقدم الوجه المتغير لإثيوبيا بما يناقض الصور النمطية التي تم نشرها عبر وسائل الإعلام العالمية التي ترى إثيوبيا دولة فقيرة تفتقر إلى القدرة على تنفيذ المشاريع الضخمة.
تحولات ما بعد جولة واشنطن
بدأت نبرة شحن الرأي العام الإثيوبي في الداخل والخارج ترتفع بشكل ملحوظ بعد وساطة واشنطن في فبراير ٢٠٢٠ والتي امتنع الإثيوبيون عن التوقيع على اتفاقها في اللحظة الأخيرة بدعوى انحيازها لمصر، حيث علت أصوات تتحدث عن “السيادة الوطنية”، وعدم الخضوع لأي ضغوط مهما كانت من دول كبرى صديقة. وفي سبيل مواصلة الحشد المادي والمعنوي بين المواطنين في الداخل الإثيوبي وبين الإثيوبيين في المهجر، تنطلق الاستراتيجية الإثيوبية من أرضية واضحة لتحميل وسائل الإعلام في مصر ووسائل الإعلام الدولية مسئولية تقديم إثيوبيا بصورة تراها مغايرة للواقع فيما يخص المنطلقات التي قامت على أساسها ببناء سد النهضة.
الإعلام الإثيوبي لا يرى في نهج وسائل الإعلام المصرية إلا كونها “آلة دعاية للدولة”، وأن وسائل الإعلام الدولية التي من المتوقع أن تكون موضوعية ومحايدة (مثل: بلومبرج، ونيويورك تايمز، والإندبندنت، وواشنطن بوست، وراديو صوت أمريكا VoA)، بطريقة أو بأخرى، حسب كتاب إثيوبيين، تصور إثيوبيا على أنها تتصرف من جانب واحد في الإعلان عن ملء السد دون اتفاق، وتتعمد -حسب وصف الإعلام الإثيوبي- خلق حقائق جديدة على الأرض، وأن إثيوبيا قد تغيبت عن آخر اجتماع في واشنطن عن عمد، وأنها تخطط لتصبح دولة مهيمنة على موارد نهر النيل. من ثم، تتعمد وسائل الإعلام الإثيوبية الحديث عن أن مثل تلك المعالجات الصحفية تؤدي إلى “تحريف الحقائق”، وتعمل لصالح مصر وتضر إثيوبيا، ولا تلتفت إلى أي مراجعات أو وجهات نظر أخرى في القضية المصيرية بالنسبة لدولة المصب.
المجتمع المدني الإثيوبي في المهجر
بالتوازي مع الحملات الإعلامية على وسائل التواصل الاجتماعي لدعم الموقف الإثيوبي، تدعم الحكومة الإثيوبية ما يمكن تسميته بـ”الشراكة مع المهجر” بعد أن نجحت الحملات الدعائية لسد النهضة في تأمين استثمار ٥٦ مليون دولار من أموال الإثيوبيين في الخارج من إجمالي ٤.٧ مليارات دولار هي تكلفة البناء. وتشير أرقام بنك التنمية الإثيوبي إلى ارتفاع مبيعات “سندات” سد النهضة بشكل ملحوظ فور الإعلان عن بدء الملء الأول.
وتقوم جمعية الإثيوبيين في المهجر Ethiopian Diaspora Association بتحفيز أبناء الجاليات الإثيوبية على المشاركة في تمويل سندات السد، وفي الدعم الدبلوماسي عبر التواصل مع دوائر صنع القرار في دولهم. ويقول إبراهام سيوم، المدير التنفيذي للجمعية، إن “نهر النيل لا يجب أن يحمل أجندة سياسية، بل يجب أن يتصل بالانتفاع من موارد المياه بشكل عادل وعقلاني”. فيما يقوم مكتب المجلس الوطني لتنسيق المشاركة الشعبية حول بناء السد بالتعاون مع منظمة أهلية أخرى Lift Ethiopia بالتنسيق في عقد مناسبات دولية تهدف إلى دعم الموقف الإثيوبي في قضية سد النهضة وتوجيه رسائل للعالم الخارجي. ومن ضمن هذه الفعاليات فعالية بعنوان One Voice for Our Dam التي روجت لمبدأ “الاستخدام العادل للموارد المائية ومحاربة الفقر”.
كما ظهرت عدة جمعيات وتنظيمات، خاصة في الولايات المتحدة، تروج للموقف الإثيوبي وتنامَى وجودها بشكل ملحوظ خلال الربع الأول من عام ٢٠٢٠ مثل منظمة العدالة من أجل الإنسانية Justice for Humanity التي بدأت حملات في الولايات المتحدة وكندا للضغط على إدارة دونالد ترامب من أجل تصحيح ما أسمته “الموقف الأمريكي المنحاز” وإدانة الضغوط غير العادلة من الإدارة الأمريكية على إثيوبيا، والترويج للاستخدام العادل والمنفعة المتبادلة وتوضيح الموقف على الساحة الدولية.
وتركز تلك الجمعيات والتنظيمات المدنية الجديدة على الجيل الثاني من المهاجرين الإثيوبيين في الولايات المتحدة وكندا وأوروبا لتوصيل رسائل لدوائر صناعة القرار -وداخل الكونجرس الأمريكي تحديدًا- بأن هناك تغييرات كبيرة تجري إثيوبيا وفي منطقة القرن الإفريقي تستحق المساندة، خاصة في مجالي التنمية ومحاربة الفقر. ومن ثم، تعتمد التحركات الإثيوبية بين أبناء المهجر على توظيف قوة الشباب وتحريكهم على مواقع التواصل الاجتماعي لمخاطبة دوائر صناعة القرار في الخارج والترويج لرواية بعينها من وجهة نظرهم. على جانب آخر، تركز تلك الجمعيات والتنظيمات على مواجهة ما اسمته المعلومات “المضللة” وعدم إدراك الرواية الحقيقية فيما يخص السلوك الإثيوبي في بناء سد النهضة. وتقول “هيوان سولومون” -منسقة “العدالة من أجل الإنسانية” في الولايات المتحدة- “لو علم الآخرون من الأصدقاء والحلفاء ومواطني الدول الأخرى القصة الحقيقية، فسوف يقاتلون بجانبنا”. وقد وقعت ١٥ منظمة إثيوبية في المهجر على إعلان المنظمات المدنية في الخارج في ٢٧ يونيو 2020. وتضم تلك المنظمات فروعًا في عدد من الولايات الأمريكية ومنها شيكاجو ولوس أنجلوس ولاس فيجاس وأريزونا وأوريجون وجنوب غرب واشنطن ولوس أنجلوس.
هذا الاهتمام الإثيوبي الكبير بالتركيز على توجيه الخطاب الإعلامي يأتي لتحقيق أغراض متعددة، بغض النظر عن مدى صحة هذا الخطاب والتزامه بالواقع. فمن ناحية، فإن هذا الخطاب يؤمّن توفير الدعم المالي لتمويل السد عبر حملات بيع السندات للإثيوبيين في المهجر الذين يتمتعون بقدرات اقتصادية تفوق أقرانهم في بلدهم الأصلي. ومن ناحية ثانية، يوفر هذا الخطاب قدرًا كبيرًا من الدعم المعنوي للمشروع يسمح بالترويج له باعتباره قضية وطنية يُجمع عليها الإثيوبيون في الداخل والخارج. من ناحية ثالثة، يسمح هذا الخطاب لإثيوبيا بممارسة ضغوط متزايدة على صانعي السياسة الخارجية في الولايات المتحدة وأوروبا وهي الدول التي أصبحت تقوم بأدوار مهمة في عملية التفاوض.