فيتنام هي واحدة من أهم قصص النجاح في التعامل مع أزمة كورونا، رغم التغطية الإعلامية المحدودة التي يتم تسليطها على هذا البلد. والمثير أن فيتنام التي نجحت في السيطرة على الوباء بنجاح مشهود، هي أيضًا واحدة من أهم التجارب التنموية في العالم، بما يؤكد أن النجاح لا يأتي مصادفة، وأن النجاح يجلب المزيد من النجاح.
تقع فيتنام في جنوب شرق آسيا، ولها حدود مباشرة مع الصين، كما أنها تستقبل الكثير من الاستثمارات الصينية والمسافرين القادمين من الصين. ومع هذا فإن فيتنام سجلت حتى 9 من أغسطس الجاري (2020) 841 حالة إصابة فقط بفيروس كورونا، في حين سجلت 13 حالة وفاة فقط بهذا الفيروس، وتم شفاء 399 حتى ذلك التاريخ. حدث هذا في بلد نامٍ يعاني نظامه الصحي من نقص كبير في الإمكانيات، ولا تتوافر فيه الموارد اللازمة لتطبيق اختبار الإصابة بالفيروس على عدد كبير من السكان، كما يفتقر للوسائل التكنولوجية المتقدمة التي تسمح له بمراقبة حركة السكان، من أجل السيطرة على انتشار الفيروس.
سر نجاح فيتنام في السيطرة على فيروس كورونا هو التحرك المبكر، واتخاذ الإجراءات المتناسبة مع إمكانيات البلاد. يدرك المسئولون في فيتنام الإمكانيات المحدودة لنظام الرعاية الصحية، وقدر الخبراء هناك أن استقبال 1000 مصاب لعلاجهم من تطورات فيروس كورونا في مستشفيات فيتنام سيضع النظام الصحي في فيتنام تحت ضغط يصعب التعامل معه؛ وعلى هذا الأساس وُضعت خطط التحرك التي تستهدف منع الزيادة في عدد المصابين.
بدأت السلطات في فيتنام في التحسب للأمر مع ظهور الوباء في الصين في شهر ديسمبر 2019. وفي الثالث والعشرين من يناير 2020، تم الإعلان عن أول إصابة بالفيروس في فيتنام، وكانت لمواطنَيْن صينيين قادمين من ووهان. وبدءًا من هذا التاريخ تم تفعيل مركز الطوارئ للحماية ضد الأوبئة، وتم إلغاء الرحلات الجوية المتجهة إلى والقادمة من ووهان.
وفي الأول من فبراير تم إعلان إصابة أول مواطن فيتنامي، مما دفع رئيس وزراء فيتنام لإعلان البلاد في حالة وباء، وتم تقييد الحركة على معابر الدخول إلى البلاد، ووضع القيود على استقبال الطائرات، ومنح تأشيرات الدخول للأجانب.
ورغم إمكانيات الرعاية الصحية المحدودة، إلا أن فيتنام لديها معامل وإمكانيات بحثية متطورة، الأمر الذي يفسر نجاحها في السابع من فبراير. وحافظت فيتنام على عدد إصابات 415 لأكثر من 100 يوم كاملة دون إصابات جديدة أو وفيات حتى يوليو الماضي، حين بدأت بعض الحالات في الظهور مرة أخرى كان أولها لرجل تعدى عمره 55 عامًا، ومن ثم بدأ تشديد الإجراءات من جديد.
طبقت فيتنام واحدًا من أشد إجراءات الإغلاق المدرسي، حيث تم إغلاق المدارس ورياض الأطفال منذ الأول من فبراير، وظلت مغلقة حتى منتصف شهر مايو، الي أن عادت الدراسة في حوالي 18 مقاطعة فيتنامية في بعض المدارس الثانوية، واستمر العمل على إعادة استئناف الدراسة في باقي المقاطعات والمدارس الابتدائية والحضانات بما فيها العاصمة هانوي تباعًا. كان التحدي أنه لا يوجد في فيتنام بنية تحتية تسمح بالتعليم عن بعد، ولهذا قررت السلطات تمديد العام الدراسي وتأجيل الاختبارات لتعويض فترة الإغلاق الطويل. وفوق ذلك، تم حظر كافة الأنشطة خارج المنازل، وهو الإجراء الذي قام الجيش الفيتنامي بفرضه بانضباط شديد، لفترة تجاوزت الأربعين يومًا، وما زالت تطبق إجراءات التباعد الاجتماعي بصرامة، بالإضافة إلى حملة التوعية المستمرة للشعب من خلال نظام المتابعة على التليفون المحمول.
كما ذكرنا في بداية المقال، فإن النجاح لا يأتي مصادفة، وأن النجاح يستدعي النجاح؛ ففيتنام هي واحدة من قصص النجاح الاقتصادي الملفتة للنظر في القرن الحادي والعشرين حتى الآن، وقبل جيل واحد فقط كانت فيتنام واحدة من أفقر دول العالم التي خيمت عليها عقود من الصراع والفوضى وعدم الاستقرار السياسي، واقتصاد خنقه نظام تخطيط مركزي. أما الآن، وبعد 3 عقود من النمو السريع المخطط والمستمر دون انقطاع، برزت فيتنام كاقتصاد متوسط الدخل مزدهر يدق المستثمرون الأجانب أبوابها، مطالبين بالمشاركة والمساهمة في ازدهارها المتزايد، ويتبادل العالم تجربتها كنموذج رائد للتنمية المستدامة والنمو الاقتصادي.
ما قبل بداية الإصلاح والنهضة
مرت فيتنام بعقود طويلة من الحروب والصراعات، ففي عام 1941، شنت “حركة التحرر الشيوعية القومية” المعروفة باسم “فيت منه” Việt Minh تحت قيادة “هو شي منه”، حربًا من أجل الاستقلال عن فرنسا، وكذلك مقاومة الاحتلال الياباني. انتهت هذه الحرب عام 1954 بانسحاب فرنسا، وتقسيم فيتنام إلى دولتين. وفي عام 1957 بدأت الحرب الداخلية بين الشمال والجنوب، وتدخلت الولايات المتحدة في هذه الحرب لمنع انتصار فيتنام الشمالية ذات النظام الشيوعي. وتضخم التواجد العسكري الأمريكي في فيتنام حتى بلغ 550 ألف جندي، لكن الولايات المتحدة أُجبرت على الانسحاب في عام 1975، بعد أن تكبدت 58 ألف قتيل و300 ألف جريح. وتم توحيد فيتنام، لكن بعد أن تحولت إلى وطن مدمر سقط منه أكثر من مليوني قتيل معظمهم من شمال فيتنام، وثلاثة ملايين جريح و13 مليون مشرد من الشمال يمثلون نصف البلاد آنذاك. ولم يبق في البلاد مبنى سليمًا، ولا جسر قائمًا، ولا مصنع ولا منشأة، بل لم تكن بها شجرة قائمة ولا أرض تصلح لشيء بعدما مسح الأمريكيون كل مقومات الحياة للنبات والحيوان على أرضها، بإلقاء 100 ألف طن من النابالم الحارق، و11 مليون جالون من المبيد الحشري القاتل للحياة والنباتات الذي عرف باسم “السائل البرتقالي”، إضافة إلى إلقاء 21 مليون قنبلة و14 مليون طن من القذائف المتنوعة.
في عام 1978 اشتعلت الحرب بين فيتنام من ناحية، وكمبوديا والصين من ناحية أخرى؛ فاجتاحت فيتنام دولة كمبوديا وظلت قواتها هناك طوال الأحد عشر عامًا التالية. ونتيجة ذلك قامت الصين عام 1979 بغزو فيتنام في حرب قصيرة راح ضحيتها 60 ألف قتيل من الجانبين، وأصبحت فيتنام بين فشل في الداخل، وعزلة دولية وحروب مضنية في الخارج.
تدشين فيتنام لتجربتها النهضوية
في عام 1986 أطلقت فيتنام مشروعها النهضوي في اجتماع للحزب الشيوعي الحاكم، وأعلن ما أسماه “سياسة التجديد”، وتحديث هياكل الدولة، وقرر تبني سياسية التحول من الاقتصاد المخطط إلى اقتصاد السوق، وتم إدخال الإصلاحات الرئيسية بدءًا من موازنة 1988-1989، وكانت أهم ملامحها ما يلي:
– الحد من الدعم الذي تقدمه الدولة، وتنويع ملكية الأصول المملوكة ملكية عامة.
– تشجيع وتحفيز تنمية المؤسسات الخاصة والأفراد والقطاعات الاقتصادية.
– الاستغلال الأمثل للموارد من أجل تنمية الإنتاج وتبادل السلع.
– وضع سياسات من أجل دمج فيتنام في الاقتصادات العالمية والإقليمية.
– زيادة أنشطة التجارة الخارجية وتشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر.
– اتخاذ إجراءات في مجال الإصلاح الإداري جنبًا إلى جنب مع الإصلاحات المتخذة في مجال السياسة الاقتصادية.
– الجمع بين التنمية الاقتصادية والاجتماعية من أجل تحقيق الاستقرار السياسي والاستقرار الاجتماعي.
وبالفعل أصبح عام 1989 عام النهوض الحقيقي لفيتنام، وتم تنفيذ الإصلاح الأكثر أهمية وهو إعادة الملكية الخاصة للأرض الزراعية، فازدهر نمط الزراعة الأسرية، فزاد الإنتاج الزراعي على الفور بنسبة 20%، وتم تحقيق الاكتفاء الذاتي من السلع الغذائية الرئيسية، وعلى رأسها الأرز. واستطاعت فيتنام تصدير كميات كبيرة من هذه السلعة الغذائية الرئيسية، لكن المهم هو أن هذا التحول كان إيذانًا بسياسات الحد من العزلة الدولية، وانفتاح التجارة الخارجية، وفتح السوق وتحسين العلاقات الدولية من أجل السلام والتنمية.
ولم يكن طريق الإصلاح سهلًا، فقد شهدت الفترة (1991-1998) بداية مرحلة النمو الاقتصادي، وتحقيق الاكتفاء الذاتي من الزراعة، ثم أنطلقت خطوات التنمية، وبلغ معدل النمو الاقتصادي 7% سنويا خلال الفترة (2000-2016)، وبلغت حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة 36 مليار دولار في أكثر من 2500 مشروعا، وحافظت على تدفق تلك الاستثمارات حتى الآن، حيث ساعد الاستثمار الأجنبي في تطوير البلاد سريعا مع خلق أكثر من 10 ملايين فرصة عمل بواسطة قطاع التصدير المباشر، لكن غالبية المجالات استفادت من التصدير بشكل غير مباشر، حيث توسعت “سلاسل القيمة” من الاقتصاد المحلى، فمثلًا انشغلت الشركات الفيتنامية خاصة الشركات الصغيرة ومتوسطة الحجم في توفير قطع الغيار والخدمات للشركات الكبيرة التي تمثل معظم الصادرات.
ولعل من أبرز علامات نجاح فيتنام خفض التضخم إلى أقل من 10%، وضبط سعر الصرف للقضاء على السوق السوداء. وفي بلد كانت فيه الأجور شديدة الانخفاض وجد المستثمرون الأجانب عامل جذب مهمًّا في فيتنام، حيث توافر العمالة الرخيصة والمدربة أيضًا من خلال رفع المهارات والمستوى التعليمي.
مؤشرات النجاح
بحلول عام 1994 كان هناك ما يكفي من الإصلاح والنمو، لتبدأ في أواخر التسعينيات خطة موازية لمواجهة تدهور البنية التحتية، فتم وضع أول مشروعات لإعادة تأهيل الطرق ومصادر الطاقة لتلبية الطلب المتزايد، والاتصالات وكذلك تطوير الموانئ البحرية والمحطات البحرية.
كما أدركت فيتنام أهمية الاستثمار الفعال في مواطنيها عبر تعزيز الوصول إلى التعليم الابتدائي وضمان جودته من خلال تطبيق أعلى معايير الجودة. وفى أحدث برنامج لعام 2015 لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لتقييم الطلاب الدوليين PISA، الذي يختبر طلاب المدارس الثانوية في الرياضيات والعلوم وغيرها من التخصصات، احتلت فيتنام المركز 8 من أصل 72 دولة مشاركة، متقدمة على دول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية مثل ألمانيا وهولندا. فصاغت خطة رئيسية لتنمية الموارد البشرية بحلول عام 2020 تهدف إلى أن يتلقى 40% من الشباب تدريبا مهنيا و2% منهم تعليما جامعيا. واصبحت فيتنام حاليا تعي أهمية تشجيع الابتكار لأنه أصبح محركا أكثر أهمية لزيادة الإنتاجية، سواء من خلال رفع مستوى العمليات والتكنولوجيات والمنتجات من قبل الشركات القائمة، أو إدخال شركات ذات إنتاجية عالية وخروج الشركات ذات الإنتاجية المنخفضة، خاصة أن الفرص كثيرة للشركات في فيتنام لتبنى المعرفة والتكنولوجيات الحالية.
وهكذا، حققت فيتنام طفرة اقتصادية حقيقية ظهرت نتائجها بوضوح في تراجع نسبة المواطنين تحت خط الفقر من 60% عام 1993 الى 13% عام 2014، واقل من 6% عام 2018. وانتقل الاقتصاد من أفقر دول العالم بمتوسط دخل الفرد 100 دولار في نهاية السبعينيات، إلى إحدى دول الدخل المتوسط بنحو 2500 دولار نصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالي، الذي بلغ 255 مليار دولار في 2018. وتضاعفت الصادرات بزيادة نحو 21% سنويا حتى وصلت إلى 165 مليار دولار عام 2014، وارتفعت إلى 244 مليار دولار في 2018، بينما يواصل قطاع الصناعات التحويلية نموه، مضيفا ما يقدر بنحو 1.5 مليون وظيفة صناعية جديدة بين 2014 و2016 وحده، وأهم صادراتها المعدات والاجهزة الالكترونية وأجهزة الكومبيوتر، والهواتف الذكية، وأهم الدول المستوردة: الولايات المتحدة والصين واليابان وكوريا الجنوبية واليابان وسنغافورة، بينما زاد حجم الواردات من 17.7 مليار دولار الى 151 مليار دولار، من كل من الصين وكوريا الجنوبية واليابان وتايوان وتايلاند وسنغافورة، وبلغ التضخم أقل من 1% في عام 2015 بعدما تجاوز 76% عام 1990، واستقر عن حوالي 3% حاليا، بينما وصل عجز الميزانية إلى حدود 1.2% من الناتج المحلى الإجمالي، والدين العام الخارجي أقل من 50% من الناتج المحلي الاجمالي.
كذلك، بلغ عدد العاملين نحو 55 مليون نسمة، حيث جاءت في المركز 12 عالميا، وبلغ معدل البطالة 3.5% في المركز 30 عالميا، وتضاعف الاستثمارات الأجنبية المباشرة بسرعة نتيجة رخص تكلفة العمالة المتعلمة والمدربة بعدما تحول شباب فيتنام إلى ثروة وطنية نتيجة سياسة تعليمية ناجحة ينفق عليها أكثر من 7% من الناتج المحلي الإجمالي. وانتعشت السياحة، حيث زار فيتنام نحو 8 ملايين سائح حققوا دخلا بلغ 16 مليار دولار في عام 2015. وتحولت فيتنام إلى خامس أكبر دولة مصدرة في العالم للملابس الجاهزة بنحو 20 مليار دولار سنويا، رغم أنها لا تزرع القطن وإنما تستورده من الولايات المتحدة والهند وجنوب إفريقيا، ثم تقوم بتصنيعه وتصدير الملابس الجاهزة، واصبحت مركزا لكبري العلامات التجارية في الملابس والاحذية الرياضية.
وتقدمت فيتنام في مؤشر القدرة التنافسية العالمى لتحتل المرتبة 55 في العالم، والمرتبة 68 لسهولة الأعمال، وفقا للبنك الدولى لعام 2018 بعد أن كانت 99 في عام 2014.
يقول الخبراء إن فيتنام بإمكانها أن تصبح دولة ذات دخل مرتفع بحلول عام 2045، فقظ اذا استطاعت الحفاظ على متوسط معدلات نمو لا تقل عن 7% على مدى السنوات الـ25 المقبلة، وهذا من شأنه أن يصل بنصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالى إلى حوالى 25 ألف دولار، مما سيجعلها أحد النمور الاقتصادية القوية في منطقة جنوب شرق آسيا.
ونظرا للتشابه الكبير بين مصر وفيتنام، فمن المؤكد ان الاستفادة من التجربة الفيتنامية في رسم ملامح برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي بدأت مصر فعليا في تنفيذه سيكون له نتائج ايجابية على نمو الاقتصاد المصري، خاصة بعد محاولات النهوض التي سيخضع لها العالم اجمع بعد ازمة انتشار فيروس كورونا المستجد (كوفيد -19).