عندما أحال رئيس الهيئة الوطنية للانتخابات المتخلفين عن التصويت في انتخابات مجلس الشيوخ للنيابة فإنه لم يفعل سوى تطبيق نص القانون الذي يجعل التصويت واجبا إلزاميا لكل من لهم حق التصويت. مصر ليست الدولة الوحيدة التي تأخذ بمبدأ التصويت الإلزامي، فهناك سبعة وعشرين دولة أخرى تطبق هذا النظام، وهو عدد ليس قليل، ولكنه بالتأكيد أقل بكثير من عدد الدول التي تجعل التصويت اختياريا، والتي يبلغ عددها 172 دولة.
تأخذ مصر بنظام التصويت الإلزامي منذ عام 1956، ومع هذا فأنا لا أذكر أن المجتمع المصري بعوامه ومثقفيه قد خاض حوارا جادا حول هذه القضية، ولا أذكر أبدا أن السلطات قد حاولت ولو مرة واحدة معاقبة المتخلفين عن التصويت، لهذا أخذتنا المفاجأة عندما أحال رئيس الهيئة الوطنية للانتخابات ملف المتخلفين عن التصويت للنائب العام. وبغض النظر عن التطورات القانونية لهذه القضية، فإنه بات واجبا فتح حوار جاد حول هذه المسألة.
تطبق المكسيك التصويت الإلزامي منذ عام 1857، وهي أقدم الدول التي تأخذ بهذا النظام؛ الذي تطبقه الأرجنتين منذ عام 1912؛ واستراليا منذ عام 1924؛ وتطبقه بلجيكا للرجال منذ 1892، وللنساء منذ 1949، والبرازيل منذ 1932؛ وفي إكوادور منذ 1968؛ وأدخلته بلغاريا في 2016، لتصبح أحدث الدول التي تأخذ بهذا النظام.
المفارقة في قضية التصويت الإلزامي هي أن الحكومات نادرا ما تقوم بمعاقبة المتغيبين عن التصويت، حتى عندما ينص القانون على ذلك. تكاد تكون أستراليا هي الحالة الوحيدة التي يدفع فيها المتخلف عن التصويت غرامة قدرها خمسة عشر دولارا، وهي عقوبة رمزية في بلد متوسط الدخل فيه 54 ألف دولار. تتجاهل أغلب الدول الأخرى تطبيق النص القانوني، أو أنها تعاقب المتخلفين عن التصويت بشطب أسمائهم من سجل الناخبين، إلى أن يطلبوا إعادة إدراجهم فيها، وهو النظام المعمول به في البرازيل. التصويت الإلزامي هو في أغلب البلاد مسألة رمزية، ينص عليها المشرعون على أمل أن يؤدي ذلك إلى تشجيع المواطنين على التصويت من باب احترام القانون والالتزام به، وهذا يقتضي مجتمعا تقوم ثقافته السياسية على احترام القانون، ولا أظن أن ثقافتنا السياسية تقع في هذه الفئة.
يرى أنصار التصويت الإلزامي أن شرعية الحكومة تتعزز عندما يتم انتخابها من جانب الشعب كله؛ وأنه حتى وإن لم يكن لدى عموم الناس معرفة كافية بالسياسة والمرشحين والأحزاب، فإن للتصويت الإلزامي أثرا تعليميا، يتيح لعموم الناس الفرصة لزيادة معارفهم السياسية، والتدريب على متابعة السياسة وممارستها.
التصويت الإلزامي يرفع نسبة المشاركة بمعدل متوسط قدره 7%؛ فأعلى معدلات التصويت في العالم تحدث في دول تطبق نظام التصويت الإلزامي. فقد شارك في انتخابات 2016 في استراليا 91% من الناخبين، و87% في بلجيكا عام 2014. ومع هذا فإن هناك دول لا تأخذ بهذا النظام، وظلت قادرة على تحقيق معدلات تصويت مرتفعة، فالمشاركة في انتخابات السويد عام 2014 وصلت إلى 82.6%، ووصلت إلى 77.9% في كوريا الجنوبية عام 2017؛ وكلها دول ترى التصويت حقا، لا واجب؛ وأنه لا يمكن إكراه الناس لممارسة حقوقهم، التي يجب أن يمارسوها فقط بإرادة متحررة من الضغط والإكراه.
هناك آخرون لا يرون في التصويت واجبا أو حقا، ولكن امتياز، يفوز به المواطن عندما يستحقه، ويحصل عليه لو توافرت فيه شروط معينة. التصويت – في رأي هؤلاء – يشبه رخصة قيادة السيارة، التي هي امتياز يحصل عليه المواطن لو توافرت فيه شروط معينة؛ وانتخاب المشرعين والحكام ليس بالأمر الأقل أهمية وخطورة من قيادة سيارة؛ وأن التصويت المعمم الإلزامي يأتي إلى صندوق الاقتراع بالعناصر الأقل علما ومعرفة واهتماما، وهي الفئات التي يسهل خداعها بالعطايا المادية أو بالكلام المعسول، والديماجوجيا اليسارية واليمينية والدينية.
هذا كلام له وجاهته، لكن خطورته الشديدة تكمن في إمكانية استخدامه لحرمان فئات واسعة من الناس من التصويت، وهو ما حدث بالفعل في بلاد عدة، عندما كان الحق في الانتخاب مشروطا بالعرق والثروة والوظيفة والتعليم.
النظام الانتخابي وقواعد التصويت هي مسائل شديدة الأهمية تترك آثارها على طبيعة النظام السياسي وطريقة عمله. فالديمقراطيون في الولايات المتحدة يسعون لإزالة العقبات التي تعترض التصويت لأن أصوات الفقراء والملونين، وهم الأكثر تأثرا بهذه العقبات، تذهب إلى الديمقراطيين؛ فيما يسعى الجمهوريون لوضع ضوابط تستهدف الفقراء والملونين، فتزيد فرص الجمهوريين في الفوز بالانتخابات.
علينا أن نفكر بجدية في قواعد التصويت عندنا، وأن نتباحث حول ما يحدث عندما تذهب نسبة كبيرة من الناخبين للتصويت، وما الذي يجري لو قلت هذه النسبة. من هم الناخبين الذين قد يذهبون للاقتراع في السيناريوهات المختلفة، وما هي تفضيلاتهم وقيمهم، وكيف يؤثر كل هذا على جودة العملية السياسية وشرعية المؤسسات. هل التصويت الإلزامي يأتي للصندوق بعموم الناس، وهل هؤلاء في أغلبهم وسطيين معتدلين؛ أم أنهم بسطاء يسهل التلاعب بهم من جانب أصحاب الإيديولوجيات والأموال؟
لقد اعتادت الحكومات في عهد الرئيس مبارك التلاعب بأصوات الناخبين ونتائج الانتخابات، وكان هذا من أسباب تداعي شرعية النظام. بعد سقوط مبارك، شهدت مصر أكبر عملية إصلاح انتخابي، فأصبح كل مصري وصل إلى سن الثامنة عشرة مسجلا بشكل تلقائي في قاعدة الناخبين، والتزمت الحكومة بتمكين المصريين في الخارج من التصويت، وبقي التصويت إلزاميا كما كان عليه الحال منذ عقود.
هل تسمح لنا تجربة السنوات العشر الماضية بإعادة النظر في بعض عناصر هذا النظام؟ هل التصويت الإلزامي عندنا يعزز شرعية مؤسسات الحكم؟ ماذا لو تخلينا عن تصويت المصريين في الخارج ومبدأ التصويت الإلزامي، هل يؤدي هذا إلى تحسين نظامنا الانتخابي وتقليل تكلفته، دون إلحاق أي ضرر بجودته وشرعية المؤسسات التي ينتجها؟ إجابتي المتواضعة على هذه الأسئلة هي نعم، فهل نفتح حوارا حول هذه القضايا.