برزت الولايات المتحدة الأمريكية كفاعل عسكري على خط الأزمة الليبية بشكل ملحوظ في الآونة الأخيرة، وذلك عبر استخدامها القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا “أفريكوم” بعدما كان دورها مقصورا على الدفع بالعملية السياسية بين أطراف الأزمة في المحافل الدولية. وقد تجلى ذلك الانخراط بشكل كبير منذ بدايات العام المنصرم (2019) بالتزامن مع التزاحم الدولي والإقليمي في تلك الازمة وانخراط روسيا بشكل أوسع داخل ذلك الصراع.
وتسعى واشنطن لإعادة انخراطها مرة أخرى في المعادلة الليبية، وقد تجلى ذلك مؤخراً عبر اللقاءات المختلفة التي جمعت الجنرال توماس والدهاوسير -قائد قوات “أفريكوم”- ورئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق “فايز السراج”، والذي تزامن حينها بإعلان المشير خليفة حفتر -القائد العام للجيش الوطني الليبي- إطلاق عملية “طوفان الكرامة” لتحرير طرابلس من المليشيات المُسلحة الموالية للسراج. وتكررت هذه اللقاءات خلال العام الراهن تحت المظلة الدبلوماسية أيضاً، الأمر الذي يحمل في طياته أبعاد وأهداف محددة لواشنطن داخل الساحة الليبية، ويضع أمامنا تساؤل حو مسار أفريكوم في خضم ذلك الصراع.
أهداف متعددة
هناك مجموعة من الأهداف يُعزى إليها تواجد قوات “أفريكوم” داخل ليبيا يمكن توضيحها فيما يلي:
1- تأمين المصالح الأمريكية وخلق حالة من التوازن: تستهدف الولايات المتحدة الأمريكية من خلال انخراطها في الملف الليبي بصورة دبلوماسية (من خلال السفير الأمريكي في ليبيا) أو في صورته العسكرية عبر قوات “أفريكوم”، إلى إعادة التوازن إلى المشهد الليبي، وذلك من خلال ضبط الأعمال العسكرية والقيام بدور التنسيق والإشراف بين الأطراف. وقد برز ذلك في اللقاءات المتعددة مع حكومة الوفاق الوطني، وآخرها لقاء “زوارة”، والتواصل مع المستشار عقيله صالح رئيس مجلس النواب الليبي، وكذا التواصل بين المشير خليفة حفتر مع مسؤولين أمريكيين في وزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي، عبر آلية الفيديو كونفرس، وذلك لفك الجمود في العملية السياسية وإعادة إنتاج وضخ النفط للأسواق العالمية، وقطع الطريق أمام روسيا للاستحواذ على الهلال النفطي الليبي، وبالتالي التحكم نسبياً في سوق النفط والطاقة، خاصة أن هذا يتواكب مع التعقيدات القائمة في سوق النفط بين موسكو والرياض.
2- تقويض التحرك الروسي وتحجيم أي تهديد محتمل: لعل من بين أهم الأهداف الرئيسية التي تسعى إليها قيادة القوات الأمريكية في إفريقيا “أفريكوم” داخل الساحة الليبية وقف الانتشار والتمدد الروسي في ليبيا في شكل المشاركة في العمليات البرية والجوية الليبية بالاستعانة بمجموعة “فاغنر”. وقد انعكس ذلك التخوف على النهج التفاعلي لواشنطن داخل الصراع والذي أخذ بعدًا انحيازياً بعض الشيء لصالح حكومة الوفاق برئاسة فايز السراج. ولعل اللقاءات المتعددة التي جمعت بين السراج والجنرال ستيفن تاونسند قائد “أفريكوم” والتي كان آخرها بمطار “زوارة” شمال غرب ليبيا في الثاني والعشرين من يونيو الماضي، علاوة على إطلاق تصريحات من جانب الجنرال “تاونسند” ومدير العمليات الجنرال “برادفزر غيرينغ” التي لطالما وصٌفت دخول روسيا على طول خط الأزمة الليبية بــ “غير المفيد” وأن دورها بات يتجاوز حدود الإغاثة الإنسانية، بل العمل على تعزيز قدرات العمليات القتالية الهجومية، كلها عوامل تُفسر التقارب الملحوظ بين الولايات المتحدة وحكومة السراج، خاصة في ظل تعقد المشهد الليبي.
ولم يقتصر الأمر عند ذلك الحد بل إن واشنطن ترى في الحضور الروسي في الأزمة الليبية خطراً يهدد أمنها القومي وأمن شركائها الاستراتيجيين، ليس فقط في إطار المنطقة بل إنه يمتد إلى حلفائها في أوروبا وإلى حلف الناتو، وذلك على ضوء سعيها لتطوير قدراتها و”منع الوصول وحظر المناطق” لإنشاء منطقة عازلة لتعويض خسائرها بعد الحرب الباردة، وهو ما يُعرف في السياسية الأمريكية بـ A2AD. ولعل هذا التخوف قد برز داخل الأواسط العسكرية الأمريكية؛ فقد عبر الجنرال “جيف هاريغيان” -قائد سلاح الجو الأمريكي في أوروبا وقوات سلاح الجو في أفريقيا- عن هذا التخوف، حيث أوضح أن روسيا إذا ما استطاعت أن تسيطر على موطئ قدم في الساحل الليبي فإنها ستعمل على تعزيز قدرات بعيدة المدى دائمة وهو ما يُشكل مخاوف أمنية على الجانب الجنوبي لأوروبا.
3- الوقف الاستراتيجي للعمليات العسكرية وخفض التصعيد: وذلك على ضوء تفاقم الأوضاع داخل الساحة الليبية، حيث تستهدف الولايات المتحدة خفض التصعيد والتوتر في ظل تصاعد التدخل الأجنبي والعمل على ضبط تعقد المشهد بين الأطراف، والدفع بالجهود الدبلوماسية التي تتبناها الأمم المتحدة لتعزيز وقف إطلاق النار والحوار السياسي والعودة إلى طاولة مفاوضات 5+5. وقد برز ذلك الهدف في تحرك السفير الأمريكي في ليبيا “ريتشارد نورلاند” خلال اجتماع مطار “زوارة”، وهو ما يرتبط بشبكة المصالح الأمريكية داخل ليبيا كما ذكرناه آنفاً.
4- تفكيك المليشيات المُسلحة ومواجهة خطر تمدد تنظيم “داعش والقاعدة“: إن أحد المهام الضرورية لقوات “أفريكوم” يتجلى في تفكيك المليشيات المسلحة وتوحيد المؤسسة العسكرية والمؤسسات السيادية الأخرى، وما يفُسر ذلك طبيعة اللقاءات المتكررة التي تجمع بين السراج ووزير داخليته -فحتي علي باشاغا- وقائد العمليات الأمريكية في أفريقيا، والتي تتركز حول أهمية مواجهة الإرهاب حفاظاً على الأمن والسلم الإقليمين والذي لن يتحقق إلا ببناء المؤسسات الوطنية، خاصة المؤسسة العسكرية. ويفُسر ذلك أيضا تواجد قوات أمريكية ومركز تدريب تابع للجيش الأمريكي في الجنوب الليبي للحرب ضد تنظيم داعش، وكذلك قيادة عمليات لطائرات بدون طيار في ليبيا لتقييم الأوضاع الأمنية ومحاولة رصد الأنشطة المتطرفة العنيفة ومواجهة النشاط الإرهابي، وهي كلها عوامل ترجح أن هناك رغبة في تقويض وإحكام السيطرة على الجماعات المسلحة المنتشرة في الغرب الليبي والتابعة لحكومة السراج.
دلالات التوقيت
إن التدخل الأمريكي على خط الأزمة الليبية يأتي دائماً بالتزامن مع حالات التصعيد من قِبل أطراف الأزمة داخلياً كما أشرنا إليه أعلاه، غير أن الانخراط المتسارع لواشنطن منذ نهاية العام الماضي حتى وقتنا هذا، باستخدام قيادة العمليات العسكرية في إفريقيا “أفريكوم” كأداة رئيسية بالتوازي مع التحركات الدبلوماسية للسفارة الأمريكية في ليبيا، جاء ليتزامن مع عدة متغيرات على الصعيد الليبي ذاته، فضلاً عن الأبعاد الإقليمية والدولية الأخرى وهو ما يمكن توضيحه فيما يلي:
1- اتفاق ترسيم الحدود البحرية وتعقد المشهد في شرق المتوسط: إن الانخراط المتزايد للولايات المتحدة الأمريكية في الأزمة الليبية جاء ليتزامن مع تعقيدات معادلة شرق المتوسط وحالة التصعيد التي تشهدها دول المنطقة، خاصة في أعقاب ترسيم الحدود البحرية بين مصر وقبرص واليونان، وتوقيع تركيا مع حكومة الوفاق مذكرتي تفاهم لتحديد الحقوق البحرية والتعاون الأمني والعسكري بينهما في نوفمبر 2019، والتي شكلت نقطة جوهرية في ضوء الأزمة الليبية سمح بشكل كبير بتدخل تركيا في ليبيا بشكل عسكري، علاوة على تزاحمها في شرق المتوسط للتنقيب عن الغاز وهو ما أشعل الإقليم وشكُل تهديداً استراتيجياً لحلفاء واشنطن التي أخذت موقفاً داعماً لمنتدى غاز شرق المتوسط بالقاهرة.
2- إعلان القاهرة في يوليو 2020: لقد جاء التداخل الأمريكي في الأزمة الليبية في أعقاب إعلان الرئيس عبد الفتاح السيسي “إعلان القاهرة” الرامي لوقف إطلاق النار وطرد العناصر المسلحة والمليشيات الإرهابية وإعطاء الجيش الليبي الفرصة لمواجهة تلك المليشيات، والتأكيد على أن “سرت– الجفرة” خط أحمر، وتفويض مجلس النواب لرئيس الجمهورية بتحريك قوات من الجيش المصري للداخل الليبي حفاظًا على الأمن القومي، خاصة بعدما دعا مجلس النواب الليبي والجيش القوات المسلحة المصرية بالانخراط للدفاع عن ليبيا ضد المليشيات المُسلحة، الأمر الذي استقبلته حكومة السراج بالتعنت بل صٌعدت الأمر باستقبال مزيد من المرتزقة والمليشيات المسلحة، وهو ما دفع واشنطن للتحرك السريع لتهدئة الأوضاع تحسباً لنشوب حرب لن تقتصر على السياق المحلي الليبي بل ستكون حرباً إقليمية تحول دون تحقيق استقرار في المستقبل المنظور.
2- التناقضات الأوروبية- الأوروبية: لعل الانخراط المباشر من جانب واشنطن مؤخراً في الأزمة الليبية يأتي في سياق تنافر التوجهات الأوروبية- الأوروبية، وكذلك مع الرؤية الأمريكية في ليبيا، لذا فإن التعويل الأمريكي على هذا الدور قد تراجع بشكل ملحوظ في خضم الأزمة الليبية. وعلى ضوء ذلك نجد أن التحركات الأمريكية مؤخراً باتت تتمركز حول أنقرة، وهو ما تجلى في زيارة السفير الأمريكي في ليبيا إلى أنقرة في الثاني عشر من أغسطس الجاري للتباحث حول آليات إنهاء الصراع والعودة للحوار السياسي وكذا نزع السلاح وبحث خطوات الانسحاب الكامل والمتبادل للقوات الأجنبية والمرتزقة.
3- الانتهاكات المستمرة لحظر التسليح: لعل أيضاً الانخراط المباشر من جانب قوات “أفريكوم” في ليبيا يأتي بالتزامن مع تدفق المزيد من الأسلحة والمرتزقة إلى الداخل الليبي رغم صدور قرار الأمم المتحدة رقم 1970 لعام (2011) بحظر الأسلحة، وهو ما جاء في مخرجات برلين 2020، إلا أن المجتمع الدولي لا يزال يرصد توريد سلاح إلى الجماعات والفصائل المسلحة في ليبيا.
4- الانتخابات الأمريكية: لا يمكن استبعاد اقتراب موعد الاستحقاق الرئاسي الأمريكي في نوفمبر القادم، ورغبة الرئيس ترامب في تصدير صورة ذهنية لدى الرأي العام الداخلي عن قدرة الولايات المتحدة على ضبط التحديات المختلفة التي تؤجج الصراعات داخل إقليم الشرق الأوسط، وعلى رأسها الأزمة الليبية الممتدة لقرابة عشر سنوات، والتي باتت تهدد الجنوب الأوروبي.
ختاماً؛ لقد ساهم تواجد “أفريكوم” الأمريكية في الصراع الليبي إلى المحافظة قدر الإمكان على وضعية الميدان كما هي، رغم الحشد المستمر من جانب تركيا والسراج للمليشيات المسلحة بالقرب من منطقتي “سرت- الجفرة” كخط أحمر بالنسبة لمصر. ولعل الوساطة الأمريكية في المرحلة القادمة ستنصب ليس فقط على وقف إطلاق النار بل ستمتد للتباحث حول وضعية (سرت-الجفرة)، وهو ما يتوقف على استمرارية استراتيجية “الحياد الفعٌال” في التعاطي مع أطراف الأزمة.