“دين أتشيسون”، وزير الخارجية الأمريكي بعد الحرب العالمية الثانية، نشر كتابا بعنوان «حاضر ساعة الخلق أو Present at the Creation» ما حضره الرجل كان السنوات الأخيرة للحرب العالمية الثانية وما بعدها وكيف بات هناك مشروع أمريكي ليس فقط لأمريكا وإنما أيضا للعالم. في الداخل كان هناك التجديد للفكرة الأمريكية ساعة ميلاد الدولة على ضوء ما جرى خلال المواجهة مع الفاشية، وما كان متوقعا من مواجهة أخرى مع الشيوعية، وفى الخارج كان مد هذا المشروع إلى الليبرالية والديمقراطية والدبلوماسية متعددة الأطراف والمنظمات الدولية الممتدة من الأمم المتحدة حتى محكمة العدل الدولية عبر صندوق النقد والبنك الدوليين. «اليوتوبيا» الأمريكية هذه بات لها أنصار ومثقفون وحركات سياسية لأنها دعوة سلمية تعددية متسامحة وداعية إلى أسواق تنافسية مفتوحة، وبشكل ما خلال الحرب الباردة باتت نوعا من الأيديولوجية التي أخذت صورا متحررة وأخرى محافظة، وفى كل الأحوال باتت دعوة للدخول في أحضان عالم هو الأكثر تقدما في الدنيا كلها. ريتشارد هاس، رئيس مجلس الشؤون الخارجية الأمريكية، نشر مقالا هو بمثابة التعليق المعاصر، أو ما تصوره عنوانا لمذكرات فترة رئاسة دونالد ترامب «حاضر ساعة القطيعة أو “Present at the Disruption” التي مضت لتقويض كل ما سبق داخل أمريكا وخارجها، ومع الأعداء والحلفاء معا. آخر المشاهد التي دعت إلى هذا المقال كان المناظرة الأولى في الانتخابات الرئاسية الأمريكية بين الرئيس الجمهوري في البيت الأبيض دونالد ترامب، ونائب الرئيس السابق وقائد المعارضة الديمقراطي جو بايدن. وجاءت تعليقات كافة المعلقين على المناظرة بالوصف «كارثة» ومرادفاتها من الكلمات التي سادت فيها روح الخسارة والحزن على عالم وزمن قديم ولى وراح. كانت روح «القطيعة» لافحة، فالعادة كانت دائما عندما يأتي وقت المناظرات الرئاسية استعادة تلك الأولى التي دارت بين ريتشارد نيكسون وجون كينيدى وباتت واحدة من تقاليد الانتخابات الأمريكية، بل إنها باتت واحدة من مؤسساتها حينما يتقابل المتنافسان ليس في حلبة المصارعة، وإنما في ساحة الرأي العام يطرحان ما لديهما في الداخل والخارج وحتى مستقبل الإنسانية، حتى يزداد وعى المواطن قبيل الذهاب إلى صناديق الاقتراع ويقرر الأصلح لقيادة البلاد في السنوات الأربع المقبلة.
المناظرة الأولى كانت كارثية وقاطعة مع التقاليد حينما باتت واحدة من تلك الحلقات المضطربة للنقاش التي تدور في العالم الثالث تحت رداء الديمقراطية ويغيب فيها القدرة على الاستماع، وإرادة طرح الأفكار والقوانين والمشروعات. في الجولة كلها لم يتسن ما قدر لها من أزمنة متساوية للمرشحين حيث كان ترامب مقاطعا طوال الوقت لما يقوله بايدن، ومقاوما لإبداء الرأي أو الالتزام بمسائل دستورية أو تقاليد تخص الدولة ومسار الانتخابات فيها. مضى الوقت في هجوم مستمر امتد إلى ما هو شخص بعد أن شاءت الأقدار أن يعلن بايدن قبل يوم لائحته الضريبية وما دفعه من ضرائب، وحينما نشرت «النيويورك تايمز» لائحة ترامب الضريبية وفيها لم يكن الرجل قد دفع شيئا على مدى خمسة عشر عاما أكثر من ٧٥٠ دولارا خلال العامين الأخيرين. بايدن حاول قدر الإمكان أن يدفع عن نفسه تهمة اتباع اليسار أو تأييد العنف في المظاهرات الأخيرة في المدن الأمريكية، أما ترامب فقد أضاف المزيد من الصراحة في رفضه الالتزام بالخروج من البيت الأبيض إذا ما خسر الانتخابات بسبب ما رآه من «تزوير» مؤكد من قبل الخصوم في الأصوات المرسلة بالبريد. أكثر من ذلك فإن ترامب رفض أيضا إدانة الجماعات العنصرية البيضاء والتي تستخدم العنف ضد الأمريكيين الأفارقة. بعض الجهات الإعلامية الأمريكية طالبت بوقف المناظرات طالما أنها لا تؤدى الرسالة المطلوبة منها، ولكن المرجح أن المسيرة سوف تستمر حتى ولو لم تختلف النتائج التى سوف تظهر منها.
ولكن شرخ «المناظرة» في الديمقراطية والمشروع الأمريكي الليبرالي في العالم لم يكن أول الشروخ ولن يكون آخرها. فلاسفة الإغريق من أفلاطون إلى أرسطو حذروا كثيرا من النزعات الشعبوية والانحطاط الممكن من القادة السياسيين وقدرتهم على جذب الجماهير نحوهم بتملق غرائزهم وليس التعامل مع عقولهم. وفى ترتيب النظم السياسية كانت الديمقراطية في أسفلها من حيث الفاعلية والقدرة على الإدارة العقلانية للشؤون العامة، حتى بات غير صحيح ما زعمه تشرشل أن الديمقراطية قد تكون أسوأ النظم السياسية، ولكنه لا يوجد ما هو أفضل منها. وخلال السنوات الأربع الأخيرة فإن النظام الديمقراطي الغربي في الولايات المتحدة وأوروبا تعرض لضربات، ومن ثم شروخ موجعة، حيث لم تكن انتقالا لليمين المحافظ وحده وإنما ظهور زعامات عملت على تحريك أكثر النزعات الغاشمة عمقا في الجماهير لكي يتم الضغط والابتزاز للأقليات والمخالفين للمصالح في الداخل والخارج. انتهى بالنسبة لهم عهد النقاش والتداول العقلاني، ودولة المؤسسات، والخضوع للقانون، وبات من الممكن أن يتحدث رئيس الدولة عن بقائه في الحكم بعد انتهاء مدته القانونية. الاستراتيجية الذائعة تكون دائما تعميق الانقسامات العرقية في المجتمع، ودفع هذه الأخيرة إلى حافة الحرب الأهلية بحيث يكون الزعيم هو العاصم من الصدام العام، وذيوع الكراهية تجاه المنافسين في الساحات الخارجية هو الإنقاذ لأمة استغل كثيرون ما لديها من كرم.
ولكن الأمر ربما يكون أكثر أهمية بكثير مما حدث في المناظرة الأولى، والمرجح في كل المناظرات التالية، لأنه من ناحية أن ظاهرة ترامب ليست موجة أمريكية فقط، وإنما ذهبت إلى العالم الغربي وأثرت في الديمقراطيات التي تقع خارجه، وأهمها الهند على سبيل المثال. الثابت تاريخيا أن الموجات لا تحدث فقط لأربع سنوات، وأن مداها الزمنى أكثر من ذلك، وآثارها عادة عميقة، فلا شك أن الموجة أثرت على الاتحاد الأوروبى نتيجة الخروج البريطاني، كما أنها أثرت على تحالف الأطلنطي، وليس مستبعدا أن الفشل الذريع لموجات الربيع العربي واستيلاء الإخوان المسلمين وتابعيهم عليها كان جزءا من هذه الموجة العالمية. أو أن المسألة برمتها تتداخل فيها شروخ متعددة أحدثتها الثورة التكنولوجية المعاصرة التي ساد التصور في البداية أنها ستكون داعمة للديمقراطية عندما تعطى لكل فرد الحق في طرح موقفه وآرائه فيما يجرى في بلاده وفى العالم، ولكنها في النهاية خلقت نوعا من ثقافة القطيع المنقادة وراء فاشيات دينية وتحالفاتها مع زعامات مدنية لا بأس عندها من التحالف معها سواء كانوا الإنجيليين في الولايات المتحدة أو الإخوان المسلمين في تركيا. وعندما يصوت الشعب الأمريكي في الانتخابات القادمة في الثالث من نوفمبر فإنه ربما لن يكون مصوتا على أشخاص أو أحزاب، وإنما أكثر من ذلك على الديمقراطية نفسها التي سبق أن جرت بعد الحرب الأهلية الأمريكية الأولى التي نتج عنها تعديلات دستورية (١٣ و١٤و ١٥) التي أقرت المساواة بين البيض والسود وحق الأخيرين في الترشيح والتصويت، ولكن بعدها بفترة قصيرة أقر الكونجرس الأمريكي قوانين «جيم كرو» التي أقرت التمييز العنصري في كل شيء آخر!