لن أكتب كثيرا اليوم، فسوف يغنيني الدكتور زكي نجيب محمود هذه المشقة. رحل المفكر الكبير عن عالمنا منذ 1993، لكن ما كتبه في حياته الفكرية الحافلة مازال قادرا على شرح أحوالنا الفكرية والعقلية، ومازالت نصائحه وتوصياته صالحة للتطبيق، رغم كل الرقمنة والشاشات التي ملأت حياتنا.
ألف زكي نجيب محمود كتبا زاد عددها على العشرين، ويظل كتابه تجديد الفكر العربي، الصادر عام 1971، درة التاج في كل أعماله. ينتقد زكي نجيب محمود طريقة تناول العلم والتفكير العلمي في مجتمعنا، فينتقد علمائنا وإيمانهم بالخرافات، وكيف أن ما يلقنونه للطلاب في قاعات الدرس لا يتجاوزها إلى معتقدهم خارجها. تكررت هذه الملاحظة في كتابات الدكتور محمود الممتدة عبر عدة عقود، بما يؤكد على أن العوار الفكري كان موجودا حتى في السنوات التي كنا نظن أننا وصلنا فيها إلى ذروة الأخذ بالعلم والإيمان بالتقدم. فالأزمة قديمة، ومازال علينا أن نجد مخرجا منها.
جذور أزمتنا الفكرية قديمة مغروسة في التاريخ الفكري للعرب المسلمين، حيث سادت ثقافة تركز على الشكل أكثر من المضمون، وعلى البلاغة وفصاحة التعبير أكثر من الحقيقة والمحتوى. حكى زكي نجيب محمود في تجديد الفكر العربي عن صبي من أقربائه طلب منهم المعلم كتابة موضوعا إنشائيا عبارة عن خطاب يوجهه التلميذ إلى أبيه بمناسبة بدء العام الدراسي، فكتب الصبي مهتديا بالسليقة السليمة الحية، فجعل خطابه متصلا بحياته مباشرة، وذكر فيه بعض الصعاب التي لقيها في حياته المنزلية مع من كان يساكنهم في المدينة والوالد في الريف، فطعامهم ليس على ما يشتهي، ومخادع النوم تقض المضاجع، والبيت ينقصه المواد الغذائية الأساسية، وطلب من أبيه أن يرسل إليه شيئا من البيض والسمن والرقاق. دهش الأستاذ أن يكون هذا “إنشاء” عربيا، وكانت الدرجة عنده صفرا.
حاول التلميذ استخدام اللغة والكتابة للتعبير عن الواقع فرسب في تقدير الأستاذ، الذي كان يفهم وظيفة التعليم واللغة والكتابة بطريقة أخرى تماما، وهي الطريقة التي سادت حياتنا الثقافية والفكرية لقرون. شرح زكي نجيب محمود هذه الطريقة مستعينا بما روي عن شيخ مرموق من أعلام اللغة، وكيف علم “الإنشاء” لمن كان مصيرهم أن يكونوا أساتذة للغة في المدارس؛ إذ أخذ يملي عليهم بادئ ذي بدء قائمة “بما يقال في مدح الشيء” ثم قائمة “بما يقال في ذم الشيء”، لا يهمه أي شيء هو. بعد ذلك بدأت كتابة الموضوعات الإنشائية على هذا الأساس، وداخل ذلك الإطار، يطرح على طلابه موضوعا في إكرام الضيف، ثم يسأل : أهو مما يمدح أو مما يذم، فيقال له إنه مما يمدح، إذن فعليكم “بما يقال في مدح الشيء”؛ ثم يعقب عليه بموضوع في “النفاق”، فهل النفاق مما يمدح أو مما يذم، إنه مما يذم، إذن فعليكم بما يقال في ذم الشيء. هل يشرح لنا هذا السبب الذي من أجله تبدو حياتنا الثقافية والفكرية مكررة مملة، فقيرة في الإبداع والتجديد؟ هل يساعدنا هذا على فهم الانشقاق في ثقافتنا بين نخبة محدودة تستهلك ثقافة عليا يغلب عليها الجمود والانفصال عن الواقع، فيما الجمهور العريض يغني مهرجانات ولا يقرأ شيئا.
انعكست هذه الروح في نظمنا التعليمية القديمة، وأعدنا استنساخ جوهرها في نظم التعليم الحديث. كتب زكي نجيب محمود أن مدار وطريقة التعليم العتيق هي إعادة الموروث وتحليله وشرحه، فكان العالم هو من ازداد إلماما بالتراث وقدرة على فهمه وشرحه وتحليله وإعرابه، فإذا حفظ التلميذ عن شيخه كل هذا، جاز له أن يكون بدوره شيخا لتلميذ جديد يحفظ عنه، فنتج عن ذلك أن كان مفهوم العلم هو الدراية بما ورد في الكتب؛ ويلاحظ أننا مازلنا – حتى في الكليات العلمية – نجري على المبدأ القديم نفسه، وهو أن يحفظ التلميذ عن الشيخ، وليس ثمة من فرق بعيد بين أن يكون المحفوظ هو ألفية ابن مالك أو كتابا في الكهرباء؛ لأن المدار في كلتا الحالتين هو الحفظ الذي يمكن التلميذ من “تسميع” ما حفظه أمام شيخه، وبعد ذلك يسأل السائلون لماذا لا نسهم في دنيا العلوم بإضافات جديدة إلا القليل الذي يمكن تجاهله؟ والجواب واضح، وهو أن المبدأ القديم في العلم والتعليم مازال سائدا.
الانقسام بين ثقافة النخبة والجماهير ليس هو شكل الانقسام الفكري الوحيد عندنا، فلدينا أيضا ما ترتب على صدمة اللقاء مع الغرب من انقسامات. فعندما دهس قطار الحضارة الغربية مجتمعاتنا انقسم أهل الفكر بشأن ما يمكن أخذه من الغرب، وما يجب الإبقاء عليه من تراثنا. فمنهم من يقبل الغرب كله والتراث كله ويحسب أن الجمع بينهما أمر ممكن، كما صنع العقاد. ومنهم من يقبل الغرب كله وبعض التراث دون بعض، كما صنع طه حسين. ومنهم من يقبل التراث كله وبعض الغرب دون بعض ، كما صنع الشيخ الإمام محمد عبده. ومنهم من يجري تعديلا في التراث وفي الغرب معا، كما صنع أحمد أمين وتوفيق الحكيم. ومنهم من يكاد يرفض الجانبين معا، فلا هو تعلم شيئا من التراث العربي ليعرفه، ولا هو يرضى بقبول الثقافة الغربية خشية أن يقال عنه إنه من توابع المستعمرين؛ وعن هذه الفئة الأخيرة يقول زكي نجيب محمود أن فيها بعض الإبداع وكثير من السطحية أيضا.
الصلاحية الممتدة لأفكار زكي نجيب محمود تلفت نظرنا إلى أن التغيرات الحادثة في السياسة والسكان والعمران والتكنولوجيا لم تغير الحالة الفكرية الثقافية للأمة المصرية، والتي مازالت تعاني نفس المشكلات، وأنه مازال على الراغبين في النهوض بحياتنا الثقافية والفكرية، في وزارات التعليم والثقافة، محاولة الإجابة على الأسئلة التي طرحها الدكتور زكي نجيب محمود قبل نصف قرن.