استضافت مدينة باليرمو الإيطالية، خلال يومي 12 و13 نوفمبر 2018، مؤتمرًا دوليًّا حول ليبيا برعاية الحكومة الإيطالية، سعت فيه لجمع مختلف الأطراف المحلية والإقليمية والدولية ذات الاهتمام والتأثير في الأوضاع على الساحة الليبية. وعلى الرغم من الجهود الإيطالية الكبيرة في التحضير للمؤتمر، إلا أنه واجه عقبة كبيرة بعد إعلان المشير “خليفة حفتر” مقاطعته أعمال المؤتمر بسبب حضور بعض الأطراف المقربة من التيارات المتطرفة في الغرب الليبي، وذلك بالرغم من حضوره لباليرمو، وهو ما فسره برغبته في الالتقاء بعدد من قادة الدول المشاركة في الاجتماعات المنعقدة على هامش المؤتمر.
وبالفعل دعا رئيس الوزراء الإيطالي في صباح اليوم الثاني لأعمال المؤتمر، عددًا من الأطراف الأكثر تأثيرًا للمشاركة في اجتماع “مصغر”، جمع كلًّا من الرئيسين المصري والتونسي ورئيس الوزراء الجزائري ونظيره الروسي بجانب وزير الخارجية الفرنسي. وشكّل الاجتماع الذي امتد لساعتين فرصة نادرة لالتقاء المشير “خليفة حفتر” بـ”فايز السراج” رئيس حكومة الوفاق الوطني الليبية، ليعد هذا الاجتماع هو العلامة الأبرز في مؤتمر باليرمو.
ونتيجة لعدم توجيه دعوة لحضور اجتماع الثلاثاء لـ”فؤاد أقطاي” نائب رئيس الجمهورية التركية ورئيس وفد بلاده المشارك في أعمال مؤتمر باليرمو، أعلنت تركيا انسحابها من المؤتمر، معبرة عن “خيبة أملها الكبيرة”، على اعتبار أن أي اجتماع لا تشارك فيه أنقرة ستكون نتائجه عكسية لحل المشكلة، وأن اجتماع صباح الثلاثاء قدم بعض الأطراف على أنهم اللاعبون البارزون في منطقة البحر المتوسط، وهو الأمر الذي اعتبره أقطاي “مضللًا تمامًا” ويعكس “نهجًا ضارًّا” تعارضه تركيا بشدة. كما انتقد “أقطاي” مؤتمر باليرمو الذي عجز فيه المجتمع الدولي عن أن يظهر بمظهر موحد، نتيجة مواصلة بعض الدول “رهن” المسار السياسي في ليبيا بمصالحها الخاصة.
ولم يؤثر الانسحاب التركي على إتمام أعمال مؤتمر باليرمو، حيث عبر رئيس الوزراء الإيطالي عن أسفه لهذا الموقف، مشددًا على أنه لم يؤدِّ لاضطراب الأجواء الإيجابية للمؤتمر، والذي شهد من وجهة نظره “تناغمًا دوليًّا قويًّا”. كما أعلن المبعوث الأممي “غسان سلامة” عن نجاح المؤتمر في تجاوز مشكلة الانسحاب التركي، معربًا عن ثقته في التزام الليبيين بتسوية الأزمة من خلال آلية المؤتمر الوطني الذي اتفق في باليرمو على عقده في ربيع عام 2019، من أجل الإعداد لتسوية نهائية، تتضمن في شقها السياسي إعداد وثيقة دستورية والاستفتاء عليها، وتنظيم الانتخابات. وهو ما يسير بالتوازي مع الشق العسكري القائم على توحيد القوات المسلحة الليبية تحت إشراف مدني، والذي نالت الجهود المصرية المبذولة لإتمامه الدعم الرسمي من المشاركين في مؤتمر باليرمو.
’’ تخشى تركيا من أن يؤدي استكمال مسار توحيد القوات المسلحة الليبية برعاية مصرية لإضعاف موقف حلفائها العسكريين والسياسيين في الغرب الليبي، وتدعيم موقف المشير “خليفة حفتر” ،،
مواقف متباينة:
انتبهت مصر مبكرًا إلى الأهمية الكبيرة لتوحيد القوات المسلحة الليبية كركيزة لإنهاء حالة الانقسام السياسي بين شرق ليبيا وغربها. وعلى هذا الأساس استضافت مصر منذ خريف عام 2017 سلسلة من الاجتماعات والمشاورات بين ضباط القيادة العامة للجيش الليبي في الشرق، وضباط من القوات المسلحة في الغرب.
وقد بلغ عدد هذه اللقاءات حتى أكتوبر من العام 2018 سبعة لقاءات، ظهر مخرجها الأساسي في أكتوبر 2018، متمثلًا في مشروع مقترح لتوحيد المؤسسة العسكرية الليبية، حيث عالج بعض أكثر القضايا حساسية، مثل: تشكيل جهاز الحرس الرئاسي الذي ظل لوقت طويل عصيًّا على التنفيذ، وكذلك توحيد بعض الإدارات العسكرية ذات الأهمية، كجهاز التنظيم والإدارة والاستخبارات العسكرية، فضلًا عن الإبقاء على القائد العام للقوات المسلحة المشير “خليفة حفتر” في منصبه لمدة أربع سنوات قابلة للزيادة لعام آخر، وكذلك حظر التشكيلات الموازية للجيش، وإتاحة الفرصة لجميع الليبيين للانتساب للمؤسسة العسكرية.
كما رسّخ المشروع أهمية تبني نهج تشاركي بين السلطتين التشريعية والتنفيذية في صياغة القوانين والقرارات المنظمة لعمل المؤسسة العسكرية الليبية، مقترحًا إنشاء مجلس للأمن القومي بقيادة سياسية، ومجلس للدفاع الوطني وآخر للقيادة العامة بقيادة عسكرية، مع تحديد تشكيل واختصاص كل من هذه المجالس على نحو دقيق.
هذه التحركات المصرية التي بلغت مستوى متقدمًا، رأت فيها تركيا مصدرًا لتهديد سياساتها في ليبيا القائمة على تقديم الدعم لعدد من الميليشيات الليبية المتمركزة في الغرب والمتوافقة مع التوجهات الأيديولوجية للحزب الحاكم في تركيا، وما يتصل بها من ترتيبات إقليمية. على هذا بادر وزير الدفاع التركي “خلوصي أكار” بزيارة طرابلس في الخامس من نوفمبر 2018، في زيارة غلب عليها الطابع العسكري، إذ ضم الوفد التركي رئيس أركان القوات المسلحة التركية “يشار جولر” وعددًا من مسئولي وزارة الدفاع التركية.
وفي المقابل، شارك في اللقاء من الجانب الليبي “أوحيدة نجم” وكيل وزارة الدفاع، واللواء “عبدالرحمن الطويل” رئيس الأركان التابع لحكومة طرابلس. وجاء الملف العسكري في مقدمة الملفات التي طرحت للنقاش خلال الزيارة، وعلى رأسها عملية توحيد المؤسسة العسكرية الليبية. وفي ظل القطيعة التامة بين تركيا والمؤسسة العسكرية في الشرق الليبي، يقوم المفهوم التركي لتوحيد المؤسسة العسكرية على دمج قادة ومقاتلي الميليشيات التي تحظى بالدعم التركي في الغرب في بنية المؤسسة العسكرية الجديدة، خاصة مع حصول العديد منهم على التدريب في تركيا.
على هذه الخلفية، تخشى تركيا من أن يؤدي استكمال مسار توحيد القوات المسلحة الليبية برعاية مصرية لإضعاف موقف حلفائها العسكريين والسياسيين في الغرب الليبي، وتدعيم موقف المشير “خليفة حفتر”. وهي القضية التي مثلت نقطة التقاء مع رئيس حكومة الوفاق الذي سارع فور نهاية الجولة السابعة من لقاءات القاهرة لطرح تساؤلاته بشأن صلاحيات القائد الأعلى للقوات المسلحة، مفضلًا نقل ملف توحيد القوات المسلحة بأكمله لرعاية الأمم المتحدة.
’’ يأتي استبعاد تركيا من ترتيبات توحيد القوات المسلحة الليبية، ليضعف من قدرتها على التدخل في مسار التسوية في المستقبل ،،
استنتاجات أساسية:
جاء انحياز الأطراف الدولية المختلفة للجهود المصرية لتوحيد المؤسسة العسكرية الليبية ليقطع الطريق على المساعي التركية لإدامة حالة الفوضى المترتبة على سيطرة الميليشيات المسلحة على مناطق واسعة من الغرب الليبي، الأمر الذي يشير إلى عدد من الحقائق الهامة:
أولًا- منذ بداية الأزمة الليبية عام 2011 تبنت تركيا موقفًا سياسيًّا شديد التخبط والتقلب من العملية السياسية الجديدة في ليبيا. لكن في المقابل، حرصت تركيا على تقديم الدعم العسكري للميليشيات الحليفة في الغرب الليبي منذ اليوم الأول، بغرض تثبيت أقدامها. ومنذ انفجار الأوضاع الأمنية في ليبيا، تقوم السياسة التركية على تحقيق هدف رئيسي متمثل في تمكين الميليشيات والتيارات السياسية الليبية الحليفة من السيطرة على كامل البلاد، أو إدامة الصراع الليبي عبر تقديم الدعم العسكري والغطاء السياسي لحلفائها الليبيين، بما يحول دون إقصائهم عن السلطة ووصول تيارات ليبية ذات توجهات وطنية.
ثانيًا- تأتي المتغيرات الدولية لتضع المزيد من الضغوط على المشروع التركي في ليبيا، حيث حرصت تركيا لسنوات على الاستفادة من تناقضات المواقف الدولية من الأزمة الليبية، وآخرها التناقض الفرنسي الإيطالي الذي مثّل فرصةً جديدةً لإدامة الأزمة الليبية لوقت أطول. فبينما أقر مؤتمر باريس المنعقد في مايو 2018 أسبقية المسار السياسي ممثلًا في إجراء انتخابات على غيره من المسارات الأمنية والعسكرية والاقتصادية؛ فقد تبنت إيطاليا كما ظهر في مؤتمر باليرمو نهجًا مغايرًا يقوم على تثبيت حالة من الاستقرار على الأرض قبل الشروع في إجراء الترتيبات السياسية.
وقد بادرت تركيا إلى تأييد مقررات مؤتمر باريس التي اقتضت عقد انتخابات في ديسمبر 2018، وهو ما يفسره عدم واقعية الطرح من الأساس، مما يحقق هدف استدامة الأوضاع القائمة خصوصًا في الغرب. لكن مؤتمر باليرمو حمل العديد من الأخبار السيئة لتركيا، فمن ناحية مثّل المؤتمر فرصة لتجاوز الخلاف الفرنسي الإيطالي بشأن ليبيا، فبالرغم من أن إيطاليا لم تكن مدعوة للمشاركة في مؤتمر باريس المنعقد في مايو 2018، فقد شهد مؤتمر باليرمو توجيه الدعوة للمشاركة الفرنسية، والتي قبلتها فرنسا بإيفاد وزير خارجيتها “جان إيف لودريان” الذي شارك في أعمال المؤتمر، وكذلك في اجتماع صباح الثلاثاء، ليتم تجاوز الانقسام الأوروبي ولو صوريًّا. ومن ناحية ثانية جاء انحياز المؤتمر منذ الإعداد له للطرح المصري في توحيد القوات المسلحة الليبية، ليشير إلى اتجاه الأوضاع في ليبيا لاستقرار حقيقي يهدد مصالح تركيا وحلفائها.
ثالثًا- لم تكن المشاركة المصرية في أي من الجهود الدولية المبذولة لتسوية الصراع في ليبيا، منذ نشوبه، بغرض تحقيق مكاسب سياسية أو لفرض ترتيبات إقليمية مواتية، وإنما كان محركها الأساسي الرغبة في تحقيق الاستقرار في واحدة من دول الجوار المصري المباشر. وقد انعكس هذا التوجه مبكرًا في انفتاح مصر على مختلف الأطراف الليبية، والتي كان الكثير منها بعيدًا عن التوجهات المصرية في مناسبات عديدة.
وتأتي الجهود المصرية في توحيد القوات المسلحة الليبية، سواء باستضافة القاهرة لسلسلة من الاجتماعات، أو بمشاركة الرئيس عبد الفتاح السيسي في مؤتمر باليرمو؛ استمرارًا للمواقف المصرية الثابتة بشأن ضرورة إنهاء حالة الانقسام في ليبيا، والتوصل إلى حل يقبله جميع الليبيين بما يحقق استقرارًا مستدامًا تعم فوائده على ليبيا أولًا ومن ثم الإقليم بأسره.
وترتيبًا على كل ما تقدم، يأتي استبعاد تركيا من ترتيبات توحيد القوات المسلحة الليبية، ليضعف من قدرتها على التدخل في مسار التسوية في المستقبل. الأمر الذي قد يدفعها تلقائيًّا لتأمين مصالحها في ليبيا عبر إطالة أمد الصراع، سواء من خلال دفع حلفائها لتبني مواقف سياسية متشددة معطلة للتسوية، أو بتقديم دعم مالي وعسكري للميليشيات خصوصًا في الغرب الليبي، لتوفير بيئة غير مواتية لترتيبات التسوية كالاستفتاء الدستوري والانتخابات. لكن تأثير هذه الخطوات المتوقعة من الجانب التركي يظل رهنًا بالإرادة الدولية التي يبدو أنها بدأت تدفع بقوة أكبر في اتجاه التسوية.