علن الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان”، في الرابع عشر من شهر ديسمبر الجاري (2018)، عن اقتراب بلاده من شن عمليات عسكرية بشرق الفرات، تستهدف إخلاء المنطقة من “الإرهابيين الانفصاليين” على حد وصفه. ويقصد بذلك “وحدات حماية الشعب”، التي تعتبرها تركيا امتدادًا لحزب العمال الكردستاني المحظور داخل تركيا، نتيجة لتحركاته الساعية نحو إقامة إقليم كردي مستقل بجنوب شرق تركيا.
ويأتي الإعلان التركي الأخير ضمن سلسلة من التهديدات التي سبق وأن أطلقها الرئيس التركي منذ أكتوبر الماضي، عندما صرح آنذاك عن توجه بلاده نحو منطقة شرق الفرات بدلًا من صب التركيز فقط على “منبج”. وقد أعقب هذا التحذير قصف الجيش التركي لمواقع كردية شرقي الفرات. ولم يتوقف القصف عند الحدود السورية فقط، بل امتد الأمر إلى الهجوم على أكراد العراق من خلال شن الطيران التركي غارات جوية ضد أهداف لحزب العمال الكردستاني في منطقتي “جبل سنجار” و”جبل كورك”.
الوضع الميداني لتركيا وقوات سوريا الديمقراطية
يمتلك الجيش التركي عدة قواعد عسكرية في سوريا، هي: قاعدة “جرابلس” في ريف حلب، وقاعدة “أخترين”، وقاعدة “إعزاز”، وقاعدة “جبل الشيخ بركات” ذات الأهمية الاستراتيجية. وهناك أيضًا قاعدة “تفتناز” الجوية ومطار أبو ضهور، وهما يستخدمان لإدارة العمليات التركية في إدلب. هذا بالإضافة إلى ما تُشير إليه تقارير عن نية تركيا التوسع في تشييد ثماني قواعد إضافية بحجة مراقبة الحدود مع سوريا، إلى جانب العديد من نقاط المراقبة.
وعملت تركيا على توطيد وجودها ونفوذها داخل الأراضي السورية من خلال قيامها بعمليتين عسكريتين شمال سوريا، وتحديدًا غرب نهر الفرات، حيث عملية “درع الفرات” بمدينة جرابلس الحدودية التابعة لمحافظة حلب، التي استهدفت تنظيم الدولة الإسلامية والمسلحين الأكراد، واستمرت مدة ثمانية أشهر حتى مارس 2017. وكذلك عملية “غصن الزيتون” في يناير 2018 بمدينة عفرين السورية، والتي استمرت لمدة شهرين، واستهدفت فيها المسلحين الأكراد.
على جانب آخر، فإن “قوات سوريا الديمقراطية” تتكون من فصائل كردية وعربية، وتعد بمثابة القوة العسكرية الثانية بعد القوات الحكومية، نظرًا لسيطرتها على مناطق واسعة في شمال وشرق سوريا، ونتيجة لما حظي به ذلك الفصيل من دعم أمريكي، من خلال قيام الولايات المتحدة بتجنيد وتدريب وتسليح المقاتلين الأكراد للعمل كقوات برية بالتلازم مع الضربات الجوية الأمريكية المتلاحقة ضد مسلحي “داعش”. وقد نجحت قوات سوريا الديمقراطية في نهاية المطاف في طرد تنظيم الدولة الإسلامية من مناطق سورية عدة.
دوافع تركية
يمكن تفهّم التهديدات التركية ضد شرق الفرات في ضوء مجموعة من الدوافع، منها ما هو أمني، ويعكس رغبة تركية في تأمين حدودها مع الجانب السوري، وتقويض أية تهديدات كردية متعلقة بتشكيل منطقة حكم ذاتي على حدودها الجنوبية. وهناك أيضًا دوافع ميدانية تتعلق بتعزيز تركيا تواجدها الميداني في منطقة الشمال الشرقي السوري كقوة فاعلة ومؤثرة، ولضمان إحكام سيطرتها على مجريات الأوضاع الحالية بالداخل السوري أو الترتيبات المستقبلية، بما يتناسب مع رؤيتها، سواء من الناحية السياسية أو من الناحية العسكرية.
ومن بين هذه الدوافع أيضًا تأخر الولايات المتحدة في تنفيذ اتفاق “منبج” الذي يقضي بانسحاب وحدات حماية الشعب الكردية من مدينة منبج، بحيث يتولى الجانبان الأمريكي والتركي إدارة المدينة حتى يتم إنشاء إدارة محلية. وتتمثل أهمية منبج بالنسبة لتركيا في كونها تبعد 30 كيلومترًا فقط عن حدودها، وتقع بمحاذاة مناطق سيطرة الفصائل الموالية لها، وأبرزها مدينة الباب غربًا، وجرابلس شمالًا. وقد تمثل هذا التأخير، إضافة إلى استمرار الدعم الأمريكي للأكراد، في إحداث حالة من الخلاف بين الجانبين، خاصة مع استمرار الطلب التركي بوقف الدعم الأمريكي لأكراد سوريا، الأمر الذي أدى إلى إعلان الرئيس التركي مؤخرًا أنه “إذا لم يُخرج الأمريكيون إرهابيي (الوحدات الكردية) من منطقة منبج، فستُخرجهم تركيا منها”.
ردود الفعل حيال التهديد التركي
أثار التهديد التركي ردود فعل -محلية ودولية- متعددة. فمحليًّا، لقيت العملية التركية المخططة ضد شرق الفرات تأييدًا من جانب “الجيش الوطني” السوري (الجيش السوري الحر سابقًا)، كما أعلن عن استعداده للمشاركة فيها بدعوى القضاء على المنظمات الإرهابية الساعية إلى تقسيم سوريا. ودوليًّا، كان رد الفعل الأمريكي هو الأكثر بروزًا، كون الولايات المتحدة هي الداعم الأكبر للأكراد، والتي تسعى إلى الحيلولة دون تنفيذ تركيا لتهديداتها. وكانت البداية بإقامة نقاط مراقبة شمال سوريا قرب الحدود التركية لمنع حدوث أي مواجهة، ثم إعلان البنتاجون عن عدم قبوله أي عمل عسكري أحادي بمنطقة الشمال الشرقي السوري، خاصةً في منطقة يُحتمل وجود طواقم أمريكية فيها. وأخيرًا كان الإعلان عن “تعاون أكثر فعالية بالنسبة لسوريا”، وما أعقب ذلك من إعلان تركيا تنسيق عملياتها العسكرية مع الولايات المتحدة وروسيا.
من ناحية أخرى، عملت الولايات المتحدة على توجيه رسائل إلى “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية”، و”الجيش الوطني”، هددت فيها بأن العناصر التي ستشارك في أي عملية تركية شرق الفرات ستواجه الجيش الأمريكي “بشكل مباشر”. كما سعت الولايات المتحدة إلى التفاوض مع الجانب الكردي بشأن نشر قوات من البيشمركة على الحدود الشمالية لتخفيف حدة التوتر. وإلى جانب الجهود الأمريكية، أعلن الأكراد عن “نفير عام” وتعليق أي عمل عسكري ضد “داعش” في حال تم تنفيذ الهجوم التركي، إلى جانب تقديم وحدات حماية الشعب الكردية للنظام السوري دعوة للتعاون لصد التهديد التركي.
وبالرغم من التوافق التركي-الإيراني حيال التهديد الكردي، إلا أن هذا التوافق لم يبرز خلال تعليق المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية على المخططات التركية، وذلك لتأكيده على ضرورة قيام أنقرة بالتنسيق المسبق مع الحكومة السورية قبيل إجراء أي عملية، كما حذّر من “تبعات تجاهل التأكيد الإيراني على الأوضاع السورية”.
سيناريوهات محتملة
في ظل المعطيات السابقة، يمكن تصور ثلاثة سيناريوهات أساسية بشأن العمليات العسكرية التركية المحتملة بمنطقة شرق الفرات داخل سوريا.
السيناريو الأول: إطلاق تركيا هجومًا بريًّا تستند فيه بالأساس إلى مشاركة قوات من الجيش الوطني وفصائل المعارضة المسلحة مصحوبًا بغطاء جوي تركي. ويستند ذلك إلى ما أعلنه الرئيس التركي سابقًا من توعد بشن عملية برية في منطقة شرق الفرات، إلى جانب إعلان فصائل المعارضة المسلحة استعداد 15 ألف مقاتل المشاركة في العملية العسكرية المرتقبة، فضلًا عن الممارسة التركية السابقة في عملية “غصن الزيتون”.
السيناريو الثاني: التراجع عن القيام بأي عملية عسكرية، ويستند هذا السيناريو إلى التنسيق التركي-الأمريكي داخل مناطق الشمال الشرقي السوري، وتنفيذ اتفاقية منبج، وأيضًا تقديم الجانب الأمريكي ضمانات من شأنها منع أي تهديد كردي للحدود أو للداخل التركي. كذلك فإن من مصلحة تركيا توطيد علاقتها مع الولايات المتحدة (حليفتها في الناتو)، خاصة بعد ما شهدته العلاقات مؤخرًا من توترات.
السيناريو الثالث: هو الوصول إلى حل وسط، تقوم فيه تركيا بتوجيه ضربات جوية محددة لأهداف ومواقع ومستودعات تخزين كردية، كالتي نفذتها في المواقع الكردية بالعراق. ويستند هذا السيناريو إلى الاتفاق المسبق مع الولايات المتحدة على ضرب مواقع محددة فقط.
” ويظل الأمر الحاكم لتحقق أي من هذه السيناريوهات هو المدى الذي يمكن أن تصل إليه العلاقات والاتصالات والرؤى الأمريكية والتركية من توافق أو اختلاف. يُضاف إلى ذلك ما قد يقتضيه التنسيق التركي-الروسي، خاصةً في ظل تحميل روسيا مسئولية تدهور الأوضاع للجانب الكردي، وكذلك رفضها ما أسمته “الخطوات الأمريكية بشأن محاولة إنشاء كيان انفصالي بالمنطقة”، وهو ما يتلاقى مع الرؤية التركية. “