أصدر صندوق النقد الدولي تقريره الخاص بشأن الاقتصاد المصري، ليتناول ما واجهته مصر خلال أكثر من سنتين من أزمات دولية متعاقبة وكان لها تأثير مباشر وقوي على الاقتصاد المصري، فمن أزمة جائحة كورونا التي أظهرت مصر فيها مرونة في مواجهة صدمة انتشار جائحة كورونا إلا أن الأزمة الصحية أخرت الجهود المبذولة لإعادة تنشيط الإصلاحات الهيكلية التي بدأتها الدولة، في حين استمرت نقاط الضعف الشديدة في الدين العام في تعريض البلاد لتحديات مالية وأخرى متعلقة بتوجه المستثمرين.
ومن أزمة كورونا إلى الحرب الروسية الأوكرانية التي اندلعت مع وجود ضغوط مسبقة التي أدت إلى خروج تدفقات رأس المال إلى الخارج وخسائر كبيرة في الاحتياطيات بالبنك المركزي والبنوك التجارية، وأدى ارتفاع أسعار السلع الأساسية وأسعار أسواق الطاقة العالمية إلى ارتفاع مستمر في التضخم، وكانت التداعيات التجارية كبيرة أيضًا نظرًا لاعتماد مصر على روسيا وأوكرانيا في وارداتها من القمح وعلى قطاع السياحة المصري الذي يستقبل أعدادًا كبيرة من السياح الروس والأوكرانيين سنويًا، كل هذه التحديات دفعت بالدولة المصرية لاتخاذ عدة إجراءات للتقليل من تداعيات تلك الأزمات على الاقتصاد المصري وحماية المواطن المتضرر وبشكل خاص الفئات الأكثر فقرًا.
أولًا: تحديات الاقتصاد المصري
واجه الاقتصاد المصري أزمة انتشار فيروس كورونا واتخاذ الدولة سياسة الإغلاق لتحجيم انتشار الفيروس، وتحركت الدولة المصرية سريعًا لحماية الاقتصاد من خلال الإسراع بوضع سياسات مالية ونقدية في الوقت المناسب للسيطرة على الأثر الاقتصادي للأزمة على الداخل، كما تعاونت الدولة مع صندوق النقد الدولي من خلال برنامج أداة التمويل السريع (RFI) (هو عبارة عن مساعدات مالية عاجلة لكل البلدان الأعضاء التي تواجه موازين مدفوعاتها احتياجات ماسة)، وبرنامج التثبيت (SBA) الذي يهدف إلى تخفيف الأثر الاقتصادي لوباء كورونا كوفيد 19 والذي استمر لمدة 12 شهرًا والتي انتهت في يونيو 2021، مما أدى إلى موازنة الإنفاق الصحي والاجتماعي مع الحفاظ على الاستدامة المالية واحتواء تقلبات النشاط الاقتصادي، لتستطيع مصر أن تخرج من الأزمة بتحقيق قيمة الناتج المحلي الإجمالي ارتفاعًا خلال عام 2020/2021 وذلك ليصل إلى 1066.3 مليار جنيه في الربع الرابع مقارنة بما كان عليه 982.6 مليار جنيه في الربع الأول من العام، ويوضح الشكل التالي تطور الناتج المحلي الإجمالي خلال عام 2020/2021:

كما سجلت مصر أرقامًا قياسية فيما يتعلق بالاحتياطي من النقد الأجنبي خلال عام 2021، ويمكن متابعة تطور صافي الاحتياطي النقدي من خلال الشكل التالي:

وعلى الرغم من عمليات الإغلاق الأولية والتجميد المطول في قطاع السياحة تمت إعادة بناء مخزون احتياطي كما هو موضح في الشكل السابق، وتم الحفاظ على معدل نمو إيجابي خلال السنة المالية 2020/2021، وبلغ الفائض الأولي في السنة المالية 2020/2021 (المنتهية في يونيو 2021) 1.4% من إجمالي الناتج المحلي، على الرغم من ارتفاع الدين الحكومي العام إلى 89.9% من إجمالي الناتج المحلي من 86.2% في العام السابق، وتعافى مخزون البنك المركزي المصري من العملات الأجنبية، كما تم احتواء التضخم عند 4.9% في نهاية السنة المالية 2020/2021، وظل ضمن النطاق المستهدف من قبل البنك المركزي المصري، متابعة تطور معدلات التضخم من خلال الشكل التالي:

وعلى الرغم من الأداء القوي في ظل اتفاقية الاستعداد الائتماني، إلا أن معالجة الأزمة الصحية الفورية أخرت الإصلاحات الهيكلية المطلوبة بشدة. وبالإضافة إلى ذلك، استمر ارتفاع الدين العام واحتياجات تمديد قدر كبير من الديون في تعريض البلاد للصدمات الخارجية، كما اتسع عجز الحساب الجاري خلال عام 2021 وحتى الربع الأول من عام 2022، مما يعكس زيادة الطلب على الواردات.
أيضًا أدى استقرار سعر الصرف بشكل متزايد منذ نهاية اتفاقية الاستعداد الائتماني التي كانت بالتعاون مع صندوق النقد الدولي وتم الإشارة إليها سابقًا إلى إعادة تراكم الاختلالات الخارجية، وتم تمويل عجز الحساب الجاري من خلال سحب صافي الأصول الأجنبية للبنوك حلول نهاية فبراير 2022، ليبلغ صافي الأصول الأجنبية للبنوك أدنى مستوى تاريخي له بانخفاض بأكثر من 18 مليار دولار منذ الذروة في فبراير 2021.
ووسط كل ذلك اندلعت الحرب في أوكرانيا وارتفعت أسعار السلع الأساسية وأسعار الطاقة العالمية إلى مستويات لم تشهدها من قبل والتي أثرت بشكل كبير على الاقتصاد المصري الذي لم يتعافَ بالكامل من تأثير أزمة كورونا.
ثانيًا: الإجراءات التي اتخذتها الدولة كاستجابة لتداعيات الحرب
أدى اندلاع الحرب في أوكرانيا، بالإضافة إلى تأثيرها على أسعار السلع الأساسية، إلى مضاعفة ضغوط كانت موجودة مسبقًا، مما دفع السلطات إلى اتخاذ سلسلة من الإجراءات كاستجابة على التداعيات، وذلك وفقًا لتقرير صندوق النقد الدولي:
- أصدر البنك المركزي المصري في فبراير تعليمات للبنوك بالانتقال إلى خطابات الاعتماد باعتبارها الوسيلة الوحيدة لتسهيل الاستيراد، مما ساهم في ضغط كبير على الواردات.
- خلال الفترة من فبراير إلى مارس، ضغطت التدفقات الخارجة لغير المقيمين التي بلغت 20 مليار دولار أمريكي على سوق الدين بالجنيه المصري، وقبل الحرب تدخل البنك المركزي بشكل مكثف في سوق العملات الأجنبية لتثبيت سعر الصرف مع دعم الاحتياطيات من ودائع العملات الأجنبية قصيرة الأجل من شركاء دول مجلس التعاون الخليجي، وبين يناير ومارس، انخفض إجمالي الاحتياطيات الدولية، مما اضطر البنك المركزي المصري في 21 مارس أن يسمح بتخفيض قيمة الجنيه بنحو 15% ورفع أسعار الفائدة بمقدار 100 نقطة أساس لتصل إلى 9.25%، وأصدرت البنوك المملوكة للدولة شهادات إيداع عالية العائد لمدة عام (18%) لزيادة تشديد السيولة والحد من الضغوط المحتملة على الجنيه، لكن النشاط والتوقعات الاقتصادية ما زالا يتعرضان للعراقيل بسبب انخفاض الواردات، وضعف سوق العملات الأجنبية، والظروف المالية العالمية المشددة، بعد التعديل لمرة واحدة في مارس، أظهر سعر الصرف تقلبًا أكبر، وإن كان أقل بكثير من نظرائه في الأسواق الناشئة.
- أعلنت الحكومة عن حزمة من تدابير الحماية الاجتماعية والأمن الغذائي بقيمة 130 مليار جنيه مصري (1.7% من الناتج المحلي الإجمالي)، بما في ذلك مخصصات للمستفيدين الجدد في إطار برنامج التحويل النقدي المشروط تكافل وكرامة، وتم الإعلان عن دعم إضافي للأسر في يوليو للتخفيف من آثار أزمة تكلفة المعيشة، بما في ذلك التوسع الإضافي لمليون أسرة في إطار تكافل وكرامة وزيادة مؤقتة في المزايا لحاملي البطاقات التموينية الأكثر فقرًا، وأعلنت وزارة المالية خلال المؤتمر الاقتصادي عن زيادة كبيرة في حزمة الحماية الاجتماعية (70 مليار جنيه) لحماية القوة الشرائية للأسر.
- وضعت الدولة المصرية أيضًا قيود على الاستيراد ليتباطآ بنسبة 13.2% في نهاية السنة المالية 2021/2022، مما أدى إلى تحسن الحساب الجاري مع انخفاض الواردات غير النفطية وارتفاع صادرات مصر من النفط والغاز على أثر مضاعفة الدولة جهودها والإصلاحات التي نفذتها في قطاع الطاقة مما أدى إلى زيادة صادرات الغاز، ويمكن متابعة تطور قيمة صادرات مصر البترولية التي ساهمت في تحسن الحساب الجاري من خلال الشكل التالي:

- ومع استمرار ارتفاع الأسعار، قام البنك المركزي بتشديد السيولة، ورفع أسعار الفائدة بمقدار 200 نقطة أساس أخرى في مايو ورفع متطلبات الاحتياطي القانوني من 14% إلى 18% في سبتمبر، وفي 27 أكتوبر 2022 أقر البنك المركزي المصري آلية تحديد سعر صرف قيمة الجنيه المصري مقابل العملات الأجنبية الأخرى بواسطة قوى العرض والطلب ضمن نظام سعر صرف مرن، ورفع البنك المركزي أسعار الفائدة بمقدار 200 نقطة أساس، وقام البنك المركزي المصري أيضًا بزيادة حد قيمة الاستيراد للإعفاء من متطلبات خطاب الاعتماد، وبسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية العالمية، أصبحت العوامل الدافعة للتضخم أوسع في السنة المالية 2022/2023.
- دفعت الدولة نحو تنشيط النمو الذي يقوده القطاع الخاص حيث تمت مناقشة مسودة سياسة ملكية الدولة، التي توضح خطة تقليص بصمة الدولة وزيادة دور القطاع الخاص في الاقتصاد، كما تم بذل الجهود لجذب الاستثمار الأجنبي المباشر.
وأخيرًا، فيما يتعلق بتوقعات الاقتصاد المصري خلال السنوات القليلة القادمة فإن صندوق النقد توقع تراجع نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى 4% خلال العام المالي الجاري 2022/2023، ويمكن متابعة تطور الناتج المحلي الإجمالي والتضخم من خلال الشكل التالي:

يبين الشكل اتخاذ نمو الناتج المحلي الإجمالي اتجاهًا تصاعديًا ليصل إلى 5.3% عام 2023/2024 ومنه إلى 5.7% عام 2024/2025، كما يتوقع الصندوق ارتفاع معدلات التضخم ليصل إلى 14.8 العام الحالي مع ارتفاع أسعار السلع العالمية وبالتالي ارتفاع فاتورة الاستيراد، إلا أنه سيتراجع فيما بعد ليسجل 8.7% عام 2023/2024 ومنه إلى 7% عام 2024/2025، كما توقع الصندوق تراجع نسبة الدين الخارجي من الناتج المحلي الإجمالي لتحقق 17.1% بحلول عام 2024/2025، وانطلاقًا من ذلك عبرت تلك الأرقام عن النظرة التفاؤلية التي توقعها صندوق النقد الدولي بشأن الاقتصاد المصري في الأجل القصير خاصة مع الجهود التي تبذلها الدولة لإدارة تحديات الأزمات الخارجية التي تتعرض لها وبما يضمن التخفيف من حدة تأثيرها على الاقتصاد.