بدأ اقتصاد جنوب أفريقيا في التباطؤ ما بين أعوام 2017-2019، ثم تحول إلى النمو بالسالب في عام 2020. واستؤنف النمو ببطء في عام 2021، خلال النصف الثاني من العام، ولكن فرضت الحكومة رقابة اقتصادية شديدة. تلك الإجراءات بموجبها أدت إلى انخفاض حاد في معدلات النمو الاقتصادي.
وقد تحقق هذا الأداء المتراجع على الرغم من أن جنوب أفريقيا تتمتع باقتصاد متطور للغاية وبنية تحتية متطورة، فضلاً عن كونها واحدة من أكبر مصدري الذهب والبلاتين، كما تحتوي أيضاً على احتياطيات من خام الحديد والمنغنيز والكروم والنحاس واليورانيوم والفضة والبريليوم والتيتانيوم والموارد الطبيعية الأخرى، وتمتلك قطاعات مالية وقانونية واتصالات وطاقة ونقل راسخة وأكبر بورصة في القارة.
حيث تبدو معدلات البطالة والفساد في القطاع الرسمي مرتفعة جدًا مقارنة بدول أفريقية أخرى، كما يعاني الاقتصاد في جنوب أفريقيا من أزمة حقيقية في ظل ارتفاع معدلات البطالة، وفشل جميع محاولات الحكومة في تدوير عجلة الاقتصاد لخلق وظائف جديدة، وحيث تفتقر الحكومة إلى وجود أفكار ورؤية فإن الأزمة مرشحة للتجذر والتفاقم.
وعلى مدى الثلاث سنوات الماضية، سجلت جنوب أفريقيا أعلى معدل لضريبة الدخل الفردي هو 45%، وأعلى معدل ضريبة على الشركات هو 28%. تشمل الضرائب الأخرى ضرائب القيمة المضافة والأرباح الرأسمالية. العبء الضريبي الكلي يساوي 29.1٪ من إجمالي الدخل المحلي. بلغ الإنفاق الحكومي 32.6 %، من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي، وبلغ متوسط عجز الميزانية 7.2 % من الناتج المحلي الإجمالي. مما ارتفع الدين العام بمعدل 77.1٪ من الناتج المحلي الإجمالي.
أسباب هيكلية
ويمكن إرجاع الأزمة الاقتصادية المتفاقمة في جنوب أفريقيا لمجموعة من الأسباب الهيكلية المتجذرة في طبيعة البنية الاقتصادية والسياسية في البلاد منذ التحول السياسي في عام 1994، والتي تتمثل في:
1. هيمنة حزب المؤتمر: سيطر المؤتمر الوطني الأفريقي (ANC) على السياسة في جنوب أفريقيا منذ نهاية الفصل العنصري في عام 1994. وأجبرت فضائح الفساد الرئيس جاكوب زوما الذي تولى ولايتين على الاستقالة في عام 2018. وحل محله سيريل رامافوزا، الذي حصل على ولاية مدتها خمس سنوات ولكنه بدأ من حيث انتهى سلفه الرئيس السابق زوما حيث يلاحقه القضاء في عملية فساد، تلك المعضلة دفعت حزب المؤتمر الأفريقي إلى تأجيل اجتماعات لجنته المركزية عدة مرات كان آخرها في 5 من يناير 2023، ولا يزال الفساد عقبة في بناء اقتصاد قوي ومتماسك.
2. فساد القطاع العام: فضلاً عن فشل حكومة الرئيس راما فوزا في خلق حلول لأهم قضايا البطالة والمشكلات المستعصية، كما لا يتم تحفيز القطاعين العام والخاص لحل هذه القضايا التي تتعلق بالأزمة الاقتصادية، فالقطاع العام مترسخ فيه استراتيجية شبكة المصالح لكوادر الحزبية التي دفعت هذا البلد إلى حافة الإفلاس. ويواصل القطاع الخاص التمسك بنموذج نادي الأولاد القديم الذي استمر في الحد من الإدارة السوداء لأقل من 30٪ من الإجمالي، ما تمثل شبكات الفساد المنتشرة في جميع أنحاء البلاد تعرقل جهود عمل الحكومة في تحسين أداء الاقتصاد في جنوب أفريقيا.
3. نمط التعليم وغياب الكفاءة: من العوامل التي دفعت الاقتصاد للتدهور، ويكمن جوهر المشكلة في نظام التعليم القديم الذي لم ينجح في تحويل نفسه من النموذج قبل الفصل العنصري، الذي كان يثقف المجتمع لإنتاج بيروقراطيين متوافقين، إلى نظام تعليمي حديث يهدف إلى تخريج صناعيين بارعين في التكنولوجيا. وقد كانت النتائج كارثية من الناحية الاقتصادية. وفقًا لوكالة التصنيف موديز، من بين 30 من اقتصاديات السوق الناشئة، كان لجنوب أفريقيا أكبر حصة من العمال غير المطابقين للحد الأدنى من معايير الكفاءة بأكثر من 50٪ من الإجمالي، وأدنى مستويات الإنتاجية. ووفقًا لمجموعة بوسطن الاستشارية، تتوقع منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن البطالة لن تقلّ عن عتبة 30٪ قبل نهاية عام 2023.
ويمكن القول إن عددًا من القضايا فشلت الحكومة في القيام بها بسبب عدم القدرة على محاربة الفساد المباشر لتحريك برامج تشغيل الشباب، ودفع القطاعين العام الخاص إلى العمل، لعدة أسباب أبرزها فشل الإجراءات الحكومية التي اتخذتها لضمان حصول الشباب العاطلين عن العمل على تدريب كافٍ لكسب مزيدٍ من المهارات الأساسية في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وانخفاض تمويل برامج التدريب المهني، وعدم وجود جودة تعليم في كليات التعليم والتدريب التقني والمهني، وانعدام العلاقة بين القطاعين العام والخاص من أجل تأهيل الكوادر علميًا.
4. غياب الشفافية: تعاني المحاكم من المحسوبية، ونقص الكفاءات، وتفتقر إلى الشفافية، مع سياسة الإفلات من العقاب. على الرغم من أن لدى جنوب أفريقيا سبع اتفاقيات تجارية تفضيلية. ويبلغ متوسط معدل الرسوم الجمركية المرجح للتجارة 6.4%، وهناك 176 إجراء غير جمركي ساري المفعول. ولا تزال القوانين غير الشفافة تعرقل الاستثمار الخاص، ويواجه الاستثمار الأجنبي قيودًا إضافية تؤدي إلى عدم مساهمته الفعالة في الاقتصاد.
جهود غير كافية
في يناير 2023، أطلق الاتحاد الوطني للعمال في جنوب أفريقيا منصة رقمية لجمع ملايين العاطلين عن العمل National Unemployed Workers Union (NUWU)، كورقة ضغط جديدة لسياسة حزب المؤتمر الأفريقي الحاكم، من أجل تدريب وصقل مهارات العاملين المهمشين اقتصاديًا من خلال فك وكسر الإجراءات المقيدة التي تتبعها الحكومة في حرمان قطاع كبير من العمالة في المنافسة في سوق العمل، وكان معدل البطالة في الربع الثاني من عام 2021 من بين أعلى المعدلات في العالم، مما ارتبط ارتفاع الفساد المستشري في القطاعين العام والخاص وارتفاع نسبة الجريمة في البلاد، وبالتالي ساهم في عدم قدرة الحكومة على استخدام رأس مالها الاستثماري لخلق فرص عمل جديدة، وتطوير تلك المؤسسات التي أصحبت أقل منافسة وكفاءة.
وتهدف السياسة الاقتصادية لحزب المؤتمر الوطني في المقام الأول إلى استدامة النمو وتحقيق قدر من الاكتفاء الذاتي في القطاعين الاقتصادي والصناعي، سواء كانت مواد خام أو مصنعة. ومع ذلك، هذا النهج أدّى إلى ارتفاع معدّلات التضخم، وعلى إثره تراجعت فرص الاستثمارات في العديد من المجالات، حتى أصبحت السياسة الاقتصادية في جدل كبير بين فئتين: الأولى تفضل الاستحواذ على السوق، والثانية تفضل سياسة صناعية تقودها الصادرات.
هكذا يمكن القول إن الأزمة الاقتصادية في جنوب أفريقيا تقف خلفها عوامل هيكلية، ولا تملك الحكومة رؤية ولا خططًا مدروسة من أجل الخروج من هذا المأزق، وتفاقم الأزمات الخارجية التي أعقبت تفشي وباء كورونا، والأزمة الأوكرانية من المتاعب والتحديات، الذي يؤشر إلى أن الأوضاع قد تتجه نحو الأسوأ، وهذا لا شك سوف يلقي بظلاله على هيمنة الحزب الحاكم الذي يواجه واحدة من أكبر الأزمات الاقتصادية منذ تأسيس النظام الجديد مطلع التسعينيات.