شهدت العلاقات الأوروبية-التونسية زخمًا متواصلًا على مدار الأشهر الماضية، سواء على مستوى زيارة المسئولين الأوروبيين إلى تونس، أو مشاركة تونس في المؤتمر الدولي للهجرة والتنمية الذي نظمته روما في يوليو الماضي، الأمر الذي يمكن تفسيره بأن ثمة مصالح مشتركة تتلاقى بينهما خلال الفترة القادمة، فمن ناحية تحاول أوروبا دعم تونس في أزمتها الاقتصادية، ومن ناحية ثانية تهدف إلى مواجهة أزمة الهجرة التي تُلقي بتبعاتها على الدول الأوروبية نتيجة عبورهم تونس، وأخرى ثالثة بهدف تعزيز النفوذ الأوروبي في شمال أفريقيا وعبر البحر الأبيض المتوسط. وعليه نناقش هنا دوافع التقارب بين الطرفين خلال الفترة الأخيرة على النحو التالي:
• تعزيز الشراكة الاستراتيجية: تتعدد أبعاد الشراكة الاستراتيجية بين تونس والاتحاد الأوروبي ويمثل الأخير الشريك التجاري الأكبر لتونس، حيث استحوذ على 56٪ من تجارتها، وبلغ حجم واردات الاتحاد من تونس نحو 70% في عام 2022، بينما بلغ حجم صادراته إلى تونس نحو 46%. كما يستمر الدعم الأوروبي لها في ظل المخاطر التي تواجه الدولة، وتُعد تونس أول دولة في جنوب البحر الأبيض المتوسط مُوقعة على الاتفاقية الأورو-متوسطية وقد أنشأت شراكة مع الاتحاد الأوروبي منذ 17 يوليو 1995. وتمثل العلاقات الثنائية جزءًا لا يتجزأ من سياسة الجوار بهدف دعم الاستقرار والأمن والازدهار في جنوب وشرق البحر الأبيض المتوسط.
تزايد مستوى الشراكة بين بروكسل وتونس في أعقاب الثورة التونسية في نوفمبر 2012 بموجب خطة عمل متعددة القطاعات لتعزيز التعاون في الفترة من 2013-2017 وكان من بينها: اتفاقية التجارة الحرة (DCFTA)، والشراكة من أجل التنقل، علاوة على الحوار السياسي حول الأمن ومكافحة الإرهاب ومشاركة تونس في برنامج Horizon 2020 (البرنامج الإطاري الثامن للبحوث والتنمية التكنولوجية للاتحاد الأوروبي 2014-2020).
ولتونس دور في تعزيز التعايش بين دول شمال أفريقيا بما يُسهم في تحقيق الأمن الاجتماعي والسياسي في منطقة الساحل. إلا أنه خلال الفترة الماضية وعقب الثورة التونسية واجهت الدولة تحدي الإرهاب في المناطق الحضرية والريفية في عام 2013، وتعرضت لهجمات بارزة على متحف باردو في تونس وفندق إمبريال مرحبا في سوسة. علاوة على ضعف دور قوات الأمن ما بعد الثورة التونسية بما ساهم في ارتفاع الهجرة غير النظامية وتهريب المهاجرين إلى أوروبا.
وارتباطًا بذلك، تم توقيع اتفاق شراكة استراتيجية بين الاتحاد الأوروبي وتونس في 16 يوليو الماضي بحضور رئيسة الوزراء الإيطالية “جورجيا ميلوني” ورئيس الوزراء الهولندي “مارك روته” ورئيسة المفوضية الأوروبية “أورسولا فون دير لان”، وقد تضمن أوجهًا مختلفة للتعاون شمل التنمية الاقتصادية واستقرار الاقتصاد التونسي والتحول الأخضر والرقمي، فضلًا عن إدارة الهجرة، مع تقديم مليار يورو لمجابهة الهجرة غير الشرعية، وتم عرض 105 ملايين يورو على تونس للحد من الهجرة غير المنتظمة و150 مليون يورو دعمًا فوريًا، بما في ذلك قرض طويل الأجل بقيمة 900 مليون يورو للاقتصاد التونسي في مقابل تعزيز قبضتها الأمنية على حدودها البحرية، ومنع هجرة الأفراد عبر سواحلها إلى الجنوب الأوروبي، وتسهيل إجراءات ترحيل المهاجرين التونسيين غير النظاميين في أوروبا.
وتساهم الأموال المقدمة من الاتحاد الأوروبي في إدارة الحدود واقتناء تونس المعدات وإجراء التدريب والدعم الفني بشكل أساسي بما يخفض من الظاهرة، علاوة على أنه تم طرح مبادرة “شراكة المواهب” لتعزيز الهجرة القانونية، وإعادة المواطنين التونسيين إلى وطنهم، خاصة أن عدد التونسيين وصل في 2022 إلى أكثر من 18 ألفًا. وفي هذا السياق، أشارت رئيسة المفوضية الأوروبية “أورسولا” في تصريحاتها إلى أن الاتفاق مع تونس يمثل نموذجًا لدول أخرى يمكن أن تسترشد به، وهو ما يمهد الطريق أمام توقيع بروكسل اتفاقيات مماثلة مع عدد من دول شمال أفريقيا خاصة مصر وليبيا.
في سياق متصل، اتجهت إيطاليا إلى عقد “المؤتمر الدولي للهجرة والتنمية” في 23 يوليو، والذي ضم ممثلين عن اثنتين وعشرين دولة أفريقية وشرق أوسطية بجانب ممثلين عن الاتحاد الأوروبي، وعددًا من المنظمات الدولية المعنية بقضايا اللاجئين والهجرة غير الشرعية. عُقد المؤتمر بهدف ضبط الهجرة إلى البحر الأبيض المتوسط بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي، ومكافحة الاتجار بالبشر، وتعزيز التنمية الاقتصادية في بلدان المنشأ والعبور مثل ليبيا وتونس للتعاطي مع أنشطة الهجرة غير الشرعية، والجرائم العابرة للحدود من خلال التعاون بين دول المقصد والمنشأ ودول العبور، بهدف عدم تعرض المهاجرين للاستغلال من قبل تجار البشر والعصابات الإجرامية، وتنمية دول المنشأ، ووضع إطار قانوني لاستقبال الدول الأوروبية للمهاجرين بشكل شرعي. وقد طرحت إيطاليا “عملية روما” بهدف ردع المهاجرين ومعالجة الأسباب التي ساهمت في الهجرة من خلال التنمية، كما وقعت إيطاليا اتفاقًا في عام 2017 بهدف منع المهاجرين من ليبيا، وعلى إثره انخفض العدد من 180 ألفًا سنويًا في عام 2016 إلى 15 ألفًا في عام 2019، فقد استطاعت المليشيات في ليبيا السيطرة على تهريب المهاجرين، لكن قد لا ينطبق الأمر ذاته على تونس مع ضعف القدرات الأمنية للدولة.
جاءت مخرجات المؤتمر معبرة عن التعاطي مع أزمة الهجرة غير الشرعية، مع ضرورة النظر إلى الأوضاع الاقتصادية والتغيرات المناخية كأحد أهم العوامل التي تمثل دافعًا لهجرة المواطنين إلى أوروبا بحثًا عن فرص للعيش على الجانب الآخر من البحر المتوسط، علاوة على تشديد الخناق على المساهمين في تجارة البشر بمساعدة الأفراد بالهجرة وإقناعهم بالسفر مقابل أموال عبر السفن غير الشرعية. كذلك طرحت رئيسة وزراء إيطاليا عقد مؤتمر للمانحين لتمويل الاستثمارات في الدولة (الأم) المصدرة، ودعم مراقبة الحدود، لكن لم يتم تحديد موعد هذا المؤتمر.
من ناحية أخرى، تم التأكيد على أهمية التنسيق الجماعي والتعاون بين الدول في مواجهة الهجرة غير الشرعية والمهربين، ودعت “ميلوني” إلى تعزيز التعاون الأمني مع السلطات القضائية في مختلف الدول، وتشديد التشريعات لردع المهربين، لمنعهم من الانتقال من مكان إلى آخر، ودعا المشاركون إلى ضرورة إنشاء آليات دولية مشتركة للتعاون والتنسيق بين الدول؛ وذلك بعيدًا عن المبادرات الفردية.
على الجانب الآخر، شاركت بعض دول المنطقة، وعلى رأسها الإمارات، السعودية، الأردن، مصر، الكويت، موريتانيا، لبنان، الجزائر، وكان الدور الإماراتي بارزًا في هذا الصدد؛ إذ تعهدت بتقديم 100 مليون يورو لدعم عدد من المشروعات التنموية في الدول المتأثرة بقضية الهجرة غير الشرعية، مع تأكيد رئيس دولة الإمارات الشيخ “محمد بن زايد” على ضرورة التعامل مع التغيرات المناخية التي أدت إلى ارتفاع معدلات الهجرة غير الشرعية من دول الجنوب إلى الشمال.
• تزايد الهجرة غير النظامية: ارتفعت الهجرة غير النظامية من شمال أفريقيا إلى أوروبا خاصة على طول طريق وسط البحر الأبيض المتوسط الذي يربط بشكل أساسي بين ليبيا وتونس وإيطاليا؛ وزاد عدد المهاجرين في بداية 2023 بنحو 75,065 طالب لجوء إلى الشواطئ الإيطالية، مقارنة بـ 31,920 في نفس الفترة من عام 2022، وبلغ عدد الوافدين إلى إيطاليا في الفترة بين يونيو 2022 – مايو 2023 نحو 136000 مهاجر، وخلال الفترة بين عامي 2014-2017 ما يقرب من 90 في المائة تمكنوا من الوصول إلى إيطاليا مغادرين ليبيا، وتزايدت من شواطئها الغربية، أي من الشريط الذي يبلغ طوله ستين ميلًا والذي يمتد في اتجاه الشرق والغرب من طرابلس في ليبيا إلى بلدة زوارة بالقرب من الحدود مع تونس. ووفقًا لتقديرات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشئون اللاجئين فإن 52% من المهاجرين في إيطاليا قادمون من تونس خلال الأشهر الخمسة الأولى من عام 2023. و44% غادروا تونس من ليبيا، وهناك أعداد تصل إيطاليا تنطلق من برقة شرق الدولة الليبية، ويُساهم المهربون التونسيون بتقديم بعض الخدمات لمهربين في ليبيا مثل القوارب الحديدية التي تتصف بالثبات.
ويُفسر زيادة المهاجرين من تونس بعد أشهر قليلة من تفشي فيروس كورونا وتراجع عائدات السياحة في عام 2020 والتي تمثل مصدرًا هامًا لتونس التي تستقطب حوالي 10 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي من السياحة، إذ يعمل في هذا القطاع حوالي 12 في المائة من المواطنين، فضلًا عن تبعات الحرب الروسية-الأوكرانية وتأثيراتها على الطاقة والغذاء بالدولة. كما أن عوامل الضعف الداخلي التي تعاني منها دول شمال أفريقيا ساهمت بشكل كبير في ارتفاع نسب الهجرة، مثل الأوضاع الهشة وعدم الاستقرار. وبالنظر إلى الحالة الليبية فإن الهجرة تُمثل تجارة مربحة للمليشيات المحلية في شرق وغرب ليبيا، بالإضافة إلى أن ليبيا تستضيف نحو سبعمائة ألف مهاجر دولي، الذين يعبرون إلى أوروبا عبر الشواطئ بحثًا عن ظروف اقتصادية وإنسانية أفضل.
وقد تصاعد موقع تونس كنقطة انطلاق، وبحسب تصريحات وزير الداخلية التونسي “كمال الفقي”، في 30 يوليو الماضي، فإن عدد المهاجرين من دول أفريقيا جنوب الصحراء بلغ نحو 80 ألفًا. ويُقدر عدد المهاجرين إلى إيطاليا خلال الأشهر الخمسة الأولى من عام 2023، وعبروا من تونس نحو 28 في المائة من مواطني ساحل العاج، وحوالي 23 في المائة من غينيا، بينما بلغ عدد التونسيين 13 في المائة، ويعود هذا الانخفاض في أعداد التونسيين تحديدًا إلى زيادة مداهمات الشرطة في صفاقس والبلدات التونسية الواقعة على طول الساحل المتورطة في أنشطة التهريب. ولعلّ حديث الرئيس قيس سعيد خلال مشاركته في مؤتمر الهجرة بروما كان معبرًا عن استراتيجية الدولة خلال الفترة القادمة، وعدم السماح لأن تكون مرتعًا لأنشطة العصابات الإجرامية والهجرة غير الشرعية من خلال أراضيها، إذ تمثل الحدود البرية لتونس مع ليبيا مسارًا أساسيًا في انتقال المهاجرين من شمال أفريقيا إلى جنوب أوروبا عبر المتوسط.
• الاهتمام الأوروبي بقطاع الطاقة المتجددة: نص الاتفاق المُوقع بين تونس والاتحاد الأوروبي في يوليو الماضي على تطوير قطاع الطاقة المتجددة، ويُعود ذلك إلى الاهتمام الأوروبي بقطاع الطاقة النظيفة والخضراء وتطويره في دول المغرب العربي باعتبارها إحدى المناطق الرئيسية في خطة إنتاج الطاقة المتجددة التي تنقل إلى أوروبا. من ناحية أخرى، تهدف أوروبا إلى تحويل الاقتصاد نحو الحياد المناخي في عام 2050 نظرًا لما تتمتع به تونس من موارد الطاقة المتجددة، ولموقعها الجغرافي القريب من أوروبا وتحديدًا إيطاليا بما يجعل موقعها المميز مركزًا لتخطيط الطاقة الخضراء عبر تحويل حرارة الصحراء التونسية إلى كهرباء يمكن تصديرها إلى أوروبا، ويعمل الطرفان على تعزيز إنتاج الهيدروجين المتجدد ومشتقاته في تونس، بالإضافة إلى التعاون في سلاسل التوريد للتقنيات الطاقوية النظيفة، وإنتاج الكهرباء. وفي هذا السياق، يقدم الأوروبيون منحة لتونس بقيمة 307 ملايين يورو، ووافق مجلس إدارة البنك الدولي في 21 يونيو الماضي على تمويل بنحو 268.4 مليون دولار لمشروع الربط الكهربائي بين تونس وإيطاليا الذي يربط بين شبكات الطاقة بين تونس وأوروبا وبما يدعم مركز تونس إقليميًا في مجال الطاقة المتجددة عبر ربط شبكة الكهرباء التونسية بالشبكة الأوروبية عبر كابل تحت البحر بقدرة 600 ميغاوات أي (ربط تونس بكابل الألياف الضوئية تحت سطح البحر). كذلك، هناك اهتمام استراتيجي من قبل الاتحاد الأوروبي بالحفاظ على خط الأنابيب عبر البحر المتوسط لتصدير الغاز الطبيعي من الجزائر إلى إيطاليا عبر تونس، وتبلغ سعته 33.5 مليار متر مكعب بهدف تنويع إمدادات الغاز الأوروبي.
ختامًا، تعكس الدوافع السابق الإشارة إليها اتجاهًا متبادلًا لتعزيز الشراكة بين الطرفين، خاصة أن هناك تلاقيًا في المصالح بين أوروبا وتونس، كما أن الأخيرة بموقعها الجغرافي وامتلاكها شبابًا مؤهلًا في قطاعات مختلفة يجعلها شريكًا جذابًا للدول الأوروبية، واستطاعت الحصول على قدر من المكاسب الأوروبية يؤهلها لمواجهة الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها، كما أن هناك اهتمامًا أوروبيًا بتعزيز التعاون معها في بعض الملفات الحيوية المتعلقة بالأمن الأوروبي.