تمثل حملة “طوفان الكرامة” للجيش الوطني الليبي بقيادة المشير “خليفة حفتر” ضد الميليشيات مرحلة جديدة من الصراع الليبي، حيث يسعى الجيش إلى ترجمة مكاسبه الأخيرة في فزان، والدعم القوي من جهة حلفائه الإقليميين والدوليين، إلى واقع جديد قائم على رؤيته لنظام سياسي ليبي موحد خالٍ من جماعات الإسلام السياسي على اختلاف أنماطها والميليشيات المتحالفة معها.
في الوقت الراهن، يؤيد معظم الليبيين إنهاء حكم الميليشيات في البلاد، والعودة إلى النظام من جديد. وبما أن المجتمع الدولي غير راغب في قبول مسئوليات وتكاليف التدخل، فإنهم -أي معظم الشعب الليبي- يعتبرون تحرك الجيش الوطني نحو طرابلس بمثابة فرصة كبرى لتغيير الوضع الراهن. لكن في المقابل، ثمة مخاوف من أن تصل معركة طرابلس إلى طريق مسدود، ويتحول استمرار حالة “اللا حسم” إلى حرب ممتدة (قد تشهد البلاد خلالها تصعيدًا دراماتيكيًّا لحروب الوكالة) ستسمح لـ”داعش” و”القاعدة” بتعزيز مواقعهما، أو استعادة بعض النفوذ المفقود هناك. والشاهد هنا أن الجيش الوطني الليبي الذي مثّلت عملياته في الجنوب العقبة الرئيسة أمام تمدد “داعش” مرة أخرى (بعد خسارتها معقلها في سرت عام 2016) مُهدد الآن بالاستَنزَاف في معارك حول وداخل طرابلس، وربما في وسط وشرق ليبيا أيضًا. وعلى الجهة المقابلة، ستضعف بالتأكيد “حكومة الوفاق” أكثر فأكثر، بينما سيتعزز (بفعل المعارك التي تدور الآن) نفوذ الميليشيات التي تدير طرابلس الآن باسم تلك الحكومة.
اتحاد الفرقاء
الملابسات المحيطة بقرار الجيش بدء “معركة تحرير طرابلس” تشير بشكل واضح إلى أن قائد الجيش الوطني الليبي المشير “حفتر”، كان يراهن على الانقسامات الداخلية التي كانت قد اجتاحت حكومة الوفاق الوطني وحلفائها في غرب البلاد منذ تشكيل تلك الحكومة في عام 2016، نتيجة اندلاع القتال بين الفصائل من حين لآخر. إذ كان يأمل في أن تمنع تلك الانقسامات الميليشيات الموالية لحكومة “فايز السراج” من الالتئام بسرعة لوقف هجومه -أي الجيش- المباغت. لكن ما حدث هو عكس ذلك تمامًا؛ فبالنظر إلى أن دخول “حفتر” إلى طرابلس ومصراتة يمثل تهديدًا وجوديًّا لتلك القوى والميليشيات، فقد تناست خلافاتها -ولو بشكل مؤقت- وتوحدت على درء هذا “الخطر المشترك”. ولهذا، فإن الإسلاميين المدججين بالسلاح، الذين يواجهون الجيش الوطني الليبي، لديهم من الدوافع القوية للاستمرار في القتال حتى النهاية، على النحو الذي يقود إلى استنتاج أن عملية “تحرير طرابلس” من غير المرجّح أن يتم حسمها بسرعة. والشاهد هنا أنه قبل بدء هجوم الجيش الوطني الليبي ببضعة أيام، أعلنت ما تسمى “قوة حماية طرابلس” (التي تضم الميليشيات الرئيسة الأربع في طرابلس نفسها) أنها شكلت غرفة عمليات مشتركة للتنسيق بين عشرات الميليشيات المنفصلة الممتدة بين سرت والحدود التونسية. وكانت أولى مهام عناصر هذا التحالف حماية حكومة الوفاق في طرابلس، ومساعدتها في صد هجوم قوات الجيش، وربما أيضًا شن هجمات مضادة في مواقع مختلفة وسط ليبيا.
ربما كان من المتوقع تحقيق انتصار سريع من خلال اتباع استراتيجية التهديد العسكري المقترن بالمفاوضات، في ضوء النجاح من قبل في اتباع هذا النمط في المعارك السابقة جنوبًا وشرقًا. لكن يبدو أنه من الصعوبة بمكان نجاح هذه الاستراتيجية في طرابلس؛ فالميليشيات المتمركزة في طرابلس ومصراتة أفضل كثيرًا من حيث التدريب والتجهيز من كافة الميليشيات التي واجهها الجيش الوطني الليبي جنوبًا وشرقًا حتى الآن. ولهذا يواجه الجيش قتالًا شرسًا من تلك الميليشيات، في الوقت الذي يواجه فيه تحديات تكتيكية بعضها يتمثل في كيفية الحفاظ على خطوط إمداد طويلة، حتى لا يضطر إلى تراجع غير مقبول، خاصة وأن الإعلان عن تشكيل غرفة عمليات لتحرير مصراتة لم يؤدِّ فقط إلى تشجيع قوات مصراتة على الاستمرار في القتال لدعم ميليشيات طرابلس، ولكن أفضى إلى توسع القتال إلى وسط ليبيا بعد أن وُضِعَت بالفعل ما يسمى بـــ”قوة تأمين وحماية سرت” المتحالفة مع مصراتة في حالة تأهب للدفاع حتى قبل أن يعلن الجيش بالفعل تقدمه على محور مدينة سرت.
سلفيو “القاعدة” ينخرطون في معارك طرابلس
كانت الحرب الأهلية في ليبيا هي المحرك الرئيس لوجود تنظيمات السلفية الجهادية هناك. إذ سمح الصراع في بنغازي بعد عام 2011 لجماعة “أنصار الشريعة” المرتبطة بتنظيم “القاعدة” بالتسلل إلى المعارك وإقامة شراكات ضد “أعداء مشتركين”. بينما سمحت الانقسامات خلال عامي 2013 و2014 لـ”داعش” باستغلال الفجوات بين الفصائل المتحاربة، والاستيلاء على مدينة سرت الساحلية. ثم بعدها شهدت الحرب الأهلية في ليبيا فترة من الجمود النسبي -مع بعض الاستثناءات البارزة- بين عامي 2015 و2017. وقد ساهمت هذه الوقفة في الأعمال العدائية والمقترنة بجهود لمكافحة الإرهاب مدعومة دوليًّا، بإضعاف الجماعات السلفية الجهادية مثل “داعش” و”أنصار الشريعة”، ولكنها لم تهزمها.
الآن، وفي ظل الصراع الدامي على خلفية معركة طرابلس، يبدو أن جماعات السلفية الجهادية ستستغل الفرصة لتعويض خسائرها. فقد يعاد تنشيط “مجلس شورى ثوار بنغازي”، وهو ائتلاف يضم جماعة “أنصار الشريعة”، بعد فترة من السكون منذ أواخر عام 2017. وفي هذا السياق، نشر المدعو “طاهر الطلحي”، أحد عناصر “مجلس شورى ثوار بنغازي”، على حسابه على موقع “فيسبوك” صورًا توضح دخول قوة تابعة لـــ”مجلس شورى ثوار بنغازي” الإرهابي إلى طرابلس للمشاركة في القتال ضد الجيش الوطني الليبي. ومن اللافت للنظر أن رئيس المجلس الرئاسي “فايز السراج” كان قد بارك انتصارات الجيش الليبي في بنغازي بعد دحر عناصر شورى بنغازي و”داعش”. لكن اليوم تعلن ميليشيات شورى بنغازي الإرهابية أنها تقاتل جنبًا إلى جنب مع الميليشيات المتحالفة مع حكومة “السراج”. وهناك أيضًا عناصر من “مجلس شورى ثوار أجدابيا” (المرتبط بكل من أنصار الشريعة ومجلس شورى ثوار بنغازي) تقاتل بالفعل في طرابلس. وفي السياق ذاته، قد تتشكل مرة أخرى شبكات أنصار الشريعة في بنغازي وأجدابيا وفي أماكن أخرى في شرق ليبيا، خاصة إذا ما أُصيبت قوات الجيش الوطني الليبي بالإرهاق نتيجة انخراطها في حملة ممتدة في طرابلس.
“صحوة” داعش في ليبيا
قد لا تكون “داعش” في ليبيا الآن قادرة على تركيز ومراكمة قوتها مثلما فعلت عندما سيطرت على سرت، لكن نطاق عملياتها الجغرافي بات أوسع الآن، بعد أن تفرقت في جميع أنحاء البلاد لتحتل الفجوات في نظام ليبيا الأمني المحطم.
وتتركز مجموعات “داعش” وعائلاتهم بشكل أساسي في المنطقة المحصورة ما بين جنوب الفقهاء وشرق سبها وشمال تمسة ووسط جبل الهروج الأسود، في موقعين رئيسين: الأول وادي شويلة، ويقع جنوب غرب بلدة الفقهاء بمسافة 91 كم، وشرق بلدية سبها بمسافة 134 كم وشمال بلدة تمسة. ويبلغ طوله تقريبًا 100 كم، وبه منحدرات وتضاريس صعبة للغاية، ويبدأ من الشمال من منطقة سليتت حقل الغاني للجنوب حتى منطقة تمسة، ويُعد الأكبر والأول لتجمع عناصر التنظيم بالجنوب.
أما الموقع الثاني فيوجد بمنطقة عبدالمولى، ويقع وسط الهروج الأسود بالتحديد جنوب شرق بلدة الفقهاء بمسافة 95 كم، حيث يقيم مقاتلو التنظيم وعائلاتهم. وتتميز تلك المنطقة بتضاريسها الوعرة.
والملاحظ هنا أن “داعش” في ليبيا عاودت على مدار عام 2018 النشاط بعد فترة هدوء استمرت 15 شهرًا من ديسمبر 2016 إلى أوائل 2018 كان للجماعة خلالها تأثير أقل. ثم ارتفع معدل هجمات الجماعة الكبيرة على الساحل الليبي، بالإضافة إلى أن استهداف وتنسيق هجمات “الكر والفر” على البلدات الصحراوية، زاد زيادة كبيرة في الربع الثالث من عام 2018.
ويُشير هذا الاتجاه (كمًّا وكيفًا) إلى عودة الجماعة إلى البروز كقوة قادرة على تغيير الديناميكيات على مستوى البلاد. ويشير هذا أيضًا إلى تجدد الثقة لدى عناصر التنظيم، والتي يبدو أنها باتت أقدر على تحمل المخاطر (بالنظر إلى ارتفاع وتيرة الهجمات على الرغم من تراجع عدد عناصرها كثيرًا بعد سرت)، وكذلك جمع معلومات استخباراتية على الأرض تسمح بتنفيذ عمليات معقدة. كما أن عناصرها التنفيذية أظهرت وعيًا بطرق وأماكن مراقبة أجهزة الاستخبارات والأمن في ليبيا لخلاياهم في المدن، ما يعني أن الجماعة تمكنت من تجاوز نقاط ضعفها الرئيسة في الفترة الممتدة من 2014 إلى 2016، عندما أدى سلوكها الوحشي إلى إغضاب المجتمعات المحلية، بسبب افتقارها للحساسية الثقافية والمحلية آنذاك.
ومع ذلك، فإن الحملة المستمرة للجيش الوطني الليبي من أجل تحرير جنوب ليبيا من الإرهابيين، وإعادة فتح حقولها النفطية، كانت تهدد “داعش” في ليبيا، وتقلل قدرتها على العمل في فزان الليبية. فحتى قبل انطلاق عملية طرابلس، كان الجيش الوطني الليبي يستعد للدخول إلى منطقة جبل الهروج، حيث كان يطارد “داعش” في أعقاب هجوم الجماعة على “تازيربو” في 23 نوفمبر 2018.
بعبارة أخرى، إن التقدم في عمق فزان منذ أوائل عام 2019 يمثل أكبر تهديد لداعش منذ أن طُرِدَت الجماعة من سرت منذ أكثر من 26 شهرًا، واختارت إقامة شبكات الإمداد والملاذات الآمنة لها في فزان.
الآن يبدو مصير عملية طرابلس وإمكانية حسمها لصالح الجيش الوطني الليبي عنصرًا فارقًا في قدرة الجيش على الانتصار في معركته ضد “داعش”، لأنه إذا تمكن الجيش من ربط هياكله الأمنية الناشئة حديثًا في المواقع الجنوبية الرئيسة بالمراكز العملياتية والاستخباراتية في ليبيا الساحلية، واستخدام هذه الشبكة الجديدة للقيام بأعمال منسقة لمكافحة الإرهاب، فقد تدخل “داعش” في ليبيا مرة أخرى في مرحلة من التراجع، إذ على الرغم من أن الجماعة اكتسبت زخمًا وتجنيدًا وأموالًا على مدار العام الماضي؛ إلا أنها لا تزال غير قادرة على الوقوف أمام قوات أمنية متماسكة وموحدة قادرة على تبادل المعلومات بشكل فعال والقيام بعمليات نشطة ضدها.
لكن في المقابل، إذا اندلعت جولة جديدة من القتال القبلي والإثني في فزان نتيجة إرباك الديناميكيات الاجتماعية والسلطوية بسبب انخراط الجيش الوطني الليبي في حرب ممتدة في شمال غرب ليبيا، فربما تتمكن “داعش” من التجنيد، وحشد الموارد المالية وسط عدم الاستقرار. صحيح أن الجيش الوطني يكتسب زخمًا ويوسع شبكة تحالفاته، إلا أن هذا لا ينفي إمكانية حدوث ضربات إرهابية مضادة أو انهيار لمراكزه هناك أو في بعض المناطق شمال ليبيا. وهنا يتعين لفت الانتباه إلى أن سلسلة الهجمات المنسوبة إلى “داعش” طيلة النصف الثاني من عام 2018، وكذلك بعض الهجمات التي أعلن التنظيم عنها بعد قرار الجيش بدء عملية “طوفان الكرامة” تشير إلى قدرة التنظيم على الصمود والتكيف، بل وتنسيق العمل في وقت واحد في مسارح متعددة، حتى تحت وقع الضربات. والأهم من كل ذلك أنه من غير المرجّح أن تكون هشاشة السيطرة الإقليمية لخصوم “داعش” كافية لتعطيل عملياتها التي وإن بدت متناثرة جغرافيًّا، إلا أنها منسقة بالتأكيد. أيضًا، فإن ازدياد حدة الاستقطاب حاليًّا نتيجة تقدم قوات الجيش الوطني الليبي نحو طرابلس لن تكون بلا ثمن، والأرجح أنها ستؤدي إلى المزيد من المعارك المحلية الضارية بين الميليشيات وبعضها بعضًا. وعلى هذه الخلفية، من السهل استنتاج أن “داعش” وغيرها لن تتأخر في استغلال التصدعات الاجتماعية الكامنة لمحاولة دفع ليبيا في اتجاه صراع أهلي واسع النطاق. وبذلك، سيحقق التنظيم طموحه في الحفاظ على الحلقة المفرغة لعدم الاستقرار في ليبيا، والتي توفر له أرضًا خصبة مثالية.
خاتمة
في بلد ينعدم فيه حكم القانون منذ سنوات طويلة، ويعاني منذ سنوات من اضطرابات ونشاط كثيف لجماعات إرهابية متعددة الولاءات منذ سقوط نظام “القذافي”؛ يـتأكد يومًا بعد آخر أهمية دعم الجيش الوطني الليبي من أجل إتمام بناء مؤسسة أمنية وعسكرية مركزية واحدة في كل ليبيا. ومع سيطرة الجيش على غالبية الأراضي الليبية، وجميع احتياطيات النفط البرية هناك (وبالمقابل فشل حكومة الوفاق الوطني في مواجهة الميليشيات المتصارعة في طرابلس، وثبوت عدم قدرتها على بسط سلطتها على الأراضي خارج طرابلس)، يتزايد معسكر الفاعلين من خارج ليبيا من هؤلاء الموقنين بعدم جدوى الحوار الذي توسطت فيه الأمم المتحدة، ويرون أن صعود الجيش بقيادة “حفتر” وسيطرته على البلاد هو أفضل خيار في ظل هذه الظروف.
وبالنظر إلى كل ذلك، تتبدى ليس فقط أهمية عدم السماح بتعرض هذا الجيش لانتكاسة عسكرية، ولكن إلى جانب ذلك تتبدى أيضًا مخاطر استمرار “اللا حسم” وما يمكن أن توفره الفوضى الناشئة عن ذلك من فرص لانتعاش تنظيمات الإرهاب، خاصة في ضوء استمرار الأزمات السياسية الراهنة في دول الجوار الليبي، أي الجزائر والسودان.