أعلنت وزارة الخارجية العراقية في 15 أغسطس 2024 قرار تأجيل إنهاء المهمة العسكرية للتحالف الدولي في العراق، ويقتصر الوجود الحالي على عدد المستشارين العسكريين تحت مظلة التحالف الدولي والمعنيين بمخرجات أعمال اللجنة العسكرية العليا بين واشنطن وبغداد، وقد تم التوافق خلال جولات الحوار الاستراتيجي على تفاصيل تراتبية انسحاب المستشارين من المواقع وتوقيت الانسحاب، وتم الاتفاق على أن مسار العلاقة مع قوات التحالف الدولي تختلف عن العلاقة الثنائية بين الولايات المتحدة والعراق في المجالات المختلفة.
وقد أجريت جولات عديدة من المباحثات بين الدولتين حول وضع قوات التحالف الدولي في العراق، وطبيعة التعاون الأمني المستقبلي، إذ بدأ الحوار الاستراتيجي بين واشنطن وبغداد في يونيو 2020 وفق اتفاقية الإطار الاستراتيجي المُوقعة بين بغداد وواشنطن في عام2008، وظلت جولات الحوار مستمرة حتى بعد زيارة رئيس الوزراء العراقي “السوداني” إلى واشنطن في أبريل 2024، ثم عقد لقاء ثنائي بين وزارة الدفاع الأمريكية والعراقية في واشنطن في الفترة من 22-23 يوليو 2024، بحضور وزير الدفاع العراقي “ثابت العباسي” ووزير الدفاع الأمريكي “لويد أوستن” وبحضور ممثلي وكالة التعاون الأمني الدفاعي، والقيادة المركزية الأمريكية، ووزارة الخارجية، وموظفي مجلس الأمن القومي. ثم عقد لقاء آخر مستقل بين وزير الدفاع العراقي مع رئيس هيئة الأركان المشتركة “تشارلز كيو براون”، ومدير جهاز مكافحة الإرهاب، ونائب قائد قيادة العمليات المشتركة في العراق.
وتم التوافق في جولات حوار الوفود العسكرية على إنشاء لجنة عسكرية عليا ثنائية بين واشنطن وبغداد لمناقشة ثلاث قضايا منها؛ التهديد الذي يمثله داعش، المتطلبات التشغيلية، ورفع قدرات قوات الأمن العراقية بهدف تحديد مهمة التحالف العسكري الدولي في العراق، بالإضافة إلى التشاور حول فرص توسيع المشاركة العراقية في التدريبات العسكرية الإقليمية التي تقودها القيادة المركزية الأمريكية، وتعزيز علاقة الجيش العراقي مع قيادات المكونات الخدمية التابعة للقيادة المركزية الأمريكية، علاوة على تعزيز التعاون الثنائي بين واشنطن وبغداد، وإيجاد آلية لضمان هزيمة داعش، وتعزيز قدرات قوات الأمن العراقية بما في ذلك قوات الأمن الكردية، ومناقشة الحاجة المُلحة لإعادة النازحين والقائمين في شمال شرق سوريا إلى بلدانهم وإعادة إدماجهم في المجتمعات المحلية العراقية. علاوة على تأكيد الوفد العراقي الالتزام بحماية الأفراد، والمستشارين، والقوافل، والمرافق الدبلوماسية للولايات المتحدة، ودول التحالف الدولي. ضمن هذا الإطار يُثار تساؤلًا؛ لماذا تم تأجيل إنهاء المهمة العسكرية للتحالف الدولي في العراق؟ وما دلالات التأجيل في هذا التوقيت؟.
دلالات مُهمة
يعكس قرار تأجيل إنهاء المهمة العسكرية للتحالف الدولي في العراق بعض الدلالات المهمة نذكرها على النحو الآتي:
1-توقيت حرج: يأتي قرار تأجيل إنهاء المهمة العسكرية للتحالف الدولي في العراق ارتباطًا بالتوترات الإقليمية الجارية على خلفية الحرب في غزة، واستمرار حالة الردع بين إسرائيل وإيران ووكلائها، إذ كان آخر مؤشرات هذه التوترات اغتيال بعض القيادات البارزة “إسماعيل هنية” رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، والقائد العسكري في حزب الله “فؤاد شكر”. وهو ما استدعى ترقبًا لرد إيراني مُحتمل على عملية اغتيال “هنية” سواء بتوجيه ضربات مباشرة أو غير مباشرة بتوظيف أذرعها الإقليمية ضد المصالح أو القوات الأمريكية في المنطقة أو ضد إسرائيل، لا سيما في ضوء تبني مبدأ وحدة الساحات بين المقاومة العراقية واللبنانية واليمنية. وقد عبرت تصريحات المرشد الإيراني بأن “الرد على مقتل هنية في طهران واجب”، لا سيما في ضوء التدريبات العسكرية التي أجراها الحرس الثوري الإيراني في أغسطس 2024.
من ناحية أخرى، أعلن الحرس الوطني في ولاية أوريغون الأميركية بأن نحو 230 جنديًا من أفراد الحرس الوطني يستعدون للانتشار بخدمة سلام المدفعية لصالح الولايات المتحدة وشركائها في سوريا والعراق، وذلك في ضوء التهديدات التي تشهدها القوات والقواعد في هذه الدول، ومن ثَمّ فرض التوقيت الحرج الذي تشهده المنطقة وحالة التوتر بشأن غزة، حتمية استمرار وجود قوات التحالف الدولي في العراق بغرض الاستشارة والتدريب وتعزيز قدرات القوات العراقية، في ظل هجمات متتالية من جانب وكلاء إيران تجاه القوات الأجنبية في العراق.
2-حماية القواعد والقوات الأمريكية: واجهت القواعد الأمريكية في العراق وسوريا منذ اندلاع عملية “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر 2023 واستمرار الحرب في غزة العديد من الهجمات كان من بينها الهجوم على القاعدة الجوية الأمريكية في الشمال الشرقي للأردن “البرج 22” في هجوم بطائرة بدون طيار في 28 يناير 2024، والذي تبنته “كتائب حزب الله العراقية” بما نتج عنه مقتل ثلاثة جنود أمريكيين، وإصابة نحو 40 فردًا.
وردًا على ذلك وُجهت ضربات أمريكية في 2 فبراير 2024 تجاه 85 هدفًا في العراق وسوريا عبر استهدافات جوية على مواقع بطول 130 كيلومترًا من مدينة دير الزور وصولًا للحدود السورية –العراقية مرورًا بالميادين، فضلًا عن استهداف 28 موقعًا للمليشيات الإيرانية، وقتل نحو 29 فردًا من هذه المليشيات. واستهداف أمريكي للقيادي “أبو باقر الساعدي” في 7 فبراير 2024، مسئول الدعم اللوجستي لكتائب حزب الله العراقية، لتورطه في الهجوم على القاعدة الأمريكية “البرج 22”.
بالإضافة إلى استهداف قاعدة “عين الأسد” الجوية التي تستضيف قوات أمريكية في محافظة الأنبار في 5 أغسطس 2024، وتعرضها لهجوم صاروخي، مما أدى إلى إصابة خمسة أفراد أمريكيين. وبحسب إحصاء لمعهد واشنطن فإن عدد الهجمات على القوات الأمريكية في العراق وسوريا منذ اندلاع الحرب في غزة بلغ نحو 189 هجومًا. كذلك استهدفت القواعد الأمريكية في سوريا بهجوم بالمسيرات في حقل الرميلان وخراب الجير بريف الحسكة في 10 أغسطس 2024. وعليه يُمثل قرار تأجيل إنهاء المهمة العسكرية للتحالف الدولي دافعًا لمواجهة التوترات القادمة في ظل الاستهداف المتكرر من جانب فصائل المقاومة لقوات التحالف المتمركزة في بغداد وأربيل والأنبار. وهو ما أكده لقاء لوزير الدفاع الأمريكي مع وزير الخارجية “أنتوني بلينكن” في 6 أغسطس 2024 بأن “الولايات المتحدة لن تتسامح مع الهجمات ضد قواتها في الشرق الأوسط” بعد استهداف قاعدة عين الأسد في العراق، بهدف ضمان أمن كل من إسرائيل والجنود الأمريكيين”.
3-وضع أمني مُضطرب: يأتي قرار تأجيل المهمة العسكرية للتحالف الدولي في ظل وضع أمني مضطرب وعودة تنظيم داعش إلى العراق وسوريا بعد أن تبنى التنظيم نحو 153 هجومًا خلال العام 2024، ومن ثَمّ يُمثل قرار التأجيل ضرورة خاصة في أن الانسحاب النهائي من العراق سيخلق فراغًا في المناطق الوسطى والشمالية بما يقود إلى عودة الانتشار بشكل مكثف، وتكرار سناريو عام 2014 حيث الأوضاع الأمنية غير المستقرة في محافظة ديالي، والتي تنشط بها تجارة المخدرات التي تحميها الجماعات المسلحة المدعومة من أطراف خارجية. كذلك تشهد محافظات “الأنبار” و”صلاح الدين”، وبعض نواحي محافظة “نينوى” الأوضاع ذاتها، بما يعني أن الانسحاب النهائي لقوات التحالف أو القوات الأمريكية يعزز من انتشار المجموعات المسلحة، ومن خطر تمدد الإرهاب مرة أخرى، لا سيما أن الإرث الإيدلوجي للتنظيم لم يتبدد ولا يزال يعمل في محافظات “صلاح الدين والأنبار وديالي “، ويدين له مقاتلوه في السجون بالولاء المطلق، وتستمر عملياته في مناطق عدة وبوتيرة متباينة.
تحديات قائمة
بالرغم من إعلان قرار تأجيل إنهاء المهمة العسكرية للتحالف الدولي في العراق، فإن الضغوط الداخلية سوف تتزايد من قبل قوى الإطار التنسيقي الذي يشكل الائتلاف الحاكم على رئيس الوزراء العراقي “محمد شياع السوداني”، بهدف خروج القوات الأجنبية من العراق في ظل تخوف من تحول العراق لجبهة صراع على خلفية الحرب في غزة والتوترات الإقليمية الجارية، خاصة أنه على مدار الأحد عشر شهرًا الماضي منذ اندلاع عملية طوفان الأقصى واستمرار الحرب في غزة، شهدت العراق توترات مستمرة باستهداف القواعد الأمريكية في العراق من جانب المليشيات الموالية لإيران، فضلًا عن إطلاق إيران أكثر من 300 طائرة بدون طيار وصاروخًا على إسرائيل، عبرت المجال الجوي العراقي بما هدد أمن وسيادة الدولة. لذلك كانت زيارة “السوداني” إلى الولايات المتحدة في 15 أبريل 2024 للتشاور حول التعاون الأمني بين بغداد وواشنطن، ومناقشة مسار الشراكة الاستراتيجية بين الدولتين.
في السياق ذاته، هناك عقيدة مترسخة لدي المقاومة الموالية لإيران باستهداف المصالح والقوات الأمريكية في ضوء صراع النفوذ الإيراني ومعادلات توازن القوى في العراق، فقد قتل ما لا يقل عن أربعة أفراد من قبل قوات الحشد الشعبي في غارة أمريكية بطائرات مسيرة على قاعدة بمحافظة بابل جنوب بغداد في 30 يوليو الماضي. فضلًا عن أن حالة الرفض الداخلي من قبل بعض القوى السياسية والمليشيات المسلحة الموالية لإيران للوجود الأمريكي، وكان لهذه المليشيات دورًا في الضغط على الحكومة لتحقيق تقدم في المباحثات مع الولايات المتحدة بشأن انسحاب قواتها من العراق، وفي هذا السياق خرج بيان لحركة النجباء العراقية في 20 أغسطس 2024 جاء في مضمونه أن “الهدنة التي كانت تهدف لمنح الحكومة الوقت للتفاوض على انسحاب القوات التابعة للولايات المتحدة من البلاد انتهت، وباتت خيارات استهداف القواعد الأميركية متاحة”.
وقد تصاعد خيار استهداف المصالح والقواعد الأمريكية في العراق وسوريا بعد الحرب في غزة، في إطار دعم واشنطن لإسرائيل. وفي ضوء ذلك عبرت تصريحات للمسئول الأمني لكتائب حزب الله العراقية في 22 أغسطس 2024 ” أبو علي العسكري” بعدم وجود التزام لديهم بشأن إيقاف العمليات ضد قوات الاحتلال الأمريكي في العراق، وأن الأمر خاضع لتوازنات خاصة بالمرحلة”.
ختامًا، يستمر خيار استهداف القواعد والقوات الأمريكية في العراق في ضوء عدة عوامل منها؛ التوترات الإقليمية الجارية ارتباطًا بسياق الحرب في غزة وكونها ورقة للضغط يتم توظيفها تحقيقًا للمصالح والأهداف المختلفة، كذلك الأمر مرهون بالتوافقات خلال المرحلة القادمة حول نجاح خيار إنهاء الحرب في غزة من عدمه، ومن ناحية ثالثة اتساقًا بالعقيدة المرتبطة بصراع النفوذ بين واشنطن وإيران ورفض المليشيات الموالية للأخيرة الوجود الأمريكي في العراق، وأخيرًا الوضع الأمني الإقليمي غير المستقر وعودة قوية ومحتملة لداعش. وعليه فإن قرار تأجيل إنهاء المهمة العسكرية للتحالف الدولي سوف يضع مزيدًا من الضغوط على الحكومة في بغداد في ضوء التطلعات المستقبلية للعراق بالخروج من كونها ساحة للصراع إلى الاستقلالية وبناء الدولة وتحقيق التنمية بها.