اعتمد مجلس الوزراء في السابع من أبريل من العام الجاري (2019) القرار السابع للجنة الوزارية المختصة بدراسة توفيق أوضاع الكنائس. وينص القرار على تقنين أوضاع 111 كنيسة ومبنى خدمات تابع، ليصل إجمالي المنشآت التي تم توفيق أوضاعها منذ سبتمبر 2017، عندما بدأت اللجنة في مباشرة مهامها، وحتى شهر أبريل 2019، إلى 894 كنيسة، بما في ذلك 30 كنيسة ومبنى تم تقنين أوضاعها بشرط استيفاء اشتراطات السلامة الإنشائية، وذلك من إجمالي 5500 طلب تقنين تقدمت بها الطوائف المسيحية الثلاث.
وقد أصدرت اللجنة منذ تشكيلها سبعة قرارات، تضمن كل منها اعتماد عددٍ من طلبات التوفيق، كان أقلها 53 كنيسة ومنشأة كنسية في فبراير 2018، وأكثرها 168 كنيسة في نوفمبر 2018. ومن الملاحظ أن اللجنة تُصدر قراراتها بمعدل تواتر مناسب، مرة كل شهرين تقريبًا، الأمر الذي يبين الجدية التي تتعامل بها الدولة مع هذا الملف.
شكل رقم (1): عدد المنشآت الكنسية التي وفّقت لجنة تقنين الكنائس أوضاعها في دورات اجتماعاتها المختلفة
وتتوزع الكنائس التي تم توفيق أوضاعها على مجمل محافظات مصر، على النحو المبين في الشكل رقم (2)، والذي يبين أن المحافظات التي تكررت فيها التوترات الطائفية في الأعوام الماضية كانت صاحبة العدد الأكبر من قرارات التوفيق، خاصة في محافظات المنيا والجيزة والقليوبية.
محطات تاريخية
منذ دخلت مصر العصر الحديث قبل مائتي عام وهي تجاهد لتطبيق مبادئ حرية العقيدة والمساواة بين المواطنين، وحقوق المواطنة، فيما تسعى القوى التقليدية المحافظة لعرقلة التقدم على هذا الطريق. لقد اتُّخذت أول خطوة على هذا الطريق في عام 1856 عندما أصدر السلطان “عبدالمجيد الأول” الخط الهمايوني، ويقصد به القانون أو الأمر العالي الذي كتبه السلطان بخط يده. وقد انطوى هذا القانون على محاولة جادة لتنظيم أمور المسيحين في المناطق التابعة للسلطنة، ونص على عدد من المبادئ التي اتسمت بالإنصاف، ومنها:
– المساواة بين كل مواطني الدولة في كافة الحقوق والواجبات.
– إعفاء الكنائس من الضرائب.
– عدم إجبار أي شخص على ترك دينه.
إلا أن الخط الهمايوني شابته مشكلة رئيسية تتعلق ببناء الكنائس، وهي المشكلة التي جسدها البند الثالث من المرسوم، والذي نص على انفراد السلطان العثماني بسلطة اتخاد القرارات الخاصة ببناء الكنائس، حيث نص على أن “السلطان شخصيًا وفقط له الحق في ترخيص بناء الكنائس وترميمها، وكذا المقابر الخاصة بغير المسلمين”. ولأنه لم يكن من السهل الوصول للسلطان المشغول بعشرات القضايا، فقد ظل هذا القانون عائقًا أمام المسيحين في بناء، أو حتى ترميم دور عبادتهم. وقد قامت القوى الكارهة لمبادئ المساواة والمواطنة بتفسير هذا النص بطريقة متعسفة، وتوظيفه في مواجهة محاولات تخفيف المشكلة.
ظل هذا البند العائق أمام حرية بناء وإصلاح دور العبادة صامدًا لسنوات، حيث استمر العمل بمرسوم الخط الهمايوني حتى عام 1933، عندما جاء “العزبي باشا”، وكيل وزارة الداخلية في وزارة “عبدالفتاح يحيى باشا”، فقام بوضع عشرة شروط تعجيزية لبناء الكنائس في مصر، الأمر الذي جعل بناء الكنائس وغيرها من المنشآت الكنسية وإصلاحها أمرًا بالغ الصعوبة. وقد ظلت لائحة العزبي باشا، الصادرة في الحقبة الليبرالية، تحكم عملية بناء الكنائس، وذلك رغم وضوح عوارها، ورغم التقارير والمطالبات العديدة بتجاوز هذه اللائحة، والتي كان أشهرها التقرير الشهير الذي أعده الدكتور “جمال العُطيفي”، وكيل مجلس الشعب في عهد الرئيس “أنور السادات”، وذلك في أعقاب الصدامات الطائفية التي وقعت في مدينة الخانكة بمحافظة القليوبية عام 1972، والذي أوصى فيه بعدة توصيات، كان من أهمها تعديل القوانين الخاصة بدور عبادة المسيحين، وإلغاء الشروط التعجيزية التي تعوق ذلك، إلا أن هذه التوصيات لم تخرج أبدًا من الأدراج.
سياسات جديدة
يُعد التقدم الذي تحقق على طريق حل مشكلة دور العبادة المسيحية دليلًا على توفر الإرادة وتصميم القيادة السياسية على تعميق حقوق المواطنة والمساواة بين المواطنين، وتطبيق مبادئ حرية العقيدة بدقة، وهي المبادئ التي ترددت السلطات السياسية المتعاقبة في الالتزام بها بدقة منذ أن دخلت بلادنا العصر الحديث قبل قرنين من الزمان، الأمر الذي كان سببًا في ظهور التوتر، وتوالي أحداث الاحتكاك الطائفي.
الرئيس “السيسي” لا يمل من التأكيد على مبادئ حرية العقيدة والمواطنة؛ فحرّك المياه الراكدة منذ سنوات. وقد بادر الرئيس بتنفيذ وعده بترميم الكنائس التي تعرضت للحرق والهدم بعد فض اعتصام رابعة. ويُعد صدور القرار رقم 199 في 26 يناير 2017 بتشكيل لجنة وزارية لتوفيق أوضاع الكنائس بمثابة إجراء مؤسسي رئيسي لحل مشاكل تقنين دور العبادة المسيحية التي كانت مُعلقة لعقود طويلة. وقد تشكلت اللجنة تنفيذًا لما نصت عليه المادة الثامنة من قانون بناء الكنائس الذي أقره مجلس النواب، الصادر في سبتمبر 2016. وقد تم تشكيل لجنة توفيق أوضاع الكنائس برئاسة رئيس الوزراء وعشرة أعضاء، ستة منهم وزراء، وهم: وزراء الدفاع والإنتاج الحربي، والإسكان والمجتمعات العمرانية، والتنمية المحلية، والشئون القانونية ومجلس النواب، والعدل، والآثار. كما تضم اللجنة ثلاثة ممثلين عن: المخابرات العامة، والرقابة الإدارية، والأمن الوطني، بالإضافة إلى ممثل واحد عن كل طائفة معنية.
وقد تناول قانون بناء الكنائس لعام 2016 شقين في مسألة بناء دور العبادة والمنشآت الكنسية:
الشق الأول خاص بشروط ومراحل إنشاء الكنائس الجديدة، لتيسير مسارات المُوافقات والتراخيص اللازمة لترخيص بناء كنيسة جديدة. وتنص المادة الخامسة من القانون على ضرورة التزام المحافظ بالرد على الطلبات المُقدمة إليه بخصوص هذا الشأن في مدة لا تتجاوز أربعة أشهر من تاريخ التقدم بالطلب، والالتزام بتقديم رفض مُسبب في حالة رفض الطلب. وتساهم هذه المادة في الانتهاء من عصر الكنائس أو مباني الخدمات التي تُبنَى دون موافقات أو يتم تمريرها في الخفاء كما كان الحال في الماضي.
الشق الثاني يتعلق بتقنين أوضاع الكنائس القائمة. وهو أمر فى غاية التعقيد والصعوبة، نظرًا للعدد الهائل من الكنائس القائمة بدون أوراق ملكية ولا تراخيص. ومن هنا يأتي دور لجنة توفيق أوضاع الكنائس؛ فهي منوطة بالتعامل مع تركة ثقيلة من تقنين أوضاع أعداد هائلة من كنائس ومباني الخدمات التابعة لها، إما لأنها كنائس قديمة للغاية وبعضها يعود إلى القرون الأولى للميلاد وتم هدمها وإعادة بنائها عشرات المرات، دون وجود أوراق ومستندات، أو بسبب حصول بعض الكنائس على تصريحات شفوية لبناء الكنائس، رغم استكمال المستندات اللازمة للحصول على ترخيص، الأمر الذي أنتج طائفة كبيرة من الكنائس المرخصة موضوعيًّا، وإن كانت من الناحية الرسمية تُعتبر غير مرخصة لأنها لا تمتلك الموافقة الصريحة بالترخيص.
خاتمة
لقد قطعت مصر خطوات مهمة على طريق المواطنة والمساواة. الأعباء والتحديات ظلت متراكمة لعقود من الزمن، ومن الصعب توقع حلها على المدى القصير. ولا شك أن إصدار اللائحة التنفيذية لقانون الكنائس سوف يساهم في ضمان استدامة فاعلية القانون وتطبيقه على الوجه الأمثل. كذلك، ربما يكون من المفيد أيضًا تشكيل لجنة فرعية عن اللجنة الوزارية المختصة بدراسة توفيق أوضاع الكنائس لتسريع صدور القرارات وتخفيف الأعباء عن اللجنة الوزارية.
وتجدر الإشارة أخيرًا إلى أن تكريس مبدأ المواطنة لا يكتمل إلا بإعادة دور مؤسسات التعليم والثقافة والشباب لترسيخ حقيقي وعملي لقيم التعايش والتعددية واحترام حقوق الإنسان. وعلى خطٍّ موازٍ تفعيل حقيقي لنصوص القانون الخاصة بتجريم أي خطاب للتحريض على الكراهية والعنف والتمييز. السير المتوازن سريع الخُطى في هذا الملف ليس بالأمر السهل، ويتطلب توافق كلٍّ من الإرادة السياسية والشعبية على مبادئ واحدة وعلى استراتيجية تتكاتف في تنفيذها مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية. ويقوم مجلس النواب بمراقبة فاعلية نتائجها ومخرجاتها.