خلال الفترة الممتدة منذ التاسع عشر من يوليو الماضي وحتى الخامس والعشرين من أغسطس الجاري، شنت إسرائيل عدة هجمات على أكثر من جبهة (سوريا، العراق، لبنان) استهدفت تدمير قواعد، ومنع إقامة مواطئ قدم، أو ممرات لتهريب السلاح لأذرع إيران العسكرية هناك.
تَزَامُنُ الهجمات الإسرائيلية مع حالة التوتر القائمة منذ نحو شهرين بين الولايات المتحدة وإيران في منطقة الخليج، طرح العديد من التساؤلات حول الأهداف الإسرائيلية من وراء هذه الهجمات، وهل سيؤثر ذلك على القدرات العسكرية للميليشيات المدعومة من إيران؟ وتوقيت تنفيذها، ومدى توافقها مع المعالجة الأمريكية للملف الإيراني في مجمله.
الميليشيات الإيرانية وحدود قدراتها
إذا كانت إسرائيل منذ نشأتها قد بنت استراتيجيتها -في أحد جوانبها- على نقل الحروب المحتمل وقوعها مع الجيوش العربية إلى أراضي الخصوم، فإن إيران منذ ثمانينيات القرن العشرين بنت استراتيجية مشابهه تقوم على إنشاء ميليشيات تابعة لها في الجوار الإقليمي المعادي، وعلى تخوم الدول التي تشكل مصدر تهديد لها، بحيث تتولى هذه الميليشيات الرد على مصادر التهديد تلك، حال قيامها (أي الدول المعادية) بأعمال من شأنها التأثير على المصالح الإيرانية في المنطقة، دون أن تضطر (إيران) للاشتباك المباشر مع هذه الدول. ومثلما اعتقدت إسرائيل أن هدف خصومها هو إزالتها كدولة، فإن نظام آيات الله منذ نشأته في أواخر السبعينيات يعتقد أن هدف خصومه هو إزالته أيضًا “كنظام”. من ثم، يأمل نظام الملالي في إيران أن ينجح في مقايضة تأمين بقائه “كنظام” بتفكيك ميليشياته العاملة في الدول المعادية مستقبلًا، مثلما نجحت إسرائيل عبر حروبها الاستباقية واحتلالها أراضي من دول الطوق العربي المحيطة بها في مقايضة انسحابها من هذه الأراضي بتوقيع اتفاقات سلام مع بعض هذه الدول بما يعني تأمين بقائها “كدولة”. غير أن تشابه الاستراتيجيات لا يعني بالضرورة إمكانية تحقيق نفس النتائج، وهو ما لم تدركه إيران حتى الآن. ومن المشكوك فيه أن ينجح نظام الملالي في تأمين بقائه اعتمادًا على دعم وتقوية ميليشياته وأذرعه الإقليمية لوجود فروقات جوهرية بين الحالتين الإسرائيلية والإيرانية والمتمثلة فيما يلي:
١- أن الرواية الإسرائيلية للصراع مع العرب تمكنت من جلب تأييد واسع لها في الرأي العام العالمي وفِي مراكز صناعة القرار الدولي، خاصة واشنطن، حيث ركزت إسرائيل على كونها دولة تحظى بالشرعية الدولية وعضوًا في الأمم المتحدة، وأن جيرانها هم من بدأوا بالعداء معها وهددوا بإزالتها. كما نجحت في خلق أدوار لنفسها تؤكد من خلالها على فائدتها للتحالف الغربي في مواجهة النظم الشيوعية أثناء الحرب الباردة. كذلك استثمرت في قواتها العسكرية لتجعلها متفوقة على كافة جيوش الدول العربية المواجهه لها، وتمكنت في النهاية من مقايضة انسحابها من أراضي بعض الدول العربية في الحصول على السلام معها. أما إيران التي يحاول نظامها الحفاظ على بقائه، فيبدو أنه يتجاهل حقيقة أن بنيته “الثيوقراطية” المذهبية وسعيه لتصدير ما يسمى بالثورة الإيرانية إلى جيرانه لم يخلق فقط عداء مركبًا مع الأنظمة الحاكمة والشعوب العربية، بل خلق مواضيع خطيرة للصراعات المذهبية والعرقية في الداخل، وهو ما يعني أنه بافتراض تمكن إيران من تطبيق معادلة نيل الاعتراف بنظامها وعدم السعي لإسقاطه مقابل تفكيك الميليشيات الخارجية التابعه له، فإن مصادر الخطر الداخلي يمكن أن تتسبب في تقويضه على المدى البعيد.
٢- رغم السعي الحثيث لإيران لدعم ميليشيات حزب الله في لبنان وسوريا، والحوثي في اليمن، والحشد الشعبي في العراق، لجعلها جبهات متقدمة في مواجهة أعدائها (إسرائيل، وبعض دول الخليج، والولايات المتحدة)؛ إلا أنه لا توجد ضمانات حقيقية بأن تتعامل هذه الميليشيات مع الأوامر الإيرانية بانصياع تام. فمن جهة، تتحسب هذه الميليشيات لتعقيدات البنيات الاجتماعية في الدول المتواجدة فيها، حيث تعبر هذه الميليشيات عن قطاعات اجتماعية لا تود أن تجد نفسها في معارك داخلية مع قطاعات أخرى تشاركها الهوية الوطنية حال إقدام الميليشيات المتحالفة مع إيران على تقديم المصالح الإيرانية على المصالح القومية، وهو ما حدث في الحالة اللبنانية عندما واجه حزب الله الممثل للطائفة الشيعية هناك، انتقادات عنيفة بسبب توريطه لبنان في حرب ضد إسرائيل عام 2006، والتي أدت إلى تدمير البنية التحتية للبلاد وتهجير أعداد كبيرة من سكان الجنوب والوسط، وزيادة المعاناة الاقتصادية للبلاد والممتدة حتى اليوم. بمعنى آخر، قد تبقى الميليشيات المدعومة من إيران على استعدادها لتخفيف الضغوط الدولية والإقليمية على طهران، ولكن حساباتها قد تختلف إذا ما ظهر أن إيران قد تقدمها كبش فداء حال تعرضها (أي إيران) لضغوط أشد أو لحرب واسعة النطاق تستهدف وجودها ذاته داخل أراضيها.
٣- على الرغم من الترسانة المسلحة التي قدمتها إيران إلى ميليشيات حزب الله والحركة الحوثية وقوات الحشد الشعبي وحتى ميليشيات حماس والجهاد الفلسطينيتين، وهي ترسانة كبيرة حجمًا وتحتوي على أسلحة صاروخية متنوعة، إلا أن نسبة الصواريخ المتطورة فيها تبدو قليلة حسب اعتقاد الخبراء الأمنيين الإسرائيليين والأمريكيين، وبالتالي فإن قدرة هذه الميليشيات -وعلى الأخص ميليشيا حزب الله في لبنان وسوريا- على توجيه ضربات مدمرة لإسرائيل يبدو محل شك، خاصة في حال إقدام إسرائيل على استخدام أسلحة نوعية جديدة تتعامل مع الأنفاق ومع الصواريخ متوسطة المدى بكفاءة أعلى مما كانت عليه في عام 2006. فإذا أضفنا حقيقة مرور المجتمع الإسرائيلي بتجربة البقاء في الملاجئ لفترات طويلة خلال هذه الحرب، وخلال المواجهات الكبيرة المتقطعة مع حركة حماس في غزة، في ثلاثة منها سابقة منذ عام 2009، والذي يعني زيادة قدرته على تحمل تبعات حرب طويلة تنتقل حتى إلى داخل البلاد مستقبلًا، إذا أضفنا ذلك، تبدو مصداقية ردع هذه الميليشيات محل شك كبير، بل إن إقدامها على الاستخدام الكثيف لصواريخها سيمنح إسرائيل شرعية أكبر في إلحاق دمار أوسع بالمناطق التي تطلق منها هذه الميليشيات صواريخها، وهو ما قد يهدد بفقدان التعاطف الداخلي مع هذه الميليشيات داخل مجتمعاتها، وبالتالي تزداد صعوبة الاستمرار في مثل هذه المعارك تحسبًا لانقلاب معادلات الاتزان الداخلي هناك.
دلالات توقيت الضربات الإسرائيلية
لقد اختارت إسرائيل توجيه ضرباتها إلى الحشد الشعبي وفيلق القدس وحزب الله في وقت تُدرك فيه أن إيران نفسها ستكون حريصة على منع هذه الميليشيات من الرد عليها خوفًا من أن تتشابك التداعيات المتتظرة من وراء مثل هذا الرد مع حالة التوتر الشديد بين إيران والولايات المتحدة في الخليج، مما يقود إلى حرب واسعة النطاق قد تتعرض فيها إيران للدمار الشامل كما هدد الرئيس “ترامب” من قبل. في الاتجاه نفسه، كان رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” يرغب في تقوية مكانته السياسية وهو مقبل على انتخابات عامة في سبتمبر القادم. ونظرًا لما يتعرض له نتنياهو من اتهامات من جانب الأحزاب اليمينية المتشددة وعلى رأسها حزب إسرائيل بيتينو، بأنه فرط في أمن إسرائيل بعدم كبحه لعمليات إطلاق الصواريخ من جانب حركة حماس في قطاع غزة، فقد كان نتنياهو في احتياج لجبهة مأمونة وبعيدة عن إمكانية الاشتعال لكي يرد على مثل هذه الاتهامات، وليثبت بالفعل أنه الزعيم الوحيد القادر على ردع خصوم الدولة العبرية.
الموقف الأمريكي من الضربات الإسرائيلية
لم تكن الولايات المتحدة مضطرة إلى التعليق على الضربات الإسرائيلية الموجهة لميليشيات إيران في المنطقة؛، فمن جهة ورغم تلميح نتنياهو أن إسرائيل كانت وراء هذه الهجمات، إلا أنه لم يتبناها رسميًّا، وبالتالي كان من المنطقي ألا يصدر تعليق رسمي أمريكي على تقارير غير رسمية، حتى لو كانت من مصادر إعلامية أمريكية. ومن جهة أخرى، لم تكن واشنطن لتدين أي عمليات عسكرية ضد تنظيمات مصنفة في لوائحها على أنها تنظيمات إرهابية، مهما كانت الجهة التي وقفت خلف هذه الضربات. لقد استغلت إسرائيل هذه الحقائق لتشن عملياتها بدون خشية على علاقتها مع واشنطن، ومن المؤكد أن الولايات المتحدة قد أحيطت علمًا بالعمليات الإسرائيلية في العراق وسوريا ولبنان قبل تنفيذها، وأنها أيدت شنها كونها تزيد من الضغوط الواقعة على إيران لإرغامها على العودة لطاولة التفاوض حول برنامجها النووي والصاروخي بدون شروط. كما أن مثل هذه العمليات تلعب دورًا مهمًّا في تزكية الحرب النفسية ضد إيران وحلفائها، في ظل عجزهم جميعًا عن الرد على الاعتداءات الإسرائيلية، ومن شأنها أيضًا (أي هذه العمليات) أن تشكك بقوة في مصداقية الردع الإيراني ومدى استعداد إيران لدخول مواجهة عسكرية مفتوحة مع الولايات المتحدة وإسرائيل.