أوضحت في دراسة سابقة[1] أن قوة السيبر أساسها العلمي هو “السيبرنتكس”، أي علم التحكم في الآلات. كما أوضحت أن قوة السيبر لها ثلاث وظائف أساسية، وميزت بين الحروب السيبرانية وحروب المعلومات والحرب النفسية. وانتهيت إلى تطورات الحرب السيبرانية حتى اليوم، مؤكدًا أن العالم لم يشهد بعد أي حرب سيبرانية، وأن الهجمات التي يشهدها العالم ويصفها بأنها هجمات سيبرانية هي هجمات إلكترونية وليست سيبرانية، لأنها أقرب لأعمال نشطاء القرصنة المنتشرين على الإنترنت، لأن المهاجمين لم يتحكموا في المواقع التي تمت مهاجمتها، وكل ما حدث أنهم نجحوا في تعطيل الكمبيوتر المتحكم في الموقع الذي تم الهجوم عليه ولفترة محدودة للغاية، ومن ثم فإنها حرب إلكترونية، وبالتالي فالحرب السيبرانية أخطر بمراحل كما سيتضح لنا.
وهنا أود الإشارة إلى أن العالم الآن يستخدم التقويم الميلادي للتأريخ، كما أن العالم الإسلامي قد يستخدم التقويم الهجري لنفس الغاية، ولكن العالم اليوم ووفقًا لمفاهيم المعلوماتية استخدم التقويم المعلوماتي للتأريخ وأساسه ظهور تكنولوجيا المعلومات، وفترات هذا التأريخ هي ما قبل التأريخ، ويضم الفترة منذ ظهور الكتابة على ألواح الطمي في العراق، والكتابة على جدران المعابد في مصر، أي منذ 4000 عام قبل الميلاد وحتى القرن السادس عشر، وهو عصر اكتشاف “جوتنبرج” لأول تكنولوجيا معلوماتية، أي المطبعة. وأعقب ذلك عصر التأريخ الذي استمر منذ ظهور مطبعة “جوتنبرج” حتى اختراع الإنترنت في تسعينيات القرن العشرين، ثم ظهور عصر التأريخ المفرط ويبدأ مع استخدام الإنترنت، خاصة إنترنت الأشياء والتشبيك المتواصل الدائم، وهي أمور سيتم تناولها في هذا التحليل الذي يستهدف شرح طبيعة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وعلاقتها بالحرب السيبرانية، ثم نتناول بيئة الحرب السيبرانية، والاستفادات العسكرية من المجال السيبراني، والمشكلات الأخلاقية المترتبة عليه.
أولًا: تطورات التكنولوجيا في عصر المعلوماتية
إحدى خصائص التكنولوجيا أنها أصبحت بينية In-betweenness. ورغم عدم الجدل في ذلك، إلا أن الأمر ازداد تعقيدًا في عصر المعلومات نتيجة تركيزنا على الإنسان الذي أصبح يتسم بالتفاعل نتيجة استخدامه هذه التكنولوجيا، وبالتالي فالتكنولوجيا وسيط بين المستخدم (إنسان تفاعلي) ودافع لاستخدام التكنولوجيا أو حاجة لاستخدامها، ومن ثم يمكن تصنيف التكنولوجيا عامة إلى ثلاث درجات:
أ- تكنولوجيا الدرجة الأولى first order Technologies، أي إنسان يستخدم التكنولوجيا كوسيط بينه وبين الطبيعة، ومثالها النظارة والقبعة والملابس على تنوعها، والمحراث والبلطة والسرج وأقواس الصيد. ويمكن أن تكون هذه التكنولوجيا معقدة ومثالها البندقية الآلية.
وهنا، قد يستخدم البعض وصف أداة Tool بدلًا من مفهوم التكنولوجيا؛ إلا أن ذلك تشويه للأمور، وتبسيط مخل لها، لأننا هنا نتحدث عن الإنسان الصانع homo Faber أو الإنسان التكنولوجي Homo technologicus وليس عن مجرد الاستخدام فقط، فهي تكنولوجيا تصل بين المستخدم أو الصانع (الإنسان) والبيئة أو الطبيعة مباشرة أو بين الإنسان والإنسان.
ب- تكنولوجيا الدرجة الثانية، وهي تكنولوجيا تصل المستخدم (الإنسان) بتكنولوجيا أخرى حتى يتمكن من السيطرة على الطبيعة أو البيئة المحيطة به، أي إن الإنسان يستخدم تكنولوجيا وسيطة لتصل إلى تكنولوجيا أخرى. على سبيل المثال، فإن المفك في المنزل هو أداة أو تكنولوجيا بينية أو وسيطة بين الإنسان وبين قطعة الخشب، لكنها تكنولوجيا أيضًا بينية بمفهوم أنها تُستخدم بين الإنسان وبين مسمار يربط بين قطعتين من الخشب. كما أن المفاتيح هي تكنولوجيا وسيطة أيضًا بين “الكالون” وبين الباب أساسا. والمركبات بأنواعها هي أيضًا تكنولوجيا وسيطة بينية، وهي تكنولوجيا من المرتبة الثانية أي إنها تكنولوجيا وسيطة بين تكنولوجيا الدرجة الأولى وبين الطبيعة، ووظيفتها هنا أنها ضرورة لإنجاز العمل لتكنولوجيا الدرجة الأولى نظرًا لتعقد العمل والمجتمع أكثر من ذي قبل.
هذه الدرجة الثانية للتكنولوجيا تتضمن درجة من الاعتماد المتبادل مع تكنولوجيا الدرجة الأولى ودرجة من التنظيم. وهذه الاعتمادية تتطلب وجود تجارة وعملة من نوع ما، أي إنها مرتبطة بمجتمع إنساني أكثر تعقيدًا وحضارة وثقافة مناظرة لهذه الدرجة من التكنولوجيا؛ فالمحرك البخاري والطرق الممهدة في عصر الثورة الصناعية تخضع للمعادلة (إنسان، تكنولوجيا، تكنولوجيا). أما مع ازدياد تعقيد المجتمع والدولة في العصر المتقدم للتصنيع، وهو عصر الحداثة السابق على التأريخ المفرط مباشرة، فإنه يقوم على عالم من التبعيات الديناميكية المتشابكة، ويمكن أن نصل إلى سلاسل من التفاعلات الميكانيكية أو الديناميكية لتكنولوجيات عديدة. على سبيل المثال، لا توجد قطارات من دون سكك حديدية وفحم، ولا سيارات بدون محطات وقود وطرق ممهدة، وهكذا.
هذه التتابعات الميكانيكية قد تدفعنا أحيانًا إلى أن نلجأ إلى تغيير النظام بأكمله floppy، لأنه أسهل من مجرد تحسين أداء جزء. وهذه ميزة القفزات التكنولوجية الأكثر إبداعًا للإنسان، لأنها تتيح له الفرصة كي يستعمل التكنولوجيا الأحدث دائمًا (طفرة السيارات الكهربائية) دون الحاجة للعودة إلى المربع الأول في التكنولوجيا، وهذه مهمة التشريعات التي تتعامل مع التكنولوجيا والتي تجبر الإنسان على اللجوء للتكنولوجيا الأحدث لأنها أكثر تنظيمًا وأكثر ربحية وأكثر فائدة إلى جانب قيام السوق بتيسير الانتقال من التكنولوجيا الأقدم إلى الأحدث.
لذا فإن معظم الأجهزة الحديثة بالمنزل إما أنها تكنولوجيا من الدرجة الأولى، أو من الدرجة الثانية، لكنها أيضًا عالم مهيأ لنمط جديد من تكنولوجيا الدرجة الثالثة التي تتسم بقفزة ثورية؛ قفزة تؤدي إلى إخراج الإنسان خارج إطار التكنولوجيا، أو أن يصبح إنسانًا معززًا (استخدام الطيار الآلي باستخدام الفأرة ولوحة المفاتيح). إنها قفزة تقودنا إلى عصر البيئة الذكية، أو التواصل الدائم، أو التواصل المتواصل، وعصر الآلات الذكية التي تتفاعل مع بعضها دون تدخل من الإنسان.
ج- تكنولوجيا الدرجة الثالثة، وهي تكنولوجيا ذكية تعمل على إنترنت الأشياء بشكل مستقل تمامًا عن الإنسان، لأن الثورة الرابعة القادمة ستتناول التطور الأفقي للتكنولوجيا من خلال ربط أي شيء بأي شيء، وتشبيك الإنسان بأي شيء وليس تشبيك الإنسان بالإنسان. ففي هذه البيئة تفحص سيارتك مفكرتك وتذكرك بأنك تحتاج وقودًا قبل رحلتك غدًا (كيف؟).
ويعرقل بداية تطبيق الثورة الرابعة الآن عدم وجود معايير مشتركة، ومحدودية البروتوكولات، وعدم تصميم الأجهزة والمعدات في شكل وحدات نمطية للتعامل بها مع بقية عناصر ومكونات الإنفوسفير؛ فالمشكلة الآن في إزالة التجزئة وتحقيق التكامل بين الأجهزة Defragmentation. هذه المشكلة يمكن حلها من خلال إجبار الإنسان للعمل كواجهة بينية interfaces مع هذه التكنولوجيا المعنية بإخراج البشر خارج هذه الدائرة لتصبح المعادلة تكنولوجيا تتعامل مع تكنولوجيا وسيطة التي تتعامل مع تكنولوجيا تفاعلية ذكية من خلال التنسيق غير المرئي بين الأجهزة.
التكنولوجيا هنا تتفاعل مع تكنولوجيا بينية للعمل مع تكنولوجيا أخرى، وهذا شرط لعصر التأريخ المفرط. وهنا ستكون سرعة تداول الأسهم بسوق المال عالية جدًّا HFT، ويقاس الزمن بالمللي ثانية، فإذا كانت تكنولوجيا الدرجة الثانية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالمحرك البخاري أو الكهربي؛ فإن تكنولوجيا الدرجة الثالثة ترتبط أساسًا بالكمبيوتر والذكاء الاصطناعي والاتصال الدائم، أي ترتبط بالذكاء المتواصل غير المرئي.
تكنولوجيا الدرجة الثالثة هي تكنولوجيا المعلومات والاتصال لأنها تعالج المعلومات بطريقة ذاتية وطرق ذكية، ومن ثم تكون مسئولة عن سلوكياتها، لأن البينية أصبحت داخل التكنولوجيات نفسها، أي إنها تستوعب الإنسان ذاتيًّا أو داخليًّا، ويمكنها أن تعيد تشكيل نفسها، خاصة أن الفضاء السيبري داخل هذه الدائرة للتكنولوجيا هو جزء ومكون من مكونات الغلاف المعلوماتي (الإنفوسفير) المحيط بنا والموجود الآن بالفعل.
هنا تنبغي الإشارة إلى أن جميع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات هي بطبيعتها ذات اتجاهين؛ اتجاه الإنسان حتى ولو كان خارج الدائرة المعلوماتية، واتجاه الطبيعة من الناحية الأخرى. وإذا نظرنا للرسالة الإعلامية فيها فستكون في اتجاه الإنسان أو المجتمع، وموجهة من صاحب الرسالة الإعلامية أو الدولة من الناحية السياسية، وبالتالي فهذه التكنولوجيا بطبيعتها بينية، أي ذات وجهين؛ الأول وجه يربط الإنسان بالتكنولوجيا على أنها واجهة، ووجه آخر يربط التكنولوجيا المستخدمة بأخرى وسيطة أيضًا، بأخرى تعبر عنه بروتوكولات الاستخدام أو برامج معلوماتية أو عناوين إلكترونية مثلًا. وهذه القاعدة يمكن تطبيقها على أنماط التكنولوجيا الثلاثة، ويمكن أن تكون إحدى الواجهتين غير مرئية.
إذن، الواجهة البينية في الثورة الصناعية الرابعة القادمة خلال سنوات قليلة تربط تكنولوجيا بتكنولوجيا عن طريق تكنولوجيا ثالثة، ولأن تكنولوجيا الدرجة الثالثة لديها القدرة على معالجة المعلومات ذاتيًّا (أي إنها تكنولوجيا ذكية)، وهذه المعالجة الذاتية أصبحت ممكنة بفضل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات؛ إذن فالواجهة برمتها هي مجموعة من البروتوكولات والتصميمات التي يمكن أن تكون استرجاعية، وعادةً ما تأخذ هذه التكنولوجيا وقتًا أطول نسبيًّا.
هنا يُطرح سؤال أشارت إليه دراسات عديدة، ألا وهو: هل يمكن إدارة هذه الآلات عن بعد وبالتخاطر؟ الإجابة هنا مزدوجة: نعم لأن العملية نفسها تبدو في شكلها الخارجي وكأنها تخاطر، ولكن في حقيقة الأمر فإن العملية هنا تتم عبر التواصل الدائم غير المرئي، لأن الإنسان في ظل الثورة الصناعية الرابعة سيكون أحد الأشياء التي تم تشبيكها بشكل دائم مع غيرها من الأشياء، وتشبيكه هذه المرة ليس مع أشخاص آخرين مثله كما يحدث الآن في عصر الإنترنت، وإنما تشبيكه سيكون مع غيره من الأشياء التي يستخدمها في منزله كالغسالة والثلاجة والإستريو والسيارة والكمبيوتر. ومن الممكن أن يكون إنسانًا معززًا على الأقل بالتاتو الإلكتروني، أو برموش إلكترونية، أو بعدسة تبث المعلومات وتعالجها.
ثانيًا: انعكاسات تطور تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الذكية على الدولة
هل تكنولوجيا الدرجة الثالثة وفقًا لهذا التحليل هي عصر الحرية المطلقة والانفلات الإنساني؟ هنا يتعرض المرء إلى تأكيد أن قوة السيبر مهمة جدًّا الآن لبناء بيئة تيسر خيارات أو إجراءات أو عمليات من شأنها خفض درجة الصراع في المجتمع وبناء توافقات عامة لتحل محل الصراع؛ فتكنولوجيا المعلومات والاتصالات قد كشفت النقاب عن أخلاقيات جديدة تدعم قيمًا، مثل: الثقة، والشفافية، وحرية التعبير، والعلانية، وحقوق الملكية الفكرية، والولاء، والاحترام، والسمعة، وسيادة القانون. بل إن السلوك الأخلاقي للوكلاء المعنيين أنفسهم يتوقف على هذه البنية التحتية كما ذكرت ذلك في الدراسة السابقة.
الجديد الآن ارتباطًا بهذه الأخلاقيات أن تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لم تعد بنية أساسية فقط كما تصورنا في بداية السبعينيات والتسعينيات من القرن العشرين، لكنها أصبحت تكنولوجيا مفسرة لتطور الدولة والمجتمع، ومفسرة لكل التطورات والظواهر السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يشهدها العالم. ليس ذلك فحسب، ولكن هذه التفسيرات أصبحت أدق، وتتناسب أكثر مع درجة التعقيد التي تمر بها مختلف دول العالم ومجتمعاتها على تنوعها، لأنها تفسيرات نابعة من المعلومات الضخمة Big Data المخزنة والتي أصبحت مع ما يتولد منها من معلومات جديدة أساسًا علميًّا لهذه التفسيرات. وقد تم تأكيد ذلك من بناء النماذج التي يتم بناؤها في الكمبيوتر من ناحية، أو في الواقع المادي من ناحية أخرى، وتتسق مع أبحاث ميدانية أُجريت طوال ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين قبيل استخدام الإنترنت على مستوى العالم حول تأثيرات دخول المعلومة كمكون جديد من مكونات القوة إلى جانب العنف والثروة.
هنا لا بد من تذكر أن كلمة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات هي المميزة لمجتمعات ما بعد التأريخ، لأننا نتفاعل بشكل متزايد مع العالم من ناحية، والتكنولوجيا من ناحية أخرى، خاصة التكنولوجيات التي تميل للتفاعل مع بعضها وبصورة غير مرئية. وبالتالي فإن تكنولوجيا المعلومات والاتصالات تؤثر في اتجاهين، هما: تشكيل وتوجيه تفاعلنا مع العالم، وثانيًا تدعونا هذه التكنولوجيا لتفسير العالم معلوماتيًّا من خلال خلق بيئات جديدة تمامًا لنسكنها فيما بعد، ونصبح بذلك جزءًا من العالم المعلوماتي المحيط بنا.
نتيجة نزعتي تشكيل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لأساليب تفاعلنا، وتفسيرها للظواهر الجديدة، فإنها تقود ثقافتنا لوضع إطار مفاهيمي جديد لمجمل حياتنا وفقًا لمفاهيم معلوماتية. ومن ثم، فإن هذه التكنولوجيا التفاعلية تدخل تعديلات على الواقع المادي، وتحوله إلى غلاف معلوماتي أو إنفوسفير، وهو مفهوم ابتُكر في السبعينيات ليوازي الغلاف الحيوي أو “البيوسفير”، ويتطور حاليًّا بشكل سريع ليدل على البيئة المعلوماتية التي تشمل جميع الكيانات المعلوماتية (المحتمعات أو الشبكات) وخصائص تفاعلاتها وعملياتها، وعلاقاتها المتبادلة، وهي بيئة تضاهي الفضاء السيبراني الذي يُعد أحد مكوناتها الفرعية؛ فالإنفوسفير يشمل فضاء المعلومات المتصلة وغير المتصلة والتماثلية.
ومن ثم، فإن تحول الدولة من نظام “ما قبل التأريخ” إلى “مرحلة التأريخ”، إلى مرحلة “التأريخ المفرط”؛ هي رحلة البحث عن نقطة جديدة للتوازن السياسي وفق التطور التكنولوجي الجديد، فالسلطة بطبيعتها ذات حساسية مرتفعة للتغيير، والتطور التكنولوجي بطبيعته عادةً ما يؤدي إلى تغييرات في عناصر تكوين السلطة السياسية التي قامت أساسًا على العنف في عصر ما قبل التأريخ، ثم أضافت مكونًا جديدًا خلال مرحلة ما بين الحربين هو الاقتصاد أو الثروة نتيجة الظاهرة الاستعمارية والتراكم التاريخي (عصر التأريخ). الآن أضافت أهم عناصرها وهي المعلومة (إرهاصات أو مقدمة عصر التأريخ المفرط).
إن التقدم التكنولوجي وانتشار المعلومة عادةً ما يؤديان إلى تقوية السلطة بصفة عامة، وبالتالي يسمح للدولة بمزاولة اختصاصاتها بسهولة وعلى جميع أجزاء إقليمها مهما كان مترامي الأطراف. وكان دخول المعلومة في مكونات السلطة -أساسا- أمرًا جيدًا لزيادة قوة السلطة.
لكنّ تكنولوجيا المعلومات ألغت المسافات التي تُعد جزءًا من الدراسات الجغرافية التي تُعد ذات أهمية خاصة للسياسة عامة، وبالتالي أسقطت الحواجز بين الدول؛ وإسقاط هذه الحواجز يزيد درجة التفاعل بين القيادات السياسية للدول بما يؤدي في النهاية إلى زيادة التفاهم الدولي مما ينعكس على حالة الاستقرار السياسي العالمي؛ إلا أنها أدت في الوقت نفسه إلى زيادة النزعة نحو العولمة على حساب الدور القومي للدولة. وجميع عمليات العولمة تتم داخل مؤسسات الدولة القومية أساسًا بعد دعمها بتكنولوجيا المعلومات، أي إنها طرحت تناقضًا حادًّا بين الدور القومي للدولة والدور العولمي لها، وهو الآخذ في التوسع العولمي على حساب الدور القومي للدولة.
كذلك، فإن تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ساهمت في تكوين طبقة جديدة من التكنوقراطيين الجدد الباحثين عن السلطة والتمثيل السياسي داخل الدولة وخارجها، وبالتالي فإن هذه التكنولوجيا تطرح نخبتها الجديدة التي تدعم السلطة في الوقت نفسه باعتبارها أكثر عناصر النخبة قربًا للسلطة، وتأمل أن يستند إليها الحاكم في حكمه مستقبلًا؛ فتكونت لديها تطلعات متزايدة، خاصة أنها تتحكم في الخطاب السياسي في المجتمع، سواء من أعلى لأسفل أم من أسفل لأعلى. وبالتالي فإن النخبة أصبحت تتحكم في إدارة السياسات العامة للدولة وطرق نقلها، ومن ثم يمكن لعلماء هذه التكنولوجيا السيطرة على السلطة من الناحية الفعلية، والتأثير عليها سلبًا وإيجابًا وفقًا لمصالحها واتجاهاتها وهو أمر له محاذيره.
ظهور هذه النخبة الجديدة لا بد أن ينعكس في أساليب جديدة في طريقة الحكم وفي أسلوب صياغة السياسة الداخلية والخارجية معًا، والتجديد في مضمون هذه السياسة، وكيفية اتخاذ القرار السياسي، وفي أسلوب صياغة نظرية الأمن القومي للدولة على السواء.
هذه النخبة تؤدي أيضًا إلى ظهور أنماط جديدة من العلاقات السياسية، وتحديدًا بين طبقة التكنوقراط الجديدة والقطاع العريض من المواطنين من ناحية، ونفس تلك الطبقات ومحترفي السياسة من جانب آخر. كما أن التقدم العلمي في أوروبا منذ السبعينيات أدى إلى تأكيد ظاهرة الدولة القومية، وبالتالي فإن المجتمع العلمي العالمي سيخضع لتأثير النظام العالمي الصاعد، وتحول النظام الدولي القطبي إلى نظام عالمي واسع شبكي تنتشر فيه السلطة بين الدول والمنظمات غير الحكومية والشركات متعددة الجنسيات والفاعلين الدوليين من أعضاء الشبكات العالمية والمحلية، مثل: شبكات رجال الأعمال، وشبكات الاقتصاديين، وشبكات خبراء العلوم الاجتماعية، وشبكات أساتذة الفيزياء، وغيرهم.
وقد أكدت مفاوضات 1+5 بين إيران والمجتمع الدولي أن التكنولوجيا قد تحولت بالفعل إلى إحدى أدوات السياسة الخارجية، وعنصر من عناصر تقييم الوجود العالمي، وبالتالي ستحتكر هذه السياسة البحث العلمي، وتجعله سرًّا من أسرار الدولة، فهو أحد مكونات أسلحة الجيل الخامس للدولة، وهو عنصر من عناصر الحرب النفسية والمعلوماتية والسيبرانية. وكل هذا سيؤدي إلى تغييرات دراماتيكية في مختلف مؤسسات العمل الدبلوماسي وأجهزة المخابرات، وكافة مؤسسات الأمن القومي والقوات المسلحة عامة، مما يؤكد الحاجة لإعادة تدريب العاملين في هذه القطاعات وفقًا للتطورات التي أدت إلى تحولات عدة في طبيعة الدولة القومية.
إذن، دخول المعلومة إلى جانب العنف والثروة كمكون من مكونات السلطة أدى إلى تغييرات كلية في الدولة، وبلور ظهور نخبة جديدة، ومهد لظهور عصر جديد، وأخل بنقطة توازن الدولة القائمة على توازن القوى والفصل بين السلطات، مما دعا هذه الدول إلى البحث عن نقطة توازن جديدة تتناسب مع عصر “التأريخ المفرط” وقيمه وأفكاره النابعة من تنظيمه الشبكي. ولذا فقد أدّى هذا التحول إلى إثارة عدة متناقضات تتعلق بجوهر القيم الأخلاقية لعصر “التأريخ المفرط” الذي أصبح على بُعد سنوات تعد على الأصابع. وتشمل هذه التناقضات ما يلي:
أ- التناقض بين الحقائق الفعلية المرتبطة بالمجتمعات العالمية، والحقائق الشكلية التي لا تزال تسيطر على العلاقات الدولية (مثل: مبدأ المساواة بين الدول، ومبدأ عدم التدخل في الشئون الداخلية، ومبدأ السيادة)؛ فالدول الكبرى هي المسيطرة على التقدم العلمي أساسا، وبالتالي تتحكم في الاستراتيجية العالمية في عصر التأريخ المفرط، والعولمة ما زالت تدعم التفاوت وعدم المساواة بين الدول، والسيادة تآكلت عمليًّا.
ب- التناقض الحاد بين قيم نخبة عصر التأريخ، وتضم رجال الصناعة والمال والأعمال وجزءًا من النخبة الإعلامية المرتبطين بها، ويستهدفون بقاء الأحوال على ما هي عليه دون تغيير لأن هدفهم الربح والربح فقط، وقيم نخبة عصر “التأريخ المفرط”، والتي تضم أساسًا نوعية مختلفة من النخب، وهي نخبة فكرية أساسا، من مبرمجي الكمبيوتر المبدعين بالدرجة الأولى، ومصممي الشبكات، المتعاملين مع المعلومات الضخمة Big Data، وجزء آخر من رجال الإعلام الذين فهموا العصر القادم ومتطلباته وآمنوا بها وبقيمه وأفكاره.
ج- التناقض بين قيم تكنولوجيات تنتمي للدرجة الأولى والثانية وأخرى تنتمي للدرجة الثالثة، والفارق الأساسي بينهما أن تكنولوجيا الدرجة الثالثة تكنولوجيا ذكية قادرة بذاتها على التفاعل مع غيرها من التكنولوجيات الأخرى ومع المعلومات، ومثالها التليفون المحمول الذكي والثلاجة الذكية والمركبات المختلفة بدون سائق والإنسان المعزز، فالتكنولوجيا الذكية لها قيمها المتعارضة تمامًا مع قيم وأفكار التكنولوجيا السابقة عليها، وهو ما يتضح في التصميم والأداء والوظيفية.
د- التناقض بين الدور المحلي والدور العولمي للدولة في مؤسسات الأمن القومي خاصة، وجميع مؤسسات الدولة عامة. على سبيل المثال، في هذا المناخ صار التقدم التكنولوجي هو أحد عوامل الضبط الدبلوماسي للسياسة الخارجية؛ فالدبلوماسي مثلًا أداؤه قومي لأنه يمثل الدولة المرسلة، لكنه اتصاليًّا ومهنيًّا ومعلوماتيًّا لا يمكنه التخلي عن المجتمع العالمي، والمبادئ التي تسيطر على المجتمع العالمي هي القومية والاستقلال الوطني والعولمة والتنمية المستدامة والحرية والثقة والمصداقية والتعبير عن الذات، وهي في مجملها سياسات العولمة التي ترفضها بعض الدول حتى الآن سياسيًّا، بل وتقاومها بدعوى تحقيق مصالح قومية، مثل السياسة الأمريكية في عهد “ترامب” التي تخلط بين قدر من الشعبوية (من قيم عصر التأريخ) ممثلة في الانسحاب من اتفاق باريس لحماية البيئة والحمائية الاقتصادية، وبين قيم العصر القادم (التأريخ المفرط) ومتطلباته مثل دعم تكنولوجيا وصناعات الثورة الصناعية الرابعة، وقيمه المتمثلة في الحرية والتعبير عن الذات.
ورغم هذه التناقضات في القيم؛ إلا أن التطور العلمي يدعم حتى الآن تحولات النظام العالمي إلى الشبكية بدلًا من القطبية لأنه جعل العالم شبكة واحدة بالإنترنت التي أحدثت تغييرات على مستوى كل دولة تتسم بأنها تغييرات كلية، فبعد أن أكدت التحولات التكنولوجية فيما مضى (عصر المصنع وخطوط الإنتاج) مبدأ الوحدة فشهد العالم قيام الاتحاد الأوروبي وضم إليه دول وسط وشرق أوروبا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وتحولات مؤسساته إلى مؤسسات ملزمة للدول الأعضاء، وظهر تنظيم خاص بالدول العربية (جامعة الدول العربية)، وظهرت منظمة الدول الأمريكية، ومنظمة الوحدة الإفريقية، ثم الاتحاد الإفريقي؛ إلا أن تكنولوجيا المعلومات والاتصالات قد نجحت في تغيير تنظيم الدولة، فظهرت أشكال جديدة للتنظيم السياسي للدولة انعكست على انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وظهور أزمة الخروج دون اتفاق. وهنا يتضح أن التنظيم السياسي الجديد للدولة هو تنظيم الدولة الذكية أو الدولة الشبكية.
الخلاصة في تأثير المعلوماتية على تنظيم الدولة أن دخول المعلومة كمكون رئيسي للسلطة إلى جانب العنف والثروة، أدى إلى مأزق في تحول الدولة القومية، لأن مأزق التحول من نظام تأريخي ويستفالي إلى نظام ما بعد “بريتون وودز” مفرط التأريخ بحثًا عن نقطة توازن جديدة يمكن إرجاعه إلى عدة عوامل، أهمها:
أ- إضفاء طابع ديمقراطي على البيانات والمعلومات، والقدرة على تجهيزها أو التحكم فيها، وبذلك تستطيع التكنولوجيا المعلوماتية والاتصالية أن تنشئ وتتيح المعلومات لعدد كبير ومتنوع من الكيانات غير التابعة للدولة: أفرادًا، ثم شركات، ثم منظمات غير حكومية، ثم منظمات دولية حكومية وغير حكومية عابرة للقوميات.
ب- الجغرافيا: فقد كسرت تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، محلية وإقليمية، الخبرة البشرية، أي إنها وسعت من مفهوم “الإنفوسفير” الذي يعمل به عدد متزايد من الوكلاء والوسطاء. وهنا تبدو أهمية تجربة الحياة دائمة الاتصال أو “أون لايف”، فهذه الاتصالات المتواصلة هي في جوهرها بلا كيان جغرافي لأنها تتم في الغلاف المعلوماتي، مما يؤدي لأشكالية بين الجغرافيا والسيادة من جانب؛ فالجغرافيا تحديدًا ذات مفاهيم ومعايير عالمية، بينما الدولة ما زالت حتى الآن تحدد هويتها وشرعيتها السياسية بمفهوم الوحدة الإقليمية ذات السيادة، ولم تأخذ المتغيرات المعلوماتية والاتصالية في الاعتبار.
ج- التنظيم: فقد قربت تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ما بين الأحزاب السياسية والانتماءات العرقية وعوائق اللغة والعوائق الطبيعية، وأكمل هذه الدائرة تخطي المعلوماتية للحدود، والتأكيد على الدور التنظيمي للدولة في ظل وجود وكلاء أقوياء، مما أدى إلى مزيدٍ من التوتر بين الدولة وهؤلاء الوكلاء والجغرافيا والمنظمات غير التابعة للدولة، وهي منظمات قوية ومشاركة في السلطة للأسف، والمثال على ذلك: هل الإرهاب لا يزال مشكلة داخلية ولا يحتاج لمعالجة عالمية بالضرورة؟
د- التفاعل بين العوامل الثلاثة السابقة يعيد الجدل حول الديمقراطية التمثيلية في المجتمع؛ فالديمقراطية تاريخيًّا بدأت مباشرة وعلى أسس عرقية، وكانت ذات جدوى. ومع تعقد الدولة والمجتمع فكرنا فيها على أنها خيار مكمل لأشكال أخرى من الديمقراطية التي أصبحت نيابية أو تمثيلية. والواقع الآن يؤكد أن الديمقراطية أصبحت تقودها وسائل الإعلام الجماهيري، أي تكنولوجيا المعلومات الجديدة. وفي هذه الأوضاع تتضاعف المجموعات الموزعة للمعلومات التي تتجمع قي الوقت المناسب بشأن المصالح المشتركة، وتصبح مصادر تأثير خارج كيان الدولة. وهنا تظهر استطلاعات الرأي هذه المصالح بوضوح، ويصبح ممكنًا بناء توافق رأي عام ثابت معتمدًا على معلومات تزامنية.
هنا لا بد من الإشارة إلى فكرة مهمة لأنها مرتبطة بتطور الدولة نفسها في عصر التأريخ المفرط، ولأنها تبرئ الدولة من اتهامات عديدة نالتها فيما سبق، وتنعكس بصورة مباشرة على كل ما يتعلق بها من ممارسات لاستخدام العنف شرعيًّا، أو أسلوب اتخاذ القرار أو مفهوم الديمقراطية، ذلك أن فكرة البينية التكنولوجية لا تُعتبر خطرًا على ممارسة السلطة على أنها شكل من أشكال السيطرة على الإنسان؛ لأن البينية الأكبر تعني مزيدًا من الخيارات، والخيارات الأكثر تعددًا تعني مزيدًا من الحرية، والحرية تعني مزيدًا من السيطرة، وهذه السيطرة تتيح خيارات أكثر، وهذه هي فلسفة وإشكالية عصر المعلومات التفاعلي في آن واحد، فالشبكات بوصفها التنظيم الاجتماعي والسياسي لعصر “التأريخ المفرط” ما هي إلا انعكاس لتكنولوجيا معلومات واتصالات، أي إنها تكنولوجيا بينية تستهدف الإنسان الفرد أو المواطن أولًا وأخيرًا، وحرية التعبير عليها واسعة لأنها بعيدة عن سيطرة الدولة من ناحية والشركات التي تنظمها من ناحية أخرى. ذلك أن الشبكات يصعب -بل يستحيل- مراقبتها، وغاية ما في الأمر أننا يمكن أن نراقب أفرادًا معينين على الشبكات، لأن فرض الرقابة على الشبكات يحتاج برنامجًا يخترق الحواجز الأمنية داخلها. وهذه الحواجز عددها وفقًا للقانون N2 مضروبًا في عدد الحواجز الأمنية التقليدية داخل أي شبكة وعددها 17 حاجزًا، حيث إن N تمثل عدد أعضاء الشبكة، أي إن شبكة عدد أعضائها 100 عضو يصبح البرنامج المطلوب لرقابتها قادرًا على تخطي 170 ألف حاجز أمني، وهو برنامج غير متاح الآن من الناحية العلمية والواقعية. وإذا وُجد فسيتكلف المليارات من الدولارات، ومثاله البرامج التي تستخدمها بعض الشركات الضخمة مثل أوبر وكريم، وبالتالي فعصر الثورة الصناعية الرابعة هو عصر الآلات الذكية التفاعلية وإنترنت الأشياء والاتصال المتواصل الدائم؛ عصر الذكاء المفرط وعصر قوة الدولة الذكية.
الخلاصة أنه للأسباب الأربعة السابقة، فإن الدولة التأريخية بوصفها وكيل ومنظم المعلومات والبيانات والسلطة يجري تقويضها من أسفل وتجاوزها من أعلى: ففي أزمة 2008 في الولايات المتحدة تسامحت واشنطن مع الدعوة لاحتلال “وول استريت”، واتخذت إجراءات من أعلى بالتفاوض مع مختلف المؤسسات الحكومية لتطبيق سياسات “إجماع واشنطن”. وفي الأزمة اليونانية سنة 2009، لجأت الحكومة للتفاعل من أعلى مع الاتحاد الأوروبي والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد وهيئات التصنيف الائتماني، لكنها لجأت أيضًا إلى التفاعل من أسفل مع جماهير ميدان سينتاجما والأسواق المالية، والمستثمرين الدوليين، والرأي العام، ووسائل الإعلام الجماهيري اليونانية.
إذن، من المهم إدراك أن فكرة شبكية التفاعلات السياسية مختلفة تمامًا عن التفكير في العلاقات القطبية بمختلف تنوعاتها، وأهم هذه الاختلافات أنها تسمح بدرجة أعلى من التسامح إزاء الأفكار المعارضة لسياسات بعض الدول، مثل: فكرة الحفاظ على البيئة، وأولوية الدور القومي للدولة، وانتقادات العولمة، خاصة فيما يتعلق بعدم المساواة داخل الدولة وخارجها، وفيما بين الدول وبعضها، ومثل تمكين بعض الفئات المهمشة اجتماعيًّا، والحفاظ على سلالات معينة من الطيور والحيوانات.
وبنفس الفكرة يمكن تفسير رفض إسبانيا انفصال كتالونيا عن الدولة الأم، أو فكرة وجود هوية عالمية ينبغي أخذها في الاعتبار، رغم خطورتها وخطئها. فهذه التيارات تنتمي أصلًا إلى عصر التأريخ أي عصر القطبية أو عصر ما قبل الشبكية، لكنها بضغوط تفاعل العوامل الأربعة السابق مناقشتها يمتد تأثيرها لبعض الوقت فتظهر في عصر “التأريخ المفرط” والشبكية، لأن الدولة الوطنية في ذلك العصر كانت ترى أن نقطة التوازن الجديدة هي نفس نقطة توازن وستفاليا القائمة على توازن القوى. ويؤكد ذلك أن “تجمع الأقاليم الأوروبية”Assembly of European Regions الذي تأسس أصلًا في 1985 باسم “مجلس الأقاليم الأوروبية” council of the regions of Europe وضم أكثر من 250 منطقة من 35 دولة، إضافة إلى 16 منظمة متعددة، وأيد فكرة تفويض السلطة واللا مركزية كمقدمة لانفصال بعض المناطق في أوروبا عن الدولة الأم.
أيضًا مشروع قانون بطاقات الهوية الذي قدمته حكومة حزب العمال البريطاني في نوفمبر 2004، ولكن بعد عدة محاولات تم إلغاؤه في 21 يناير لأنه حاول تقديم هوية إلزامية للمملكة المتحدة وفقًا لتوازنات وقوانين وستفاليا. ولنفس الأسباب وقفت دول غرب أوروبا، حليفة واشنطن أساسًا، ضد سياسات الرئيس “ترامب” في موضوعات عديدة، منها انسحابه من اتفاق باريس لحماية البيئة، وسياساته الاقتصادية القائمة على اتخاذ إجراءات حمائية، وموقفه من الاتفاق النووي الموقّع مع إيران.
وهناك عشرات الحالات الأخرى تخضع لنفس التحليل بأن مقاومة “التأريخ المفرط”، والحفاظ على الدولة وعلى دورها كوكيل معلومات رئيسي أو كدولة مسيطرة على الوظائف والتشريعات بوصفها شركات مملوكة للدولة في جميع أنحاء العالم هو مقاومة للتأريخ المفرط الذي ترى الدولة القومية أنه لا يتسق ومصالح الدولة وروح العصر. والعذر الوحيد لذلك هو أن عصر “التأريخ المفرط” لم يبدأ بعد، ولكنه خطا أولى خطواته في التسعينيات بتشبيك الإنسان بالإنسان عبر العالم بالسماح بالاستخدام التجاري للإنترنت، وهي خطوة أولى لتشبيك كل شيء بكل شيء والتشبيك الدائم والمتواصل للإنسان بهذه الأشياء.
المستوى التكنولوجي اليوم أو المعلومة تحكم العنف والثروة، وقد أكدت مباحثات 1+5 هذا القانون بصورة واضحة، لكن المثال التقليدي الأوضح في هذا المجال كان مصر بعد 30 يونيو؛ فقد قدمت نموذجًا متكاملًا في سياسات مكافحة الإرهاب يقوم على استخدام القوة وتحسين مستوى الأداء العسكري، والدعوة للتعاون الدولي في مجال تمويل وإيواء وتدريب عناصر الإرهاب الذي تحول إلى ظاهرة معولمة، وأصبح أداة للدول العظمى لتحقيق أهدافها السياسية. ولذا أشركت مصر المجتمع في سياسات مكافحة الإرهاب بصورةٍ ما، واتباع سياسة إعلامية نشطة لفضح المخططات الإرهابية وتحالف الإرهاب المحلي مع الإرهاب الإقليمي والعالمي. وكان ذلك نتيجة إدراك القيادة السياسية لحقيقة تغير وظائف مؤسسات الأمن القومي التي سبقت الإشارة إليها في شقها العسكري، فالعلاقة بين المستوى التكنولوجي والكفاءة العسكرية والسمعة الدولية للدولة مسألة حيوية، فكلما ارتفع أو تحسن المستوى العلمي للأسلحة القتالية، زادت الكفاءة العسكرية للدولة في إطار ارتفاع مستوى أداء الدولة إداريًّا ككل، وتحسنت السمعة القومية للدولة عالميًّا، لأن تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في ثوبها الجديد المتمثل في الدرجة الثالثة للتكنولوجيا يحكم بالفعل العنف والثروة كمكون من مكونات السلطة الذكية.
ثالثًا: الحرب السيبرانية.. أخلاقيات ومجالات جديدة
الحرب السيبرانية ترتبط أساسًا بتكنولوجيا الدرجة الثالثة التفاعلية، وهي تكنولوجيا قادرة على تحليل البيانات الكبيرة من ناحية، وقابلة للتحكم في بعضها بعضًا عن بعد، والتفاعل مع بعضها بعضًا مباشرة، من ناحية أخرى، أو في تسلسل مفقود الهوية بالنسبة للغير، لأن الفاعل غير مرئي حتى وإن كان معروفًا. ومن ثم، فإنها تتأثر مباشرة بأخلاقيات قوة السيبر التي تناولناها في الجزء الأول من الدراسة بقدر تأثرها بقانون الحرب الذي أمكن تراكمه عبر مسيرة الحضارة البشرية، وأخلاقيات عصر السيبر ككل وما يشمله من معدات وصناعات عسكرية وعقائد عسكرية. ومن ثم، فإن قضية الحرب السيبرانية هي قضية معقدة للغاية وذات مستويات متعددة مما يفرض علينا الحذر لأسباب أهمها:
– أننا لسنا عسكريين، وبالتالي ستظل قدرتنا على التحليل للظاهرة محدودة بمحدودية ثقافتنا العسكرية.
– أننا ما زلنا في مرحلة انتقالية لبدء العصر السيبراني، ومن ثمّ لم تتوافر بعد جميع مؤشرات تطوره.
– أن معظم أساتذة الدراسات الاجتماعية على تنوعها عامة، والعلوم السياسية والمستقبلية خاصة، تحولوا من الأستاذية وما تفرضه من علمية وحياد إلى السياسة وما ترتبها من توجهات، بل ومؤامرات تحقيقًا لمصالح معينة. وأشير هنا إلى قطبين يُمثلان قمتين في العلم، كل في تخصصه، هما الأستاذ “روزيناو” في العلاقات الدولية ودوره الغريب في صناعة الدين الإبراهيمي كوسيلة لتغيير القيم في الشرق الأوسط لتصفية القضية الفلسطينية وفقًا للمفاهيم والمصالح الإسرائيلية، والأستاذ “إنجلهاردت” أستاذ الاجتماع السياسي ومدير مشروع مسح القيم العالمي الذي شاركت فيه مصر منذ سنوات 3 مرات. وبالرغم من ذلك، قام البرنامج ببث القيم التحررية في الشرق الأوسط والتي تشمل: قيم الحريات الدينية، وقيم الحريات الجنسية، وأتت ثمارها في 2011/2010، كما أكد نائب رئيس المشروع، إضافة إلى الأستاذ “صامويل هينتجتون” قبيل وفاته حينما صاغ نظرية تصادم الحضارات. وبالتالي فليس كل ما يُقرأ في الكتب العلمية صحيحًا سياسيًّا وعلميًّا، مما يتطلب ضرورة توافر نظرة نقدية هي أصلًا من متطلبات التفكير العلمي والتفكير الاستراتيجي في عصر الثورة السيبرانية.
لذا، من المؤكد أن علم السيبرنتكس يعكس تطوره الحالي رؤيتين متناقضتين؛ الأولى متفائلة عبر عنها “مارفين لي مينسكي” أستاذ العلوم الإدراكية والمعرفية في مجال الذكاء الاصطناعي ومؤسس معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا ومختبر الذكاء الاصطناعي بقوله: “هل سترث الروبوتات الأرض؟ نعم، ولكنها ستكون بمثابة أبنائنا”، في إشارةٍ منه إلى إمكانية السيطرة على أي آلة ذكية. والرؤية الثانية متشائمة، وتتخوف من تفوق الآلة الذكية على الإنسان وفق ما عبر عنها مؤتمر أسيلومار Asilomar الذي عُقد في كاليفورنيا عام 2009 لمناقشة احتمالات تفوق الآلة على الإنسان، وكدليل على تقدم الآلات الذكية، فاستعرضوا عمل الطائرة ذاتية القيادة طراز Predator المستخدمة في باكستان وأفغانستان لاصطياد الإرهابيين بدقة، والإنسان الآلي الأكثر تطورًا أسيمو Asimo الذي اخترعته شركة هوندا خلال 20 عامًا من العمل المستمر، ويتمتع بقدرته العالية على الجري، وصعود وهبوط السلالم، واستقبال 400 ضيف والتخديم عليهم. ومن ثم فهنا لا بد من التمييز بين نوعين من الروبوت أو الآلات الذكية؛ النوع الأول الذي يتحكم فيه الإنسان عن بعد، أو نتولّى برمجته ليتبع التعليمات البشرية وبدون الإنسان لا تساوي هذه الآلة شيئًا. والنوع الثاني، هو إنسان آلي ذاتي مستقل في قراراته عن الإنسان، ويمكنه التفكير والتعلم الذاتي، وهو يمثل حلمًا ما زال يراوغ العلماء منذ أكثر من نصف قرن. وبالرغم من تعرض هذه الصناعة لأربع انتكاسات كبرى في أعوام 1965، 1974، 1992، 1997، ،1997؛ إلا أن الحلم لا يزال قائمًا. ويتولى زمام الذكاء الاصطناعي اليوم جيل جديد من الباحثين تقدمت على أيديهم وحماسهم مجموعة جديدة من أبحاث الكمبيوتر، مما فتح الباب مرة خامسة لإنتاج إنسان آلي ذكي له القدرة على التعلم الذاتي والاستفادة من أخطاء الماضي، كما فتح المجال أمام تطوير الكائن المعلوماتي المعزز Inforg، والكائن السيبراني Ceybor. فإذا كان تاريخ الذكاء الاصطناعي هو تاريخ الفشل، أو تاريخ التقدم المتواضع جدًّا، فمن الواضح أن حماس باحثي الذكاء الاصطناعي يجعلنا اليوم أكثر حماسة لهذه الأبحاث الجديدة، دون أن نحدد مدى النجاح من عدمه استفادة من دراسات الأعصاب للشبكات الاجتماعية. السبب الأول لعجز الإنسان عن إنتاج آلة ذكية مستقلة عنه هو عجز هذه الآلة عن التعرف على المعلومات البديهية، ثم التعرف على الأنماط. وتفسير ذلك أنه توجد طريقتان لبناء الإنسان الآلي؛ الأولى من أعلى لأسفل ببناء المخ أولًا، والثانية من أسفل لأعلى ببناء الشبكات العصبية أولًا.
وقد أدرك علماء الرياضيات أن بناء الإنسان الآلي بطريقة تنازلية كان خطأ أساسيًّا في التفكير لأنهم تصوروا أن مخ الإنسان يماثل حاسبًا آليًّا، أي إنه رقمي، وهذا خطأ؛ فلا يوجد داخل المخ الإنساني رقائق أو نظام تشغيل أو وحدة معالجة مركزيه؛ فبنية الكمبيوتر تختلف تمامًا عن بنية المخ الإنساني الذي يتكون من مجموعة خلايا عصبية على اتصال مستمر ببعضها فور تلقيها أي معلومة أو تجربة، وتخزن هذه المعلومة أو التجربة داخل هذه الخلايا العصبية.
ومن ثم، بعد أن كان علم “السيبرنتكس” قد اتجه إلى بناء إنسان آلي من أعلى لأسفل عبر التعامل مع أجهزة الروبوت على أنها حاسبات آلية، وبالتالي يتم برمجة كل أدوار الذكاء من البداية داخل جزء من الذاكرة من خلال إدخال هذه المعلومات في وحدة إدخال واسترجاعها وقت الحاجة من خلال وحدة إخراج، وكان الهدف من هذه العملية الحصول على CD-ROM (ذاكرة قراءة للأقراص المضغوطة مشفر عليها كل أدوار الذكاء وبإدخال هذا القرص يصبح الإنسان الآلي ذكيًّا)، بعد ذلك أدرك العلماء طبيعة المخ البشري وأنه عبارة عما يشبه الخلايا العصبية الدائمة الاتصال، وفي كل مرة تتخذ قرارات صحيحة تتعزز قوة هذه المسارات العصبية عن طريق تغيير قوة توصيلات كهربية معينة تربط بين الخلايا العصبية. وتسمى هذه الطريقة للتعلم طريقة هيب لأنها قائمة على الممارسة.
ومن ثم، اتجهوا مؤخرًا إلى بناء الإنسان الآلي من أسفل لأعلى ودراسة الشبكات العصبية اعتمادًا على طريقة بحث علمية من أدنى لأعلى، أي من المستوى البسيط التركيب إلى المستوى الأعقد تركيبًا؛ فبدلًا من تخزين كل قواعد الذكاء نلجأ إلى طريقة الممارسة الواقعية، خاصة أن بنية الشبكات العصبية تختلف تمامًا عن بنية الأجهزة الرقمية كما ذكرنا، لأننا إذا أزلنا ترانزيستور واحدًا من أي كمبيوتر فإنه يتوقف عن العمل، أما إذا اقتطعت جزءًا من المخ فإنه يحتفظ بقدرته على العمل وتتولى الأجزاء الباقية القيام بالعمل. كما يمكن تحديد موقع التفكير فيه، والتفكير ينتشر في المخ على نطاق أجزاء كبيرة منه، ويتم تقاذف المعلومات في المخ مثل كرة البنج بونج.
الخلايا العصبية تنقل النبضات العصبية ببطء لذا تبلغ سرعتها 200 ميل في الساعة، مع أن المخ يفوق ذلك كثيرًا لأن توصيلات خلاياه على التوازي على قطاع كبير (100 مليار خلية عصبية)، وتؤدي كل خلية جزءًا من عملية حسابية بسيطة، وتتصل كل خلية بحوالي 100 ألف خلية عصبية، لذا فإنه ليس مخًّا رقميًّا ولكن يمكن اعتباره معالجًا متوازيًا ومن ثم فائق السرعة، وهو ما تمت الاستفادة منه في تصميم الشبكات لتنقل المعلومة حول العالم 7 مرات في ثانية واحدة.
في اختبارات المعرفة الفورية قد يتوازى الإنسان مع الآلة، فتم اختراع آلة وفقًا لهذا المفهوم: آلة بوجيو، وأدت إلى نتائج إيجابية لبناء الإنسان الآلي من أعلى لأسفل، وتم في ستانفورد STAIR، ومن أسفل لأعلى في جامعة نيويورك LAGR، والفارق أن STAIR تم تجهيز برامجه بينما LAGR تم تجهيز خريطة معرفية له بقواعد التعامل فكان أداؤه أكثر تقدمًا.
المفاجأة الآن أن العلم لا يقف عند تقدم واحد، فقد توصل العالم Weimin Shen بجامعة كاليفورنيا الجنوبية إلى روبوت تركيبي من مكعبات صغيرة لا تتجاوز مساحة السطح بوصة واحدة ومعها وصلات على شكل حرف واي، وكل ما في الأمر أن المكعبات مطبوعة بطابعة رباعية الأبعاد (طول وعرض وارتفاع وزمن)، أي إن هذه المكعبات يمكنها تغيير شكلها التركيبي وفقًا للوظيفة التي تؤديها، ومن ثم أمكن اختراع إنسان آلي يؤدي وظائف متعددة، ولا يتجاوز ارتفاعه 3 بوصات، وطائرة بدون طيار، ومركبات بدون سائق لا تتجاوز 2 بوصة، وهو آخر ما توصل إليه علم السيبرنتكس وأعطى البشرية آمالًا لتصنيع آلة ذكية تتعرف على البديهيات والأنماط، وتحل مشكلات مزمنة ارتبطت بتطور الآلات الذكية، ولكنها لم تحل مشكلة الحجم الهائل من تناقضات القيم الناتج عن تحولات الدولة القومية والبشر في آن واحد من عصر التأريخ المعلوماتي إلى عصر التأريخ المفرط، وتزامن نوعي القيم في آن واحد، واتساع الغلاف المعلوماتي الذي أصبحنا نعيش فيه، وزيادة محاولات الاحتكاك المعلوماتي[2]، والاستماتة السياسية[3]، فالدولة عبر الزمن تنتقل من كونها ضامنًا لمبدأ عدم التدخل (دعه يعمل دعه يمر) إلى نظام رفاهية ضامن للمواطن، وترعاه رعاية كاملة: الدولة هنا هي الجامع، والمنتج، والمستخدم، والمتحكم في المعلومات. وعبر الزمن أصبحت منظمًا للمعلومات وظهر وكلاء لها عديدون. وعلى المدى البعيد تتحول الدولة إلى مجتمع معرفة. وعلاقة الدولة في هذه المسيرة من التحول علاقة تأثير وتأثر، فهي علاقة مركبة، وكل منهما محتاج للآخر.
أيضًا الحرب السيبرانية هي حرب بين أسلحة تتشابه، وذاتية التفاعل، وقادرة على تحليل كميات ضخمة من المعلومات، ولذا فإنها تحتاج إلى تطوير سبل القيادة والسيطرة والاتصالات لتعمل بشكل أسرع وبصورة أكثر اندماجًا مما يؤدي لاستخدام أساليب جديدة أكثر تعقيدًا في العمليات الميدانية؛ فالحرب السيبرانية هي حرب معلومات جديدة تنتمي لحروب الجيل الخامس وللنزاعات غير المتكافئة ولعصر التأريخ المفرط، وتتولاها الآلات الذكية، ومكانها في الإنفوسفير بالدرجة الأولى، لأن ما يحدث في ميدان القتال ليس إلا انعكاسًا لما هو موجود في الإنفوسفير. لذا تلعب الروبوتات دورًا حيويًّا في هذه الحرب، وتلعب جميع مرافق الدولة دورًا رئيسيًّا فيها بوصفها مرافق تُدار بتكنولوجيا المعلومات، ولذا يمكن للعدو -بغض النظر عن طبيعته- أن يلعب فيها دورًا ناعمًا بعيدًا عن استخدام الأسلحة الصلبة للقتال، مثل تحكمه في شبكة المواصلات لإحداث اختنافات مرورية في مناطق معينة، أو إغراق بعض المناطق بالمياه أو مياه الصرف الصحي لإرباك الدولة في علاج هذه المواقف، أو التحكم في النظام المعلوماتي للدولة لإعطاء توجيهات متضاربة ينتج عنها قتال بنيران صديقة، وهي ظاهرة شهدناها ولم ندرك أبعادها في البداية، وهي مؤهلة للانتشار في المستقبل رغم كل التقدم العلمي.
أيضًا في الحروب السيبرانية تكون كفاءة قوة النيران للأسلحة المستخدمة غير مسبوقة بكل المقاييس نظرًا لسرعة إطلاق النيران وكثافتها ودقتها في آن واحد، وبالتالي من المتوقع أن تتزايد أعداد الضحايا زيادة كبرى؛ فمن تتوافر لديه معلومات دقيقة أكثر عن العدو، ولديه نظام معلوماتي أكفأ وأسرع، وأكثر تطويرًا في نظم القيادة والسيطرة والاتصالات، وأسرع استنباطًا لاستراتيجية العدو؛ هو الأقرب للنصر. كذلك يدخل في عناصر القوة طبيعة الدولة ودرجة تطورها نحو مجتمع المعرفة لتحقيق النصر، فالدولة الداعمة لتكنولوجيا المعلومات، والأكثر قدرة على تصميم بيئات متنوعة داعمة لأخلاقيات تكنولوجيا المعلومات ومتطلباتها، من المؤكد هي الدول الأكثر قربًا للنصر في أي حرب سيبرانية متوقعة.
هذه الأبعاد لأخلاقيات الحرب السيبرانية هي أبعاد أساسية نابعة من طبيعة القوة السيبرانية ومحدداتها، ولا بد من التعرض لها لتقنين أخلاقيات الحرب السيبرانية على نحو ما تم مع تقنين أخلاقيات الحرب الذرية بعد إلقاء قنبلتي هيروشيما ونجازاكي في الحرب العالمية الثانية، وعلى غرار ما تم عقب استغلال الحرب البيولوجية بعد استخدامها في الحرب العالمية الأولى.
ويترتب على ذلك أن أهم مجالات أخلاقيات الحرب السيبرانية كأداة أو سلاح عسكري، هي:
أ- الهوية: طوال زمن التأريخ أسست الدولة هويتها من خلال التوازن بين الدولة والأمة باستخدام أدوات قانونية مثل المواطنة والخطاب السياسي عن المكان (أرض الأجداد) والزمان (الاحتفالات والمناسبات القومية ابتكار الخدمة العسكرية الإلزامية وقت الثورة الفرنسية وانتشارها بعد ذلك). وكان التوازن يقوم على حق الدولة في إرسال مواطنيها للدفاع عنها وقت الأزمات وحتى الآن.
ب- التلاحم: تنطوي المعادلة بين الدولة والأمة على مشكلة أخرى بعد المشكلة الأولى، مفادها: ما هي الدولة؟ والمشكلة الجديدة هي من هو المواطن الخاضع لها؟، والنظام السياسي الجديد متعدد الوكلاء مختلف عن ذلك لأنه يفك التلازم بين هويته السياسية من ناحية، وتلاحمه من ناحية أخرى.
كذلك، فالفضاء الاجتماعي والفضاء السياسي يحددان بنفس المعيار، فكلاهما بالغ الأهمية. وفي الحالتين هناك احتياج للمعلومات للتعرف على درجات الحرية المعقدة.
ج- الشرعية: تتحقق الشرعية عندما يوافق الوكلاء المتعددون في الفضاء الاجتماعي على الاتفاق على طريقة تسوية الخلافات والصراعات فيما بينهم. هنا يكتسب الفضاء الاجتماعي البعد السياسي في ظل عقبتين؛ الأولى: اعتبار السياسة وسيلة لمنع الحرب، وهذا تعريف غير مرضٍ لأن الخلافات يمكن ألا تصل للحرب، ولأن السياسة مطلوبة لتحقيق التوافق في المجتمع ولتعزيز التعاون والتنسيق بين درجات الحرية دون إكراه أو عنف. الثانية: هي سوء الفهم للفضاء السياسي بوصفه كل ما ينظمه القانون، لأننا نربط الفضاء السياسي بالقوانين والإجراءات التي تنظمه. لكن القانون والإجراءات ليست عناصر مكونة له، وليست كلها سياسية في طبيعتها، فالفضاء السياسي لا يتأسس ببساطة عن طريق القوانين التي تنظمه، لكنه أيضًا ليس نتيجة تقييد الفضاء الاجتماعي بالقوانين، فالفضاء السياسي هو منطقة من الفضاء الاجتماعي تشكلت نتيجة الاتفاق على تسوية الاختلافات. وهنا نتعرض لشفافية النظام التي تسمح بعقاب المخالف.
د- الشفافية: الشفافية تعني أمرين؛ الأول، هو تحول الدولة من صندوق أسود لتصبح “صندوقًا أبيض”، أي إن وكلاء آخرين (المواطنين) يمكنهم رؤية المدخلات والمخرجات، ويراقبون النظام السياسي كيف يعمل، وهو مبدأ انتشر في القرن التاسع عشر لكنه أصبح أكثر شفافية في ظل الحكومة المنفتحة بفضل إمكانيات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الحديثة (واعتمادها على الشبكات الاجتماعية).
هنا نلاحظ أن التعميم غير مطلوب؛ فرغم أن الشفافية مطلوبة على النحو السابق؛ إلا أن بعض الحالات تتطلب قدرًا أكبر من التعتيم المعلوماتي، مثل التجهيل المطلوب لإقامة الحداثة بمختلف درجاتها، فهدف التعتيم هنا منح العدالة لمن يستحق وليس للجميع، وبالتالي إذا كانت السياسات العامة تتطلب الشفافية فالعدالة تتطلب العمومية والتجريد. ولذا فإن إجراءات العدالة تتطلب قدرًا من التعتيم.
الخلاصة
الخلاصة في هذا المجال أن الحرب السيبرانية بمعناها الدقيق اختلطت بالمفهوم الإلكتروني، ولكل منهما مجاله وأساليبه وأهدافه. وجاء الخلط نتيجة عدة عوامل، منها الترجمة الخاطئة لمصطلحات جديدة على اللغة العربية، أو خلط مقصود في المفاهيم المستخدمة من جانب بعض الكتاب المرموقين في العلم مثل “روزيناو” أو “هينتجتون” أو “إنجلهاردت” لتحقيق أهداف سياسية مما يتطلب ضرورة توفير نظرة نقدية لدى الباحث العربي لا يمكن توافرها إلا في ظل ثقافة واسعة عميقة، وهي مسألة يصعب توافرها في جيل الألفية الأكثر إحاطة بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات والأكثر استخدامًا للمعلومات الضخمة واتخاذ القرارات وتنفيذها في ظل بيئة تكنولوجية ذكية تتسم بدرجة عالية من التفاعل الدائم غير المنقطع والتواصل المتصل، ومن المؤكد أنها ستشهد دورًا للإنسان المعزز، سواء كان cyborg أو Inforg، وهذه محددات للحرب السيبرانية ووصفها، ولكننا لم نرَ حتى الآن هجمات سيبرانية بهذا المعنى العلمي للكلمة، اللهم في نماذج محددة منها حروب الطائرات الدرون التي خلطت الأمور في الشرق الأوسط. ونظرًا لخطورة هذه الحروب وقدرتها التدميرية غير المسبوقة وخلطها بين الإنسان والآلة والقدرة على إدارة هذه الحرب عن بعد وعبر الحدود مع عدم رصدها في كل الأحوال، فلا يمكن استبعاد تجربة بعض هذه الأسلحة في المدى القصير (السنوات العشر القادمة كحد أقصى) وأفضل موقع يمكن أن يشهد هذه التجارب -إن تقررت- هو الشرق الأوسط الذي سبق أن شهد انتقال الإرهاب من وسيلة إجرامية إلى كونه وسيلة سياسية في يد دول كبرى وعظمى لتحقيق مزيد من الأهداف السياسية.
كذلك حققت مناهج العمل السياسي إنجازات
خطيرة، خاصة منهجي الفوضى والنظام ودمجهما بأسرع وسيلة لتغيير القيم والأفكار
والمعلومات، وهي الشبكات بصفة عامة، وشبكات مواقع التواصل الاجتماعي خاصة، نظرًا لشعبيتها
والتحسينات التي تطرأ عليها باستمرار، سواء كان الاستعمال لأهداف خبيثة أو لأهداف
طيبة، وهو أمر نتوقع التوسع فيه في الحروب السيبرانية لأهميته في التمهيد لهذه
الحروب أو لرصد أهداف محددة مطلوب القضاء عليها في هذه الحرب بصفة مؤكدة.
المصادر:
[1] انظر: عزمي خليفة، “الحرب السيبرانية: الحقيقة والخيال”، مقال تحليلي، المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، 28/8/2019. متاح على الرابط التالي:
[2] مفهوم يشير إلى وجود قوى تعارض تدفق المعلومات في منطقة ما من الإنفوسفير ويساوي الجهد المطلوب من وكيل المعلومات للحصول على هذه المعلومات التي يعارضها البعض.
[3] مفهوم يقصد به قيام الدولة بالتخلص من بعض الإجراءات والعمليات السياسية التي كانت تقوم بها قبل الثورة العلمية من أجل التكيف مع عصر المعلومات والتأريخ المفرط بهدف تطويرالمجتمع والدولة إلى مجتمع معرفة.