يحلّ الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” ضيفًا على المملكة العربية السعودية في زيارة مقرر لها غدًا الاثنين 14 أكتوبر الجاري. أهمية الزيارة تأتي ضمنًا وفق قواعد وتحولات جديدة يشهدها النظام العالمي وإقليم الشرق الأوسط. زيارة “بوتين” من المحتمل أن تعزز الشراكة بين البلدين، وتضعها في مستوى جديد. ومن المتوقع أن تسهم في تنسيق الكثير من الأمور في ظل التطورات الخاصة بالإقليم بشكل عام، وفي منطقة الخليج بشكل خاص. كما ستهدف إلى تعزيز العلاقات بشأن ملفات مهمة، مثل الطاقة والنفط والدفاع، مما يعكس استراتيجية روسية لبناء النفوذ في المنطقة، في الوقت الذي تتبع فيه الولايات المتحدة استراتيجية أكثر حذرًا في الشرق الأوسط.
ورغم ما يبدو من نقاط تباين بين الجانبين؛ إلا أن ما يجمع الرياض وموسكو هو أكثر بكثير من هذا التباين بدليل إرادتهما المضيّ في مسار العلاقة بتعزيزها استراتيجيًّا. السعودية تُدرك أن الشراكة مع الروس ضرورة ملحة، وحضورها هو عامل توازن مهم.
وكانت الزيارة التي أجراها الملك “سلمان بن عبدالعزيز” إلى روسيا مطلع أكتوبر 2017، قد دشنت مرحلة جديدة في علاقات البلدين، برزت نتائجها خلال الفترة الماضية من خلال توسيع وتعزيز التعاون في مجالات عدة، بما فيها الملفات الاقتصادية. ولعب البلدان دورًا رئيسيًّا في صياغة اتفاقية “أوبك بلس” التي يعود لها الفضل في ضبط التقلبات الحادة في أسواق النفط العالمية.
ومن المتوقع خلال الزيارة أن يتم التطرق للحديث عن مدى الالتزام الأمريكي بحماية التدفق الحر للطاقة في المنطقة، خاصة بعد هجمات 14 سبتمبر الماضي على منشآت النفط السعودية. ومن المحتمل أن يقوم “بوتين” بإعادة الضغط على السعوديين لشراء أنظمة الدفاع الجوي الروسية S-400. وسيستخدم الرئيس الروسي هجمات 14 سبتمبر وما نتج عنها من هجوم على منشآت أرامكو النفطية، والصراع اليمني الممتد، لتعزيز مفهوم موسكو للأمن الجماعي في منطقة الخليج العربي.
ويهدف هذا التقرير إلى بيان أهمية الزيارة للطرفين، وأوجه التعاون المحتملة بينهما، إضافةً للتطرق للملفات الساخنة التي تهم كلًّا منهما، وتحديدًا فيما يتعلق بأمن الطاقة والدفاع الصاروخي والوضع في اليمن، ثم التطرق للحديث عن المبادرة الروسية لأمن الخليج.
أهمية الزيارة للطرفين
باتت المملكة العربية السعودية على قناعة بأن مصالحها ترتبط بالانفتاح على جميع القوى الدولية، وليس الغرب وحده، لتحقيق هذه المصالح وتعزيز قدراتها في مواجهة عالم متغير. المملكة تواجه تحديات إقليمية كبرى تتعلق بأمنها وسلامة مواطنيها وأراضيها، ولا يمكن رهنها بعلاقات المملكة مع الغرب. لذا كان مهمًّا جدًّا انفتاح المملكة على قوى أخرى لدعم القدرات السعودية لمواجهة التحديات الإقليمية.
كما أن إقامة علاقات جيدة وقوية مع دولة كبرى مثل روسيا، التي تلعب اليوم دورًا مؤثرًا في أحداث المنطقة، وتمتلك علاقات مؤثرة مع إيران؛ تمنح السياسة السعودية مرونة أكبر في تحقيق التوازنات التي تحفظ مصالحها وتدعم مواقفها، وتخفف الضغط الذي يمكن أن تمارسه بعض القوى السياسية في الدول الغربية على حساب المصالح السعودية.
على الجانب الآخر، تعمل روسيا على جذب الاستثمارات السعودية في مشروعات الطاقة والنفط والغاز، ومجالات أخرى، حيث تبلغ قيمة الاستثمارات السعودية حاليًّا حوالي 2.7 مليار دولار، بحسب مدير الصندوق الروسي للاستثمارات “كيريل دميتريف” الذي أكد أنها استثمارات مهمة للمشروعات القومية في روسيا.
التعاون الثنائي
يعتبر التنسيق في سوق النفط من أبرز ملفات العلاقات الروسية-السعودية التي ستركز عليها أجندة الزيارة المرتقبة للرئيس الروسي إلى الرياض. إذ تتصدر السعودية وروسيا -بعد الولايات المتحدة- قائمة أكبر المنتجين النفطيين، حيث تحتل السعودية المركز الأول بين المصدرين بكمية 8.3 ملايين برميل يوميًّا، تليها روسيا، ويبلغ إجمالي إنتاج روسيا والسعودية معًا منذ عام 2014 بين 9 إلى 14 مليون برميل يوميًّا. كما اتفقت روسيا والمملكة على تخفيض الإنتاج في إطار “أوبك بلس”.
وبالنسبة للسعودية، يُمثّل التنسيق مع روسيا وغيرها من الدول المنتجة من خارج منظمة الأوبك ضرورة مُلحة، خاصة في المرحلة الراهنة التي يخضع فيها سوق النفط العالمي للكثير من التغيرات المتسارعة.
وعلى هامش أسبوع الطاقة الروسي الذي انطلقت فعالياته في العاصمة الروسية موسكو في الثاني من أكتوبر الجاري، صرّح وزير الطاقة الروسي “ألكسندر نوفاك” بأنه سيتم توقيع 30 اتفاقية وصفقة ومذكرة تفاهم بين بلاده والسعودية خلال الزيارة. كما أعلن أن التعاون الروسي السعودي لن يكون في مجال الطاقة فحسب؛ بل في مجالات التكنولوجيا والثقافة والاقتصاد والاستثمار، لافتًا إلى تنشيط التعاون في الآونة الأخيرة بين الشركات السعودية والروسية.
وقبل بدء الزيارة أعلن صندوق الثروة السيادي الروسي في الثامن من أكتوبر عن افتتاح أول مكتب خارجي للصندوق في المملكة، الأمر الذي سيعزز التعاون الثنائي في المجالات الاقتصادية وغيرها. ويُعد صندوق الثروة السيادي الروسي هو أول مؤسسة استثمارية روسية تفتتح مكتبًا لها في المملكة. كما قام الطرفان بتمويل واعتماد أكثر من 25 مشروعًا مشتركًا باستثمارات إجمالية تزيد على 2.5 مليار دولار في مختلف القطاعات، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي والطب والبنية التحتية.
بالإضافة إلى ذلك، تُولِي المملكة اهتمامًا بجذب السياحة الروسية، خاصة بعد سماحها للأجانب من 49 دولة -منها روسيا- بالحصول على تأشيرات سياحية في مطارات المملكة أو عبر نظام إلكتروني. وتأمل المملكة في أن يساعد نظام التأشيرات الجديد في جذب السياح الروس. وفي الإطار ذاته، أعلنت الإدارة العامة للسياحة والتراث الوطني في السعودية أن سلطات المملكة ستدفع شركات الطيران المحلية لترتيب رحلات جوية مباشرة مع روسيا، وأن اتجاه هذه الرحلات سيتم تحديده حسب تفضيلات السياح الروس.
ملفات ساخنة على جدول الزيارة
تأتي هذه القمة في توقيت شديد الأهمية، على خلفية تسارع وتيرة عدد من الملفات المهمة في الإقليم. فمن ناحية، تأتي القمة بعد ست سنوات من الجهد المتواصل بين الجانبين لتعزيز العلاقات الثنائية. وقد اكتسب هذا الجهد زخمًا في عام 2013 في عهد الملك “عبدالله”، كرد فعل من الجانبين على المحادثات السرية التي كانت تجري بين واشنطن وطهران للتوصل إلى اتفاق بشأن البرنامج النووي الإيراني. وتم تعزيز العلاقات بين موسكو والرياض عندما أعلن الرئيس الأمريكي السابق “أوباما” نيته عدم الرد عسكريًا عندما استخدم النظام السوري الأسلحة الكيميائية. ومع وصول الملك “سلمان” لسدة الحكم في السعودية، كان هناك عدم رضى سعودي نتيجة دعوات الرئيس الأمريكي الحالي “دونالد ترامب” لسحب الجنود الأمريكيين من سوريا، وإعلانه عن استعداده للقاء الرئيس الإيراني “روحاني” دون شروط مسبقة.
من ناحية أخرى، دائمًا ما كانت الولايات المتحدة الأمريكية تتعهد بحماية الملكيات الخليجية الغنية بالنفط. لكن بعد هجمات 14 سبتمبر الماضي على منشآت النفط السعودية عندما استهدفت نحو 17 طائرة مسيرة وصاروخًا المنشآت النفطية الأكثر أهمية في المملكة العربية السعودية، وأوقفت مؤقتًا 5٪ من إمدادات النفط في العالم؛ بدا أن هذا التعهد يواجه أخطر اختبار له منذ حرب الخليج الأولى. لقد شكل هذا الهجوم نقطة تحول فارقة، ووضع الولايات المتحدة كقوة عظمى تحمي التدفق الحر للطاقة أمام تحدٍّ بالغ الصعوبة والتعقيد، ما حدا بدول الخليج إلى التشكيك في قيمة الالتزام الأمني الأمريكي وجدواه. وربما هذا كان نقطة التحول في البحث عن بدائل أخرى وربما حلفاء آخرين.
لقد ارتبطت دول الخليج العربي بعلاقة تحالف وثيقة مع الولايات المتحدة. ولعقود عديدة اعتمدت هذه الملكيات على وعود أمريكية بالحماية من أي عدوان. وفي 20 يونيو 2019، وبعدما أسقطت إيران طائرة استطلاع أمريكية بدون طيار، لم تحرك الولايات المتحدة ساكنًا.
كل هذه الأمور دفعت شركاء الولايات المتحدة في المنطقة إلى مراجعة رهاناتهم على الولايات المتحدة، والاقتراب أكثر من موسكو. وربما هذا ما دفع الرئيس “بوتين” بعد لقائه الرئيسين “روحاني” و”أردوغان” في أنقرة في 16 سبتمبر، إلى التأكيد على أن روسيا مستعدة لمساعدة المملكة العربية السعودية. ومن المرتقب أن يطلب “بوتين” من المملكة شراء نظام الدفاع الجوي الروسي S-400.
ومن المتوقع أن تحظى “المبادرة الروسية لأمن الخليج”، التي طرحتها روسيا في يوليو الماضي، بمساحة مهمة ضمن أعمال القمة، والتي وصفها بعض المسئولين الروس بأنها أقرب إلى مفهوم الأمن الإقليمي لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، خاصة من حيث وجود نظام لمراقبة الانتهاكات الأمنية في المنطقة.