بدأت الأزمة الإيرانية منذ عدة شهور، ومرت بالعديد من المراحل والتطورات، بعضها تتعالى فيه نبرة التصعيد، وأخرى تهدأ الأصوات وتظهر ملامح للانفراجة فيها . وخلال تلك المراحل تعددت الأطراف المرتبطة بالأزمة والمتأثرة بتداعياتها، خاصة وأنها تحدث في منطقة استراتيجية ترتبط فيها مصالح أغلب الدول، وتؤثر في سوق النفط العالمية . ولم يكن هذا التعدد في الأطراف هو السمة الوحيدة المميزة للأزمة الإيرانية، لكن تشابك وتداخل العديد من الأبعاد فيها يزيد من أهميتها، فهي ذات أبعاد استراتيجية وسياسية واقتصادية، ويمكن أن تؤدي إلى إحداث تغير واضح في معادلة الأمن في الخليج .
من هذا المنطلق يقدم « المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية » هذا الإصدار في محاولة لتحليل وتفسير الوضع الراهن في تطور الأزمة، ويقدم استشرافًا لمساراتها القادمة وللتداعيات المحتملة لتطوراتها . حيث تخلص الأوراق المقدمة إلى ما يلي :
- أن الضغوط الاقتصادية القصوى التي تواجهها إيران في هذه الأزمة ليست كافية لإجبارها على الاستجابة للمطالب الأمريكية، إذ أشارت تقارير متعددة لدوائر بحثية محايدة إلى أن الاحتياطي النقدي لإيران يمكن ان يغطي الاحتياجات الأساسية والمعيشية لأكثر من عام، وهي الفترة التي تراهن عليها إيران للمواجهة مع الإدارة الأمريكية الحالية .
- أن هناك قلقًا خليجيًّا من طبيعة الأزمة ومساراتها؛ الأمر الذي يرجح أن تصر الدول الخليجية على أن تكون طرفًا في أية مفاوضات تجري بين أطراف الأزمة، وألا يكون ملف الاتفاق النووي هو الملف الوحيد وأن يقترن ذلك بنفس الأهمية مع ملفي التدخل في الشئون الداخلية لدول المنطقة والبرنامج الصاروخي الإيراني، ونشاط الأذرع الإيرانية التي تهدد أمن دول الخليج .
- أن هناك حدودًا واضحة في تطبيق الردع النشط، لكنه يظل الآلية المعتمدة في ظل تصاعد التوتر بين واشنطن وطهران، إذ يحاول كل منهما كسب الوقت للاستفادة منها قدر الامكان . فإذا كانت إيران ترى أن الوقت لصالحها في إطار وضع شروطها على طاولة التسوية، فإن الولايات المتحدة تستغلها كفرصة للاختبار والاستعداد لمواجهة محتملة . وأخيرًا يمكن القول إن إيران قد تكسب جولات من المواجهة المحدودة ضمن اختبارات الردع المتبادل، لكن من المؤكد أنها لا تريد خوض حرب مفتوحة لن تكون نتيجتها لصالحها، وكذلك الولايات المتحدة التي لا ترغب في المواجهة لكنها تهدف إلى إجبار إيران على العودة للتفاوض .
- أن الضغوط التي تعرضت لها إيران في الفترة الأخيرة ساهمت في فتح مجالات تعاون لها مع تركيا، استثمرته الأخيرة بصورة كبيرة بما أتاح نوعًا من التحالف بين كلا البلدين على مستوى المنطقة، يرجح أن يتفاعل ويتصاعد بصورة أكبر خلال الفترة القادمة .
- سوف تتواصل الأنشطة الاستخباراتية المتبادلة بين أطراف الأزمة النووية الإيرانية، ويتزايد دورها في ظل عدم رغبة الأطراف في الذهاب للحل العسكري، وهذا يزيد من الحرب على المستوى الاستخباراتي والسيبراني والتضليل الإعلامي المتزايد .
- أن ممارسة طرفي الأزمة استراتيجية الضغوط القصوى على الآخَر وحلفائه لإرغامه على قبول التفاوض وفق شروطه، وتعدد القوى الدولية والإقليمية للتوسط بين إيران والولايات المتحدة؛ لم تسفر عن نتائج واضحة حتى الآن، فثمة معوقات أمريكية وإيرانية تقوض من فرصه في الوقت الراهن، لا سيما مع وضعهما شروطًا مسبقة للجلوس على طاولة المفاوضات يرفضها الطرف الآخر، بجانب أنهما في تلك المرحلة يجمعان كافة أوراق الضغط التي سيتم استخدامها إذا بدأت مرحلة التفاوض .
- أن التركيز الأمريكي والإسرائيلي على الداخل الإيراني وما يحويه المجتمع الإيراني من مظاهر للقلق وتصاعد للمعارضة ضد النظام، لم يسفر عن ظهور خطر وجودي يُهدد الدولة الإيرانية حتى الآن، أو ينذر بمزيد من التداعيات السلبية لذلك، وهو ما يستثمره المتشددون الإيرانيون، فضلًا عن استحكام القبضة الحديدية في مواجهة كافة مظاهر المعارضة . ولا شك أن عدم نجاح الرئيس الإيراني ووزير خارجيته في تحقيق إنجاز في التعامل مع الأزمة، ربما يزيد من ضعف الجناح المعتدل، وينعكس سلبًا على حضوره في الاستحقاقات الانتخابية القادمة .
- أن الموقف الأوروبي مرشح لزيادة جهوده لجذب إيران للتفاوض، وإن كان يبدو أن هناك اتجاهًا لطرح صيغة جديدة لاتفاق نووي جديد يمكن أن يجمع طرفي الأزمة، وذلك مرتهن بما يُقدَّم من حوافز لتحقيق ذلك .
- أن الموقف الروسي سوف يزداد تفاعله في تطورات الأزمة، وسوف يركز على مشروع الأمن الجماعي في المنطقة، ومساندة عملية التهدئة وإزالة الاحتقان، بما يسمح بدور لروسيا أكثر حضورًا، ليس فقط في أبعاد الأزمة ولكن في الفضاء الجيوسياسي في منطقة الخليج والمنطقة العربية بصفة عامة .
- أن دور وكلاء إيران تزداد أهميته في الأزمة الإيرانية بما يمارسونه من تأثير واضح داخل الصراعات الإقليمية في المنطقة، وبما يمثلونه من تهديد لخصوم إيران في الأزمة، خاصة أن إيران تستثمر وجودهم كأدوات للتأثير في أية تطورات للأزمة . ففي العراق، يوجد تمركز إيراني، ومجالات الهيمنة الواضحة لإيران لا تظهر فقط في قوة وكيلها هناك « الحشد الشعبي » ، فهناك قوى أخرى تابعة لإيران . وفي اليمن، يوجد الحوثيون، ورغم ما يثار حول وجود حلول للأزمة اليمنية، فإن من الواضح أن هذا الحل سيظل متوقفًا على تطورات الأزمة الإيرانية، فأي حل للصراع في اليمن لن يتجاوز الحوثيين بعد أن اكتسبوا اعترافًا بوجودهم في اليمن . أما سوريا، فسوف تبقى مجالًا مفتوحًا للحضور والنفوذ الإيراني بصورة كبيرة، ليس فقط في إطار العداء أو المواجهة مع إسرائيل، لكن كنقطة ارتكاز للنفوذ والدور الإيراني في المشرق العربي وفي المنطقة بصورة عامة، على اعتبار أن هذا الحضور يمثل ظهيرًا مساندًا للحضور الإيراني في لبنان ( حزب الله ).