بالتزامن مع إعلان الاتحاد الأوروبي إطلاق العملية “إيريني” لمراقبة حظر تهريب الأسلحة إلى ليبيا، وفقًا لقرار مجلس الأمن، وبعد جدلٍ مُضنٍ دام أكثر من شهرين داخل أروقة الاتحاد عقب مؤتمر برلين؛ كشفت تقارير رسمية فرنسية روسية عن توقيف الفرقاطة العسكرية الفرنسية “بروفانس” التي تعمل ضمن عملية “حارس البحار” (عملية خاصة بمكافحة الإرهاب في البحر المتوسط) شحنة أسلحة تركية كانت في طريقها إلى حكومة الوفاق في طرابلس، ثم إجبارها على تغيير مسارها بعيدًا عن السواحل الليبية، لتكون بذلك أول عملية بحرية يتم تنفيذها بنجاح لتطبيق قرار الحظر عمليًّا.
اللافت -في هذا السياق- هو ما كشفت عنه تلك التقارير وعبّرت عنه بوضوح تحت اسم عمليات القرصنة الممنهجة التي تقوم بها السلطات التركية لخرق عمليات المراقبة في المتوسط، ومنها تغيير علم الدولة الذي ترفعه السفينة، حيث كانت السفينة ANA ترفع علم ألبانيا، وبعد رحلة سابقة إلى ليبيا بدأت في 19 مارس الجاري لإعادة الشحن مرة أخرى من ميناء إسطنبول تم تغيير اسمها إلى PRAY وحملت علم سيراليون. كما كشفت التقارير الأوروبية عن أن السفينة تعمدت إطفاء أجهزة الرادار بعد أربعة أيام من الإبحار بهدف التمويه وعدم رصد موقعها، لكن من المرجح أنه لم تكن هناك صعوبات في التعقب، لا سيما أنها كانت مرصودة منذ البداية.
دلالات مهمة
تحمل العملية “إيريني” عددًا من الدلالات، نعرضها فيما يلي:
1- سرعة الاستجابة: قيام الفرقاطة الفرنسية بالتعامل مع السفينة التركية هو استجابة سريعة لتنفيذ العملية من جانب قوى الاتحاد الأوروبي، الذي تمكن أخيرًا في اجتماع يوم الجمعة الماضي (27 مارس 2020)، من تجاوز آخر النقاط الخلافية بشأن الأبعاد الفنية واللوجستية الخاصة بإطلاق العملية “إيريني”. ومن المتصور أن هناك تحفزًا مسبقًا من جانب بعض القوى الأوروبية التي تعارض التوجهات التركية في ليبيا، لا سيما فرنسا التي يُعتقد أنها ترصد استخباريًّا التحركات التركية في المتوسط.
2- الإقرار بعدم مشروعية الاتفاقيات بين الوفاق وأنقرة: تعكس هذه العملية عدم إقرار القوى الدولية بما تم من اتفاقيات تحت مسمى “الدفاع المشترك” أو صفقات تسلح بين حكومة الوفاق في طرابلس وتركيا، بالنظر لكونها مخالفة صريحة ولاحقة لقرار مجلس الأمن بشأن حظر التسلح في ليبيا والذي يجري تجديده بشكل دوري، بل والتأكيد على أن ما يجري يندرج تحت بند “تهريب” الأسلحة بشكل مخالف.
3- المخالفة الأولى: تسجيل أول خرق لقرار حظر التسلح من جانب أنقرة يُعد مؤشرًا على انشقاق تركيا الدائم عن الإجماع الدولي، وهو أمر يُفقد تركيا تدريجيًّا المصداقية في العلاقات الدولية. وهذا المؤشر ينطبق على أكثر من حالة، ربما أبرزها مؤخرًا تراجع مستوى الثقة بينها وبين موسكو على خلفية الترتيبات المشتركة بشأن إدلب.
مؤشر توقيف سفينة الشحن التركية يُعد بداية مبشّرة للعملية “إيريني”، لكن يظل من المبكر الحكم على مدى نجاح العملية في ظل الكثير من التحديات، ومنها على سبيل المثال:
أ- التصدي لعمليات نقل تركيا مجاميعَ المرتزقة المقاتلين إلى ليبيا، والتي تتم بوسائل مختلفة برية وبحرية. وفي الأخير لا يشترط أن تقضي عليها نهائيًّا، لأنه من المرجح أن تلجأ تركيا إلى بدائل أخرى للتحايل، منها تجنيد مرتزقة من دول إفريقية من الجوار الليبي. لكن قد لا تواجه أنقرة تحديًا كبيرًا في هذه العملية، بالنظر لاعتبارات عديدة، منها -على سبيل المثال- أن شركات الطيران التي تقوم بنقل المرتزقة من إسطنبول إلى ليبيا هي شركات طيران مدنية، وهو ما يعني أن الأمر قد يستلزم فرض حظر جوي من جانب القوى الدولية في برلين، أو وضع خطة إجراءات للمراقبة الجوية ضمن العملية “إيريني” تتضمن تفتيش الطائرات المدنية مثل شركات “الأجنحة” الأكثر شهرة في هذا المجال، أو عمليات التتبع، حيث تقوم طائرات عسكرية تركية بنقلهم أولًا من سوريا إلى إسطنبول ثم نقلهم إلى ليبيا.
ب- تشكل تركيا رافدًا أساسيًّا لإمداد الوفاق بقدرات تسلح نوعية، مثل: الطائرات دون طيار، ومنظومات الدفاع الجوي، لكن من المؤكد أن هناك روافد أخرى للتسلح (أكثر من 30 مصدرًا – بحسب مجموعة الأسلحة الصغيرة) والتي يجب مكافحتها هي الأخرى، بطرق أخرى، لكن يظل أن السلاح التركي يشكل عامل التحدي في أي معركة، ومن شأنه تغيير موازين القوى، أو التأثير على أي معركة. وبغض النظر عن طبيعة الصراع الأهلي في ليبيا، ففي الأخير السلاح التركي هو سلاح هجومي بالدرجة الأولى. الأمر الآخر في السياق ذاته، هو أنه محفز للجيش الوطني على التسلح المضاد لاعتبارات تتعلق بالدفاع عن النفس والسيادة، وبالتالي يشكل التدخل التركي سببًا رئيسيًّا لزيادة التوتر والتصعيد في ليبيا.
ج- التشابكات الأمنية المعقدة في أوروبا؛ حيث جاءت العملية “إيريني” بعد اعتراض النمسا والمجر على تحويل العملية “صوفيا” لتتولى مهمة تطبيق مخرجات برلين الخاصة بحظر التسلح. ويُعتقد أن كلا العمليتين جاء بعيدًا عن أي دور لحلف “ناتو” بحكم عضوية تركيا فيه. لكن اللافت أن الفرقاطة الفرنسية كانت تعمل في إطار عملية تتعلق في السابق بالحلف، لكن تم توجيهها إلى المهمة الجديدة. هذه الفرضية أيضًا تضيف عنصرًا جديدًا للتحديات الراهنة، يتعلق بأدوار ومواقف القوى الأوروبية، والتي ستتوقف ربما على مدى القدرة على التنسيق المشترك، والموقف من الدور التركي في ليبيا.
د- العلاقة مع روسيا: الأمر الآخر، في سياق ما سبق أيضًا، هو أنه على الرغم من تراجع العلاقات الروسية الفرنسية، والروسية الأوروبية عمومًا، خاصة على المستوى الأمني؛ إلا أن ما تعكسه التقارير الفرنسية الروسية تحديدًا من تفاصيل تخص هذه العملية يلمح بشكل غير مباشر إلى دور روسي في الكشف عن المخطط التركي. إضافةً إلى أنه تجمع الطرفين مصلحة مشتركة هي دعم الجيش الوطني الليبي من جهة، والاعتراض على السياسات التركية في ليبيا من جهة أخرى. وهناك ملمح آخر، هو أنه على الرغم من مجادلة روسيا للقوى الأوروبية بشأن طرح مهمة جديدة في المتوسط دون إقرارها من مجلس الأمن، إلا أنها لم تعترض على ما قامت به تلك المهمة في أول عملياتها بل ربما تدعمه.
تداعيات مباشرة ترسم ملامح السيناريو القادم
لا شك أن نجاح العملية “إيريني” سيخصم من فاعلية الدور التركي في ليبيا بشكل نسبي، وربما تظهر انعكاساته في المدى المتوسط، بالنظر إلى استنزاف الجيش الليبي نسبة كبيرة من الدعم العسكري، واستهداف البنية العسكرية التركية في الغرب، ما قد يدفع حكومة الغرب إلى العودة للتمسك بقرار وقف إطلاق النار، على عكس توجهاتها خلال الأسبوعين الأخيرين، حيث قامت بشن هجمات على مواقع الجيش الليبي في محاور مختلفة، بما فيها مناطق تمركز ما قبل 4 أبريل 2019 مثل قاعدة “الواطية”، وبالتالي دفعت الجيش إلى شن هجمات مضادة، وصلت إلى حد تلويح قائد الجيش الليبي باستهداف مقار الوفاق في طرابلس في حال الاستمرار في الاستعانة بالدور التركي الذي يبدو أنه لم يقتصر على عمليات الدعم العسكري، وإنما التخطيط وإدارة العمليات العسكرية أيضًا ضد الجيش. وهو ما يُشكّل -في حد ذاته- دافعًا وطنيًّا لدى الجيش لعدم الامتثال لقرار وقف إطلاق النار بالنظر لوجود قوة أجنبية تحرك الفصائل المسلحة من الجانب الآخر على الأرض.
مجمل القول، إن التصدي لشحنة الأسلحة التركية ضمن أولى عمليات المهمة الأوروبية الجديدة “إيريني” يمثل خطوة أولى على طريق الحد من التدخلات الخارجية لدعم القوى المتصارعة في ليبيا بالأسلحة بالمخالفة للقرارات الدولية، وكذلك أول تطبيق مهم من مخرجات برلين، لكن يظل من المهم أن هناك حاجة لأدوار أخرى لتقويض الدور التركي في ليبيا من خلال قطع باقي الروافد الأخرى، حيث مواقع التواجد التركي في شمال إفريقيا أو استغلال جماعات المرتزقة هناك. بل يُعتقد أن هناك حاجةً لآلية مشتركة مماثلة لدول جوار ليبيا على غرار تلك العملية.