شكّل قرار البرلمان المغربي في الثاني والعشرين من يناير الماضي بالمصادقة على مشروعي قانون لترسيم الحدود البحرية المغربية، ودخولهما حيز التنفيذ في الثلاثين من مارس المنصرم؛ نقطة فاصلة في الصراع الجيوسياسي الإسباني المغربي، وهو الأمر الذي يكتسب صبغة استراتيجية وطنية، كون القرارين يكرسان السيادة المغربية على البحار المتاخمة، ويفرض واقعًا مستجدًّا لإقليم الصحراء.
جاء هذا القرار لكي يتدارك الفراغ التشريعي الذي يشوب المنظومة القانونية المغربية الخاصة بالمجال البحري، ويحمل العديد من الأبعاد والأهداف المختلفة والدلالات فيما يخص توقيت هذه المصادقة، الأمر الذي قد يضع المغرب أمام تحديات عديدة في تنفيذ القرار.
خطوات مغربية متتالية لتفادي الفراغ التشريعي
لم يكن تحرك المغرب بمستوياته التنفيذية والتشريعية حول ترسيم حدوده البحرية تجاه الساحل الصحراوي وليد اللحظة الراهنة؛ بل جاء في سياقٍ بدأ في عام 2003 على خلفية استحداث لجنة وطنية تقنية تختص بدراسة اتفاقية الأمم المتحدة الخاصة بقانون البحار والتي انتهت بالتصديق على تلك الاتفاقية في عام 2007. غير أن الخطوة المهمة والرئيسية في ذلك المسار جاءت في يناير عام 2013 عندما تم تشكيل لجنة وزارية على مستوى وزارة الخارجية للقيام بالدراسات التقنية الممهدة لإنجاز النصوص التشريعية، لتعلن الرباط اعتزامها ولأول مرة ترسيم الحدود البحرية في سواحل الصحراء، وإدراج المجالات البحرية قبالة تلك السواحل في المنظومة الوطنية القانونية، وذلك في السادس من يوليو لعام 2017.
وتُشكل خطوة مصادقة المجلس الحكومي على مشروعي القانونين في السادس من يوليو 2017، وإحالتهما إلى مجلس النواب في الشهر نفسه، النواة الحقيقية للأبعاد القانونية والتشريعية لهذا المسار. وعلى الرغم من تلك الفترة الممتدة لنحو عامين ونصف؛ إلا أن عملية التصديق على مشروعي القانونين جاءت بشكل سريع في ضوء اختصاص لجنة الخارجية والحدود والدفاع الوطني والمناطق المغربية المحتلة بمجلس المستشارين.
وقد عزز ذلك التوجهَ الخطابُ الملكي الرابع والأربعون بمناسبة ذكرى المسيرة الخضراء في نوفمبر 2019، والذي تضمن عددًا من الرسائل المهمة، منها حتمية استيعاب “الهوية المجالية” للمملكة، والعمل على بسط النفوذ والسيادة المغربية على كافة المجالات الاستراتيجية والحيوية بالتركيز على أن وسط البلاد ليس هو الرباط وإنما أغادير، وامتداد سيادة المغرب من طنجة إلى الكويرة.
واستكمالًا للدائرة التشريعية، فقد صوت البرلمان المغربي في الثالث والعشرين من يناير الماضي بالإجماع على مشروعي القانونين، ثم جاء تصديق العاهل المغربي عليهما في الثالث من أبريل ليضع بذلك المغرب تشريعًا مهمًّا في إطار المنظومة القانونية الوطنية.
دلالات التوقيت
يحمل توقيت قيام المغرب بهذه الخطوة المهمة بشأن المجال البحري، العديد من الدلالات، أهمها ما يلي:
1- جمود قضية الصحراء: يأتي القرار المغربي في ظل حالة الجمود التي تعيشها قضية الصحراء خلال السنوات الأخيرة، خاصة بعدما عجزت الجهود الأممية في تحريك المياه الراكدة في تلك المسألة، وذلك في ضوء فشل المائدتين المستديرتين اللتين انعقدتا في مدينة جنيف في سبتمبر 2018 ومارس 2019 في دفع القضية إلى الأمام.
2- استباق تأثيرات تحول النظام السياسي الجزائري: التحرك المغربي نحو ترسيم حدوده البحرية جاء ليتزامن مع متغيرات عدة، أهمها تغيير النظام الحاكم في الجزائر عقب حالة من الحراك الشعبي وقدوم نظام جديد، ومحاولة المغرب استباق أي مواقف جديدة لهذا النظام الجديد بشأن القضية الصحراوية بخطوات متسارعة تعزز من موقف المغرب.
3- تحولات التفاعلات المغربية-الأوروبية: قرار ترسيم الحدود البحرية يتزامن مع التحولات الجديدة في علاقة المغرب بالاتحاد الأوروبي والتي وصلت إلى مستوى العلاقات الاستراتيجية خلال عام 2019، بعد توقيع عدة اتفاقيات جديدة، يأتي على رأسها آلية “الشراكة الأوروبية-المغربية من أجل الازدهار”، والتي تم إقرارها على هامش الدورة 14 لمجلس الشراكة بين الطرفين، إلى جانب دخول اتفاق الصيد البحري بين المغرب والاتحاد الأوروبي حيز النفاذ في يوليو 2019، الأمر الذي شجع الرباط على ترسيم حدودها البحرية.
4- التحركات الإسبانية المضادة: جاءت الخطوة المغربية لتتماشى مع التحركات الإسبانية المختلفة الرامية إلى تمديد الجرف القاري لجزر الكناري، خاصة أن إسبانيا تقدمت بطلب إلى اللجنة المعنية بالأمم المتحدة في عام 2014، بهدف تمديد ذلك الجرف جنوبًا وغربًا لنحو 350 ميلًا، ما يعني امتلاك إسبانيا لحق الاستغلال الكامل لمنطقة الجرف القاري بينما يكون للدول الأخرى حق المرور فقط.
5- تفشي فيروس كورونا: تزامنت عملية ترسيم الحدود، والتي انتهت بمصادقة العاهل المغربي، مع تفشي جائحة كورونا وانشغال معظم دول العالم بالإجراءات الواجب اتخاذها في تقويض ذلك التفشي، خاصة أن إسبانيا تُعد من بين الدول الأكثر تأثرًا بالجائحة.
أهداف مغربية متباينة
التحرك المغربي لترسيم حدودها البحرية يأتي لتحقيق جملة من الأهداف، أبرزها ما يلي:
1- توسيع سلطة المملكة المغربية لتضمن كافة المجالات البحرية للأقاليم الصحراوية، والتحديد الدقيق للمجالات البحرية الواقعة تحت سيادة المملكة في الأقاليم الجنوبية ليصبح المجال البحري غربًا من طنجة إلى الكويرة، بعدما كان مقصورًا على طرفاية.
2- قطع الطريق أمام إسبانيا لتوسيع الجرف القاري غرب جزر الكناري، خاصة بعد الطلب الذي تقدمت به مدريد إلى لجنة حدود الجرف القاري لترسيم ذلك الجرف انطلاقًا من خصوصية جزر الكناري التي تعتبرها مدريد إقليمًا تحت سيادتها.
3- تعزيز الاقتصاد الوطني المغربي؛ فإلى جانب الاستفادة من الثروة السمكية المتواجدة في هذه المنطقة، فهي أيضًا تمتاز بالعديد من الثروات المعدنية وعلى رأسها الكميات الهائلة من التيليريوم والكوبالت الناتجة عن بركان الطروبيك tropic التي توجد على بعد 269 ميلًا من جزر الكناري. وتستخدم هذه الموارد في صناعة السيارات الكهربائية واللوائح الشمسية، الأمر الذي يجعل من المغرب مسرحًا للسباق المفتوح مع إسبانيا وهدفًا استراتيجيًّا لهما.
4- تعزيز معادلة الغاز والنفط بين دول غرب إفريقيا ودولة المغرب، خاصة بعد توقيع اتفاق مشروع إنشاء أنبوب غاز يمتد على طول 5660 كم بين نيجيريا والمغرب، مرورًا بكلٍّ من بينين، وتوغو، وغانا، وساحل العاج، وليبيريا، وسيراليون، وغينيا، وغينيا بيساو، وغامبيا، والسنغال، وموريتانيا، بما يعزز من فرص انضمام الرباط إلى المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا، خاصة أن السواحل الصحراوية المغربية شهدت خلال الفترة الأخيرة اكتشافات نفطية في المياه البحرية المقابلة لجزر الكناري على بعد حوالي 100 كلم عن السواحل الجنوبية للمغرب، والذي دفع إسبانيا لمنح ترخيص لشركة “ريبسول” لبدء أعمال التنقيب في سواحل الجزر.
5- يُعزز قرار ترسيم الحدود أيضًا من الرهانات المغربية بفتح خطوط بحرية مع العديد من الدول الإفريقية التي تستهدف منها إحداث طفرة في الأنشطة التجارية المختلفة، خاصة أن هناك توجهًا مغربيًّا نحو تنشيط العلاقات التجارية الأوروبية-الإفريقية عبر البوابة المغربية، خاصة مع قيام المغرب بإنشاء ميناء الداخلة الذي يُعتبر أحد المرتكزات اللوجستية الداعمة لذلك المسار.
حسابات العلاقات الثنائية المغربية الإسبانية
لقد وصفت إسبانيا القرار المغربي بترسيم حدودها البحرية بأنه “سياسة فرض أمر الواقع”، وذلك وفقًا لما صرحت به وزيرة الخارجية الإسبانية في الثاني والعشرين من فبراير الماضي. إلى جانب ذلك، أدى القرار إلى ارتفاع أصوات المعارضة الإسبانية، خاصة من جانب رئيس الحكومة المحلية بجزر الكناري “أنخيل فكتور توريس”. ووصفت الخطوة المغربية بأنها محاولة لفرض سيادة المغرب على مجالات حيوية قريبة من جزر الكناري التي تتبع السيادة الإسبانية. وقد تجلى الموقف الرسمي الإسباني من خلال تصريح وزيرة الخارجية والاتحاد الأوروبي والتعاون “أرانشا جونزاليز” التي أكدت أهمية احترام المغرب للفضاء البحري الإسباني ومقتضيات الاتفاقية الدولية للبحار.
لكن رغم ذلك، ما زالت هناك رغبة لدى إسبانيا في دفع التعاون الثنائي مع المغرب، وهو ما عكسته الزيارة التي قامت بها وزيرة الخارجية الإسبانية للرباط في أعقاب تصديق البرلمان على مشروعي القانون في الرابع والعشرين من يناير الماضي.
واستباقًا لأية أزمة محتملة مع الأطراف المعنية بتبعات قرار ترسيم الحدود، خاصة الدول المتشاطئة مع المغرب والتي تتمثل في موريتانيا جنوبًا وإسبانيا شمالًا، أبدت المغرب تعاونها وانفتاحها على النقاش مع تلك الأطراف وذلك وفقًا لما ذكره وزير الشئون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج “ناصر بوريطة” في الثاني والعشرين من يناير الماضي، قُبيل زيارة وزيرة الخارجية الإسبانية إلى الرباط. ولطالما أكدت المغرب حرصها على حقوقها القانونية في المجالات الحيوية وانفتاحها -في الوقت نفسه- على دول الجوار للحوار البناء للتوصل إلى توافقات شاملة ومنصفة.
وتأتي التحركات المغربية لاحتواء الموقف الإسباني، نتيجة تحسب المغرب من تداعيات سلبية بسبب تصاعد الخلاف مع إسبانيا، فأحد التداعيات المحتملة جراء التوجه المغربي الأخير يتجلى في افتقاد الرباط للدعم الإسباني في مواجهة جبهة البوليساريو. فمن المعروف أن إسبانيا باتت أقرب إلى تبني مواقف أكثر تفهمًا لرؤية المغرب فيما يتعلق بمستقبل قضية الصحراء. كذلك، فإن أحد التأثيرات الناجمة عن قرار ترسيم الحدود هو تراجع التفاعلات البينية بين الرباط ومدريد، وعلى إثرها ربما تتوقف عملية التفاوض حول صفقة بيع السفن العسكرية التي تعتزم المغرب شراءها من إسبانيا بقيمة 260 مليون يورو، وذلك لاستخدامها في مراقبة الحدود البحرية وعملية مراقبة الهجرة غير الشرعية في أعالي البحار.
وهكذا، يمكن القول إن هناك توجهًا عامًّا لدى المغرب ببسط سيادته على حدوده البحرية كاملة، غير أن هناك تحديات مختلفة تواجه ذلك التحرك، والتي تتمثل في مواقف الدول المتشاطئة مع المغرب خاصة إسبانيا، وهو الأمر الذي يتطلب التنسيق المشترك مع مدريد عبر المفاوضات انطلاقًا من حسن الجوار والمصير المشترك، علاوةً على تشابك المصالح الاقتصادية والجيوستراتيجية، خاصة أنه في حال توصلت الرباط ومدريد إلى اتفاق متوازن فيما يتعلق بالمجال المتلاصق بين مياه الأقاليم الجنوبية للمملكة وجزر الكناري فسيدفع ذلك الأمم المتحدة إلى قبول الطلب المغربي في تلك المسألة.