حتى هذه اللحظة، لا يوجد تشريع يُقنّن التجارب الطبية السريرية، أو ما يُعرف بالتجارب الإكلينيكية، في مصر. لكن مع اجتياح جائحة فيروس كورونا المستجد للعالم، وبدء الدول في إجراء التجارب السريرية للعلاجات المقترحة للفيروس؛ بدأت مصر هي الأخرى في إجراء تلك التجارب، وذلك بالاعتماد فقط على موافقة لجنة الأخلاقيات بوزارة البحث العلمي، وفي ظل غياب قانون التجارب السريرية الذي من شأنه حماية حقوق المتطوعين المشاركين في هذه التجارب، وذلك بسبب التأخّر في إدخال التعديلات اللازمة على هذا القانون، الذي كان قد أقرّه مجلس النواب في مايو 2018 ولم يُعتمد حتى الآن.
ما هي التجارب السريرية؟
يُمكن تعريف التجارب السريرية بأنها الدراسات الطبية التي تتم على متطوعين من البشر لتقييم سلامة وكفاءة أي تدخلات علاجية أو دوائية أو جراحية أو تشخيصية؛ بهدف التوصل إلى نتائج علمية وقائية أو تشخيصية أو علاجية للأمراض. وتُعد التجارب السريرية هي المرحلة الثالثة لتقييم أي تدخلات طبية بعد تجربتها معمليًا ثم على حيوانات التجارب. وتشترط هيئة الغذاء والدواء الأمريكية وجود ثلاث مراحل في التجارب السريرية قبل الموافقة على استخدام التدخل العلاجي، ومنحه الترخيص اللازم.
تُقيّم المرحلة الأولى من التجارب السريرية درجة أمان التدخل العلاجي، ويتم إجراء الاختبارات على مجموعة صغيرة من الأشخاص الذين يتمتعون بصحة جيدة؛ لمعرفة تأثيرات الدواء على البشر، بما في ذلك التأثيرات العلاجية، والجرعات الآمنة من الدواء. ونظرًا لأن تجارب المرحلة الأولى تُجرَى على أشخاص أصحاء، فلا يحصل المشاركون في الدراسة على فوائد طبية مباشرة، ولكن فائدتها على صحة الآخرين تكون كبيرة. ويحصل المشاركون في المرحلة الأولى من التجارب السريرية على تعويض مالي لقاء مشاركتهم فيها، ويعتمد مقدار التعويض على الوقت المطلوب تخصيصه للمشاركة في التجربة، وطبيعة التدخل العلاجي الذي يتم اختباره.
إذا أظهرت نتائج المرحلة الأولى سلامة التدخل العلاجي يتم البدء في تجارب المرحلة الثانية، والتي تتم على مجموعة أكبر من الأشخاص المصابين بالمرض المُستهدف بالتدخل العلاجي. وتساعد تجارب هذه المرحلة على تحديد ما إذا كان استخدام الدواء آمنًا على المرضى. كما أنها تقدم فكرة أولية عن مدى فعالية التدخل العلاجي.
في حال أظهرت نتائج اختبارات المرحلة الثانية أن التدخل العلاجي آمن وفعال، تبدأ اختبارات المرحلة الثالثة من التجارب السريرية. وخلال هذه المرحلة تُطبق التدخلات العلاجية على مجموعة أكبر من المرضى المصابين بالحالة المراد علاجها. وعادةً ما تجري مقارنة نتائج التدخل العلاجي في المرحلة الثالثة مع العلاج التقليدي، أو مع دواء وهمي أو ما يُعرف بـ”بلاسيبو”، أو كليهما.
تُشكّل التجارب الطبية السريرية التي تتم داخل الجامعات والمراكز والمعاهد البحثية -كجزء من رسائل الماجستير والدكتوراه- حوالي 97% من إجمالي التجارب السريرية التي تتم في مصر. وبسبب غياب التشريعات اللازمة لتقنين هذه التجارب، يُسمح للهيئات البحثية بإجراء التجارب بعد الحصول على موافقه لجان الأخلاقيات العلمية التابعة لها. أما بالنسبة لشركات الأدوية في مصر، فلا يوجد إطار واضح يُمكن تلك الشركات من إجراء الدراسات السريرية على المركبات الدوائية المُكتشفة حديثًا لبدء طرحها في السوق المصري، مع غياب الاستراتيجيات اللازمة للربط بين شركات الأدوية والجهات البحثية للاستفادة من التجارب السريرية.
استدعت تلك الفجوة بين البحث العلمي وصناعة الدواء؛ أن تسعى الدولة بشكل جاد لإقرار تشريع ينظّم التجارب السريرية، وخصوصًا لدورها المهم في تطوير الصناعات الدوائية الوطنية، وإمكانية البدء في تصنيع أدوية الأورام والأمصال واللقاحات بشكل محلي، وتقليل الاستيراد من الخارج. وبالفعل أعدت الحكومة مشروعًا لتقنين التجارب السريرية، واشترطت في مشروع القانون الجديد أن يتم الحصول على موافقة كتابية من المتطوعين المشاركين في التجربة قبل البدء فيها، كما أوضح المشروع كافة الحقوق والمسئوليات لكلٍّ من المتطوع والباحث لضمان الالتزام الكامل بالمعايير الأخلاقية خلال التجارب السريرية، وقدمت الحكومة هذا المشروع للبرلمان.
قانون التجارب السريرية في مصر
أقرّ مجلس النواب مشروع القانون المقدم من الحكومة في مايو 2018، ولكن الرئيس “عبدالفتاح السيسي” أعاد مشروع القانون إلى البرلمان مرة أخرى، بعد حالة الجدل الكبيرة التي أثارها التشريع، وإعلان أوساط علمية وطبية رفضها لمشروع القانون المقترح؛ وذلك لما انطوى عليه مشروع القانون من عرقلة للبحث العلمي. فتم انتقاد العديد من المواد بمشروع القانون، لا سيما المواد الخاصة بصلاحيات المجلس الأعلى لأخلاقيات البحوث الطبية (المسئول عن وضع السياسات العامة لإجراء البحوث الطبية ومتابعة تنفيذها)، وكذلك المواد الخاصة بالمسئوليات والعقوبات.
وفيما يلي أهم مواد القانون التي حظيت بالنقد:
1- المواد: 4، 5، 9، 11، 20، 22، التي اشترطت موافقة المجلس الأعلى لأخلاقيات البحوث الطبية، والهيئات القومية الرقابية، وجهاز المخابرات العامة، على بروتوكول البحث، وكذلك التفتيش عليه قبل إجرائه، وبعد استيفاء موافقة اللجنة المؤسسية في الجهة البحثية التي يجري فيها البحث. وقد رأى البعض أن هذا الشرط سيعطل إجراء التجارب السريرية في ظل الأعداد الكبيرة للبحوث سنويًّا، سواء الخاصة برسائل الماجستير أو الدكتوراه أو الأبحاث الحرة (حوالي 16000 بحث في العام الواحد).
2- المادة 8، والخاصة بأعضاء المجلس الأعلى للبحوث الطبية الإكلينيكية، حيث يتضمن تشكيل المجلس طبقًا للقانون أربعة ممثلين فقط يختارهم وزير التعليم العالي والبحث العلمي، من أصل 15 عضوًا في المجلس، على أن يتولى الأمانة العامة للمجلس رئيس الإدارة المركزية للبحوث الطبية بوزارة الصحة؛ مع العلم بأن عدد الأبحاث السريرية التي تُجريها وزارة الصحة لا تمثل إلا جزءًا ضئيلًا من إجمالي البحوث السريرية التي تُجرى سنويًا.
3- المادة 25، التي تنصّ على أن إرسال عينات بشرية إلى خارج جمهورية مصر العربية، سوف تترتب عليه عقوبات شديدة (السجن أو الغرامة) إلا في حالات الضرورة التي يصدر بها قرار بالموافقة من المجلس الأعلى بعد استطلاع رأي جهاز المخابرات العامة؛ الأمر الذي قد يصعب إجراء أي أبحاث مشتركة بين الجامعات والمراكز البحثية المصرية مع نظيراتها بالخارج، فضلًا عن أن إرسال العينات للخارج يُتيح فحصها باستخدام تقنيات وأجهزة متطورة غير متوفرة داخل مصر.
4- المواد من 28 وحتى 38، وهي المواد العقابية بمشروع القانون، التي لم تضع في اعتبارها ماهية الأبحاث العلمية، واعتبرت المخالفات متساوية في جميع أنواع التجارب السريرية بغض النظر عن طبيعة وتصميم البروتوكول البحثي؛ وهو ما يمكن أن يتسبب في ترهيب الباحثين وعزوفهم عن إجراء التجارب السريرية.
في ديسمبر 2018، تم تشكيل لجنة خاصة في البرلمان لتلقي كافة المقترحات بخصوص هذا القانون، وإعادة صياغة المواد محل الاعتراض؛ للوصول إلى أقصى درجة ممكنة من التوافق حول المواد الخلافية بين الجهات ذات الصلة بنطاق تطبيق مشروع القانون، ولكن اللجنة لم تنتهِ من تعديل مشروع القانون حتى الآن!
لماذا يجب إصدار القانون بشكل فوري؟
اليوم، نحن في حاجة ماسة لإصدار قانون التجارب السريرية، فهو السبيل الوحيد لخلق إطار تشريعي موحد قوي مدعوم بنظام رقابي فعال لإجراء هذه التجارب، ذلك أن جائحة كورونا المستجد أوضحت للعالم أجمع أن البحث العلمي هو الأساس من أجل حماية صحة الشعوب. ومُنذ أن اجتاح الفيروس العالم في ديسمبر الماضي، تسابقت المراكز البحثية الطبية في العالم لوضع بروتوكولات علاجية للفيروس. ووفقًا لموقع clinical trials التابع لمعاهد الصحة الوطنية الأمريكية، يَبلغ إجمالي عدد التجارب السريرية التي تم إجراؤها عالميًّا لتقييم تلك العلاجات –وحتى كتابة هذا المقال- حوالي 1254 تجربة، أُجري منها 25 تجربة سريرية في الجامعات والمراكز البحثية المصرية، من أصل 35 تجربة نُفذت في القارة الإفريقية؛ أي إن مصر لديها الإمكانيات والقدرات العلمية اللازمة للمشاركة في مجال التجارب السريرية العالمية، ولكن تنقصها التشريعات اللازمة لوضعها على خريطة التجارب السريرية الدولية، خاصة أن الدول التي تشارك في تلك التجارب السريرية العالمية يكون لها الحق في الحصول على الأدوية المعالجة بأسعار أقل من الدول التي لم تشارك بها.
