اعتاد ياسين أقطاي، مستشار الرئيس التركي أردوغان، إطلاق تصريحات حول مصر ومواقفها الرافضة للتدخلات التركية الاستعمارية في ليبيا وسوريا والعراق، وتصريحات أخرى حول تفاهمات ممكنة بين مصر وتركيا وليس تطبيعاً للعلاقات، والادعاء بحوارات غير مباشرة بين البلدين، وانتقادات لأمور داخلية مصرية، وكأنه مفوَّض بالحديث عن الشعب المصري ضد حكومته، وأخيراً تصريح حول الجيش المصري وعدم رغبة تركيا في وقوع حرب مع مصر.
كثير من المراقبين يرون في تصريحات “أقطاي” تعبيراً عما يدور في رأس «أردوغان»، فمنصبه كمستشار لا يتيح له وضع سياسات أو تحديد استراتيجيات الدولة التركية، بل فقط الترويج لها وفقاً لتعليمات رئيسه.
في كل تصريح ل”أقطاى” سواء كان في حوار متعدد القضايا أو موقف معين، ولمزيد من فهم دوافعه ومضمونه الباطن وما يرمى إليه، يجب ربط هذا التصريح بحالة تركيا ذاتها، وبحجم النجاح أو الإخفاق الذى تواجهه في بعض مغامراتها العسكرية، سواء في سوريا أو العراق أو ليبيا أو في شرق المتوسط واليونان وقبرص. حديثه الأخير عن إمكانية تفاهم مصري – تركي وعدم احتمالية أي مواجهة عسكرية بين البلدين لأنهما أشقاء، لا ينفصل عن زيادة الضغوط الأوروبية والأمريكية على أنقرة للحد من عمليات التصعيد العسكري التي مارستها طوال الشهر الماضي في المياه الإقليمية لكل من اليونان وقبرص، والتي أراد “أردوغان” من خلالها أن يُثبت مقولته بعدم قانونية أي اتفاقات وقّعتها اليونان لحدودها البحرية.
وهي الضغوط التي قادتها فرنسا وانضمت إليها الولايات المتحدة ممثلة في زيارة “بومبيو” وزير الخارجية الأمريكي إلى قبرص، وإعلانه رفع حظر بيع السلاح لقبرص بعد أكثر من خمسة عقود.
“أقطاي” لم يتحدث إيجابياً عن مصر في المطلق، وإنما بدافع من التغطية على الانصياع للضغوط الأوروبية والأمريكية والتي أدت إلى سحب سفينة البحث والتنقيب التركية، كمقدمة لحوار مع اليونان التي أصرت -وما زالت- على أن أي حوار مع أنقرة لن يكون تحت تهديد السلاح والعمليات العسكرية التركية غير المشروعة في المياه اليونانية، وكأن “أقطاي” يبحث عن مخرج للتراجع التركي عبر إثارة قضية العلاقة مع مصر واحتمال التوصل إلى تفاهمات غير محددة المعالم.
“أقطاي” نفسه ومسئولون آخرون تحدثوا في مواقف سابقة عن وجود حوارات مع خبراء مصريين غير محددين، وعن شروط يرونها ضرورية للحد من التوتر مع مصر، ولكن بدون أن تقدم أنقرة أي تنازلات عن مواقفها الثابتة حسب وصفهم، كعدم انتظار مصر أن تتخلى تركيا عمن تعتبرهم معارضين مصريين تحت حمايتها، أو تنتظر تنازل “أردوغان” عن مواقفه السلبية الخاصة بالنظام المصري، أو أن تقبل أنقرة دوراً مصرياً في ليبيا يتعارض مع استراتيجيتها الهادفة إلى التحكم في الموارد الليبية. ووصل الأمر ببعض المسئولين الأتراك إلى تشجيع مصر على وقف تعاونها مع اليونان، وأن تقبل بشرعية الاتفاق التركي مع “السراج” لترسيم الحدود البحرية، وأن تتخلى عن دعم الجيش الوطني الليبي والمطالبة بإنهاء عصر الميليشيات، وذلك مقابل أن تقوم أنقرة بتهدئة العناصر الإخوانية وليس وقف أنشطتهم العدائية ضد مصر وشعبها، وأن تمنح تركيا وكأنها الحاكم بأمره مساحة أكبر في مياه المتوسط لمصر وضمها لجرفها القاري، وأن تقبل مصر التعاون مع تركيا تحت شعار تعاون المسلمين ضد الغربيين المسيحيين.
لم تقف تصريحات المسئولين الأتراك ومن بينهم “أقطاي” عند هذا الحد، فكثيراً ما صوروا تحركات مصر بشأن ليبيا، لا سيما تحذيرات الرئيس السيسي بشأن ضرورة احترام وقف إطلاق النار وعدم تجاوز خطوط القتال التي تحددت في يونيو الماضي والدعوة إلى بدء مباحثات سلمية، باعتبارها نتيجة تحريض دول أخرى كفرنسا واليونان، حيث تدفعان إلى مواجهة عسكرية مصرية تركية، فضلاً عن اعتبار تحركات مصر على الأرض باعتبارها تنذر بخطر جسيم على مصر، وكأن ساسة أنقرة يدركون مصالح القاهرة أكثر من صناع القرار المصريين. وقد كانت تلك التصريحات التركية مفضوحة من حيث إنها عكست القلق التركي من المواقف المصرية الحاسمة في الشأن الليبي، ووضعت تركيا وحلفاؤها الليبيون تحت ضغط كبير لم يتوقعوه من قبل. وهي المواقف الحاسمة التي أسهمت في إقناع جميع الأطراف الليبية المحلية والدولية بأن تمدد تركيا مرتزقتها في ليبيا لن يمر مرور الكرام، وبدون عملية سلمية حقيقية وشاملة برعاية أممية سيخسر الجميع.
وكان طبيعياً وما زال أن ترى مصر في كل هذه التصريحات والتلميحات والدعوات غير المنطقية باعتبارها مواقف جوفاء لا تستحق الرد أو التعليق في حينه. الصمت والتجاهل هنا عكس إدراكاً مصرياً بأن وجود الرئيس “أردوغان” وأوهامه الخاصة بأنه الحامي الأكبر لمن يعتبرهم المضطهدين في الأرض، وأنه الزعيم الأكبر لمسلمي العالم، لا يتيح إطلاقاً أي فرصة لبناء مجرد تفاهمات -وليس تطبيعاً للعلاقات- تراعى الحقوق والمصالح المصرية غير القابلة للنقاش أو التنازل أو التعديل، وأن محاولة ربط مصر بالسياسات التركية تَنُم عن ضحالة استراتيجية لا قاع لها. إذ كيف لبلاد بحجم مصر أن تتنازل عن مبادئها وعن مصالحها وعلاقاتها الدولية المتوازنة، وعن حق شعبها في اختيار نظامها السياسي والدفاع عنه، وأن تضع مصيرها ومستقبلها بيد زعيم مهووس بجنون العظمة والسلطنة؟، وكيف لمصر أن تضحى باتفاقيات ومعاهدات تحقق لها مكاسب كبرى وفقاً للقانون الدولي مقابل وعود وهمية تركية لا تملك ولا تستطيع أن تنفذها على أرض الواقع؟
وحول التصريح الأخير ل”أقطاى”، جاء توضيح وزير الخارجية سامح شكري ليضع النقاط على الحروف، فالمسألة بالنسبة لمصر تتعلق بالأفعال وليس الأقوال، تتعلق بضرورة حدوث تغيير رئيسي في السلوك التركي وأهمه التخلي عن أوهام غزو واحتلال أراضي بلدان عربية، والتوقف عن التورط في ليبيا عسكرياً ووقف تدفق المرتزقة السوريين، واحترام شروط أي تسوية سياسية يتوصل إليها الليبيون أنفسهم بعيداً عن ضغوط أنقرة المناهضة لحرية الليبيين في تقرير مصيرهم، واحترام الاتفاقيات الدولية المستندة للقانون الدولي بشأن الحدود البحرية التي وقعتها مصر واليونان، ورفع أيديها عن العناصر الإخوانية التي تنشط في الداخل التركي برعاية الرئيس «أردوغان» شخصياً ضد مصر وشعبها ونظامها السياسي.
الشروط المصرية على النحو السابق ليست تعجيزية، فهي في الأول والأخير تضع مسئولية أي تغيير في عنق تركيا أولاً. التصريحات الجوفاء لا تقنع مصر مهما تضمنت عبارات ذات طابع إيجابي، ومهما حاولت أن تصنع مسافة متخيلة بين مصر وشركائها وأصدقائها، فالفشل مصيرها.