في مشهد أمريكي شديد الاستقطاب والتجاذبات، تدخل الانتخابات الأمريكية مرحلة جديدة تحتدم فيها المنافسة؛ إذ أجرى الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” ومنافسه “جو بايدن” أول مناظرة بينهما، في عرض تلفزيوني مباشر مساء الثلاثاء الموافق 29 سبتمبر 2020. وقد عُقدت المناظرة بين المرشحين في مدينة كليفلاند في ولاية أوهايو، وأدارها المذيع الأمريكي “كريس والاس” مقدم برنامج “فوكس نيوز سنداي”، في ظل تطبيق صارم للإجراءات الوقائية حيال فيروس كورونا المستجد. وينظر بعض المراقبين إلى المناظرة باعتبارها عاملًا ذا تأثير كبير على مسار العملية الانتخابية، كونها لديها القدرة على إماتة فرص مرشح وإحياء فرص المرشح الآخر. وعليه، يثار التساؤل بشأن تأثير المناظرة الأولى على توجيه دفة العملية الانتخابية وفرص المرشحين.
أهمية المناظرة
تأتي أهمية هذه المناظرة من كونها تشهد عامًا انتخابيًّا مليئًا بالتعقيدات والأوضاع شديدة الاشتباك. إذ باتت الولايات المتحدة في صدارة الدول الأكثر تضررًا من وباء “كوفيد-19″، بمعدل إصابات يتجاوز 7 ملايين إصابة، ومعدل وفيات يقترب من 300 ألف. ونتيجة لذلك، تشهد الولايات المتحدة حالة من تردي الأوضاع الاقتصادية بطريقة أثرت سلبًا على مجمل الإنجازات الاقتصادية التي استطاع “ترامب” تحقيقها خلال السنوات الثلاث الأولى من حكمه. علاوة على الموجات المتجددة من الاحتجاجات التي بدأت على خلفية مقتل الأمريكي ذي الأصول الإفريقية “جورج فلويد”، في 25 مايو 2020 بمينيابوليس، ثم حادث إطلاق النار على “جايكوب بليك” في كينوشا.
وفي سياق موازٍ، ترجع أهمية المناظرة أيضًا إلى وقوع أمر غير مألوف كثيرًا على الساحة الأمريكية يتمثل في تراجع تأييد الرئيس الذي يحتل المنصب حاليًّا، في مقابل تصدر منافسه في أغلب استطلاعات الرأي. إذ يتصدر “بايدن” معظم استطلاعات الرأي، بما فيها تلك التي تضم الولايات المتأرجحة التي تعد حاسمة بالنسبة لنتيجة الانتخابات في 3 نوفمبر. علاوة على المعركة الجارية التي يقوم بها “ترامب” لتعيين القاضية المحافظة “إيمي كوني باريت” خلفًا لـ”روث بادر جينسبيرج” في مسلك غير معتاد على الساحة الأمريكية التي تواتر فيها الرئيس على تجنب إجراء تعيينات بهذا القدر من الأهمية خلال عامه الأخير، أو خلال الستة شهور الأخيرة على أقل تقدير.
محاور المناظرة
استندت المناظرة الأولى -وفقًا لمدير المناظرة “كريس والاس”- إلى عددٍ من المحاور التي ترتبط بشكل أساسي بالسياسة الداخلية، وهي: تعيين القاضية بالمحكمة العليا، ومواجهة وباء “كوفيد-19″، وإعادة فتح الاقتصاد، والتعليق على الاحتجاجات، والتغير المناخي، ونزاهة الانتخابات وتأمينها. ويمكن إبراز الجدل الذي دار حول كل محور على النحو التالي:
١- تعيين قاضية بالمحكمة العليا: أكد “ترامب” أنه اختار للمحكمة العليا المرشحة المناسبة ذات السجل الحافل، وشدد على حقه في هذا الاختيار كونه رئيسًا لأربعة أعوام وليس ثلاثة، وبالتالي يحق له الاختيار حتى موعد إجراء الانتخابات التالية. وفي المقابل، شدد “بايدن” على أن “ترامب” يجور على حق الشعب في الاختيار، إذ كان عليه أن يترك المنصب شاغرًا لحين انتهاء الانتخابات.
٢- مواجهة الوباء: دار جدل كبير بشأن إجراءات التعامل مع الوباء، إذ يرى “ترامب” أن الإغلاق ليس الحل، ونفى مسئوليته عن الوضع المتفاقم للوباء، وشدد على أن تعامل إدارة “أوباما” مع وباء إنفلونزا الخنازير كان دون المستوى، ولافتًا إلى قرب موعد التوصل إلى لقاح. وفي المقابل، أكد “بايدن” أن إدارة “ترامب” المتذبذبة كانت هي السبب الرئيسي في تفاقم الأوضاع، مشيرًا إلى أن “ترامب” شجع الناس على عدم ارتداء الكمامة.
٣- الاقتصاد: قال “ترامب” إن الولايات المتحدة في ظل إدارته “استطاعت بناء أقوى اقتصاد في العالم، لكن الإغلاق جاء بسبب وباء كورونا”، ثم أردف أن إدارته بصدد إعادة فتح الاقتصاد تدريجيًّا، متهمًا الديمقراطيين بالسعي لإغلاق الاقتصاد حتى موعد الانتخابات، بهدف منح الغلبة لمرشحهم. وفي المقابل، أكد “بايدن” أن “ترامب” استلم السلطة والاقتصاد في أفضل حالاته، ثم تسبب في جعله في أسوأ حالاته، مشيرًا إلى أن “ترامب” سيكون الرئيس الأمريكي الأول الذي سيغادر منصبه مع أعلى معدل للبطالة في البلاد.
٤- الضرائب: في إجابته عن اتهام صحيفة “نيويورك تايمز” له بدفع 750 دولارًا فقط كضرائب في عامي 2016 و2017، لفت “ترامب” إلى أنه دفع ملايين الدولارات كضرائب على الدخل في 2016، مشددًا على أنه في حال فوز “بايدن” فستغادر الشركات، وستشهد الولايات المتحدة أسوأ ركود اقتصادي. وفي المقابل، قال “بايدن” إن “ترامب” استغل قانون الضرائب الساري للتهرب من الدفع.
٥- الاحتجاجات: تعليقًا على الموجات المتجددة من الاحتجاجات، اتهم “بايدن” “ترامب” بتأجيج الوضع وتغذية الكراهية بين الشعب الأمريكي. وفي المقابل، قال “ترامب” لـ”بايدن”: “أنت لا تستطيع حتى التفوه بلفظ إنفاذ القانون لأنك تتخوف من خسارة اليساريين”. لافتًا إلى أن فترة حكم “أوباما” شهدت معدلات عنف تفوق المعدلات الجارية. مشيرًا إلى أن حصار دور جماعة “براود بويز” اليمينية يتطلب مواجهة الدور المخرب لحركة “أنتيفا” اليسارية.
٦- التغير المناخي: ذكر “بايدن” خطته للتخلص من التغير المناخي للوصول إلى أدنى حد من انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون بحلول عام 2035، مضيفًا أن خطته ستوفر ملايين فرص العمل. وفي المقابل، قال “ترامب” إن خطة “أوباما” الخاصة بتغير المناخ تسببت في رفع أسعار الطاقة، وأشار كذلك إلى أن خطة “بايدن” الخضراء ستكلف الولايات المتحدة مبالغ طائلة، الأمر الذي بدا كمحاولة منه لربط خطة “بايدن” بخطة “بيرني ساندرز”.
٧- نزاهة الانتخابات: قال “بايدن” إن التوسع في التصويت عبر البريد لن يضر العملية الانتخابية، مستشهدًا بقيام الجيش المستمر بالتصويت عبر البريد دون أدنى مشكلة. وفي المقابل، شدد “ترامب” على أن إجراء الانتخابات عبر البريد سيسمح بتوسيع فرص تزويرها، لا سيما مع إرسال قسائم التصويت دون طلب. علاوة على التأخر في إعلان النتائج.
الملامح العامة
على الرغم من محاور المناظرة الهامة السابق الإشارة إليها؛ إلا أن المشهد كان غير متوقع ودون المستوى المعتاد. إذ تحولت المناظرة بين “ترامب” و”بايدن” إلى عرض يغلفه التوتر والفوضى مع تبادل الاتهامات والإهانات والهجمات الشخصية، حيث عكف المرشحان على مهاجمة ومقاطعة بعضهما بعضًا طوال مدة المناظرة، ويمكن توضيح أبرز الملامح على النحو التالي:
١- الشخصنة: غلب على المناظرة ملمح رئيسي متمثل في “الشخصنة”، إذ عمد كلا المرشحين إلى الخوض في شخص منافسه، أكثر من الحديث في برامجه وسياساته، كما لو كان المشهد يعبر عن عداء بين شخصين وليس في مشهد سياسي يهم ملايين المواطنين، ومن أبرز ما دار في هذا الصدد ادعادات “ترامب” بأن نجل “بايدن” مدمن تم طرده من الجيش نتيجة لجريمة مخلة بالشرف.
٢- التنمر السياسي: شهدت المناظرة اتجاهًا متزايدًا لاستخدام ما يمكن وصفه بـ”التنمر السياسي”، واللافت في الأمر أن هذا السلوك لم يتوقف فقط عند “ترامب”، وإنما عمد “بايدن” إلى استخدامه أيضًا. فقد نعت “بايدن” “ترامب” بأنه “كذاب”. وفي المقابل، اتهم “ترامب” “بايدن” بـ”الافتقار للذكاء”.
٣- تبادل الاتهامات: غلفت المناظرة حالة صاخبة من تبادل الاتهامات بين المرشحين، وقد يرجع السبب في ذلك إلى رغبتهما في صرف الأنظار عن افتقادهما لبرامج أو سياسات مقنعة للشارع الأمريكي. إذ اتهم “ترامب” “بايدن” بأنه دمية في يد “اليسار الراديكالي”. في حين، وصف “بايدن” “ترامب” بأنه “جرو” الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، ووصفه بـ”المهرج” تارة أخرى. وطالت الاتهامات مدير المناظرة ذاته، إذ عمل “ترامب” على تصويره بالمنحاز لـ”بايدن”.
٤- الاعتماد على نقاط الضغط نفسها: يمكن القول بشكل عام إن المناظرة لم تقدم جديدًا في السباق الرئاسي، إذ اعتمد كلا المرشحين على استخدام نقاط الضغط نفسها التي استخدماها طوال أشهر الاستعداد للانتخابات. فقد عمد “ترامب” إلى التركيز على تشويه خصمه عبر نقطتين (الاشتراكية – والنظام والقانون)، بينما عمد “بايدن” إلى التركيز على (جائحة كورونا – والطبقات الفقيرة والمهمشة).
٥- غياب الملفات الخارجية: يتضح جليًّا أن محاور المناظرة الأولى تخلو تمامًا من الملفات الخارجية، وقد يرجع السبب في ذلك إلى تزايد اهتمام الشارع الأمريكي بالملفات الداخلية، أو بسبب الأزمات المتشابكة التي تعج بها الساحة الداخلية. ونتيجة لذلك، اتسم أداء “ترامب” بالتواضع، إذ لم يستطع استدعاء الإنجازات الخارجية الأخيرة التي قام بها لتعويض الخلل في الملفات الداخلية.
هل تؤثر المناظرة على مسار العملية الانتخابية؟
وفقًا لنتائج استطلاع الرأي الذي أجرته شبكة “سي. إن. إن” (CNN) الإخبارية الأمريكية بالتعاون مع شركة “إس.إس.آر. إس” (SSRS) للبحوث، قال نحو ثلثي المصوتين إن إجابات “بايدن” كانت أكثر مصداقية بنسبة تصل إلى 65% مقابل 29% لـ”ترامب”. وهي نتائج مقاربة لنتائج المناظرة التي جرت في عام 2016 بين “ترامب” و”هيلاري كلينتون”، حيث تقدمت “كلينتون” بنسبة 62% مقابل 27% لصالح “ترامب”. إلا أن قناة “سي.إن.بي.سي” (CNBC) بالعربية أفادت بأن المناظرة اجتذبت جمهورًا أقل بكثير من المناظرة التي تمت في عام 2016، وفقًا لبيانات نيلسن. إذ شاهد ما يقدر بنحو 73.1 مليون شخص المناظرة عبر 16 شبكة، أي أقل من الرقم البالغ 84 مليونًا الذين شاهدوا مناظرة 2016، وهو ما يمثل انخفاضًا قدره 13%.
وارتباطًا بذلك، يمكن الاستناد إلى افتراض عام مفاده صعوبة التوصل لعلاقة مباشرة بين المناظرة والسلوك التصويتي للناخبين الأمريكيين، ومع ذلك تجدر الإشارة لعدد من الأمور، يأتي في مقدمتها أن التقييم العام للمناظرة كان سيئًا، حتى وإن اتجهت بعض التحليلات أو الاستطلاعات إلى الإشادة بأداء “بايدن”. علاوة على أن المناظرة لم تفِ بالغرض الأساسي والرئيسي الذي عُقدت من أجله، ألا وهو عرض برامج وسياسات ورؤى بشأن التهديدات والمشكلات التي تواجه الساحة الأمريكية، بطريقة تسمح للشارع الأمريكي بالاختيار بين السياسات والبرامج حسبما يرونه مناسبًا، إضافة إلى أن غياب الملفات الخارجية والاتجاه إلى الانكفاء على الداخل لم يعطِ صورة متوازنة عن المشهد، وأفقد “ترامب” بعض كروت نجاحه.
وفي النهاية، تجدر الإشارة إلى أن مناظرة الثلاثاء لا تزال المناظرة الأولى، ضمن ثلاث مناظرات، وبالتالي فلا تزال الفرصة قائمة لتجاوز نقاط الضعف وتحسن الأداء خلال المناظرتين القادمتين، اللتين من المزمع إجراؤهما في 15 و22 أكتوبر في ميامي بولاية فلوريدا، وفي ناشفيل بولاية تينيسي على التوالي. إضافة إلى المناظرة الوحيدة التي ستجمع نائب الرئيس “مايك بنس” والمرشحة الديمقراطية لمنصب نائب الرئيس السيناتور “كامالا هاريس” في 7 أكتوبر في ليك سيتي بولاية يوتاه.