انتهت أطول وأصعب جولات التصعيد المسلح بين النظام السوري ومعارضيه في درعا منذ توقيع اتفاق عام 2018، حيث أعلنت الأطراف المنخرطة في تسوية أزمة درعا (وجهاء حوران ولجنتا درعا البلد وريفها المركزيتان، واللجنة الأمنية الممثلة للنظام) توقيع هدنة مشتركة مطلع سبتمبر الجاري برعاية روسية في إطار “خريطة طريق” لتسوية الأزمة وإنهاء التصعيد، ودخل اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ بمجرد التوقيع على الاتفاق، كما انطلقت لجنة تسوية أوضاع المسلحين في عملها، إلى جانب إعادة الانتشار الأمني المشترك بين قوات الشرطة العسكرية الروسية واللواء الثامن التابع للجيش السوري في أربع مناطق في درعا. فيما يترقب الطرف الآخر الكشف عن مصير المفقودين وإطلاق سراح المعتقلين خلال خمسة أيام. وفك الحصار عن درعا، وإدخال الخدمات.
مرحلة ترقب
في إطار ما سبق، من المتصور أن إقرار الطرفين للهدنة يتوقف على مدى تلبية الأطراف لمخرجاتها قبيل إرساء اتفاق نهائي يطوي صفحة التصعيد على الجانبين. وبحسب جدول أعمال “خريطة الطريق” التي تتضمن 9 بنود، فمن المفترض الانتهاء من الإطار الإجرائي في غضون أقل من أسبوع كمرحلة أولى تشكل اختبار الثقة بين الطرفين، فالمحك في هذا الاختبار هو الفحص الذي ستقوم به اللجنة الأمنية لهويات درعا للكشف عن وجود غرباء من عدمه، فغالبًا ما كان النظام يتذرع بوجود إرهابيين ومقاتلين أجانب في درعا، بالإضافة إلى موقف المعارضين للاتفاق الذين سيتم ترحليهم إلى مناطق الشمال، حيث سيطرة المعارضة المسلحة هناك.
وفيما لم تتمّ الإشارة إلى صلة “خريطة طريق درعا للتسوية” وهو القاسم المشترك الذي ورد في معظم بيانات الأطراف، بالاتفاق الموقع عام 2018؛ إلا أن مراجعة البنود التي اشتمل عليها الاتفاق ربما لا تشكل خروجًا عن الاتفاق، بل على العكس هي محاولة للعودة إلى الاتفاق، مع معالجة الاختلالات التي شهدتها الفترة الماضية من عمر الاتفاق، ولا سيما على صعيد تغيير موازين القوى في درعا لصالح المعارضة، فبمجرد توقيع الاتفاق الجديد بدأت لجنة تسوية أوضاع المسلحين في عملها، وشهدت إقبالًا عليها حيث تم تسوية أوضاع 212 شخصًا في اليوم الأول، قاموا بتسليم الأسلحة (المتوسطة) إلى اللجنة الأمنية -حسب تقارير محلية- وهو ما كان ينص عليه الاتفاق الأصلي (2018) بأن يتم تسليم الأسلحة الثقيلة والمتوسطة، بينما تُقيّم اللجنة الأمنية طبيعة تلك الأسلحة ما بين المتوسطة التي يتعين تسليمها أو الشخصية التي يمكن للأشخاص حملها.
كذلك فإن عملية دخول اللواء الثامن والشرطة العسكرية الروسية (الفيلق الخامس) إلى درعا البلد، أشبه بعملية إعادة انتشار أمني للسيطرة على الأوضاع الأمنية والعسكرية، بما لا يعد أيضًا متغيرًا فارقًا عن الاتفاق السابق، لكن الفارق ربما سيحدث في المستقبل إذا ما تمكن هذا الانتشار من تقويض عملية تمدد نقاط سيطرة المعارضة، وهو ما تشير إليه البنود، لكن على الأرجح فإن زيادة الانتشار العسكري لقوات الجيش النظامي مقابل السماح بعودة شرطة درعا يهدف إلى حسم موازين القوى لصالح قوات الجيش السوري في هذا الجانب. ومن المتصور أن الاتفاق على هذا النحو سيكون قابلًا لدخول درعا والنظام في هدنة طويلة نسبيًا مجددًا على غرار الفترة السابقة منذ التوصل لاتفاق 2018، لكنه لن يُنهي تمامًا حالة الاحتقان بين الطرفين أو يطوي صفحة العداء بشكل نهائي.
لكن ربما يتجاوز الأمر هذا السياق من منظور إعادة الانتشار الأمني، فتوجه النظام لشن عمل عسكري بدعوى ملاحقة عناصر خارجية في درعا لزيادة مناطق النفوذ، لكن على الجانب الآخر فإن الثقل الجيوسياسي لدرعا يحتل أولوية لدى موسكو. ففي السابق كانت المعارضة المسحلة في درعا على علاقة بغرفة “الموك” التي كانت تديرها الولايات المتحدة قبيل الاتفاق، وبالتالي ستظل حريصة على استعادة السيطرة في درعا، بالإضافة إلى أن درعا تشكل مثلثًا حدوديًا مشتركًا مع كل من الأردن (خاصة معبر “نصيب” الاستراتيجي) وإسرائيل (حيث تتاخم الجولان المحتلة)، كما تتطلع إيران عبر مليشياتها هناك (الفرقة 313) إلى التموضع هناك، وهو ما يعزز مساعي موسكو للسيطرة على هذه التشابكات حتى لا تخرج عن السيطرة، وهو ما يفسر إشارة أغلب التقارير إلى سيطرة الفيلق الخامس الروسي على تحركات الفرقة الثامنة وباقي القوات والمليشيات الرديفة.
التحرك الروسي
على التوازي، من الأهمية بمكان النظر إلى توقيت التحرك الروسي الذي يواكب تلاقيًا روسيًا أمريكيًا على تفاهمات متقدمة نسبيًا بشأن سوريا ينظر إليها مراقبون على أنها مرتبطة بمستقبل السياسة الأمريكية في المنطقة. فعلى الرغم من تأكيدات “جو هود” مساعد وزير الخارجية الأمريكي في قامشلي قبل أيام لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) خلال زيارة له مؤخرًا إلى قامشلي، بأن الولايات المتحدة لن تنسحب من شمال شرقي سوريا على نحو ما فعلت في أفغانستان، وستدعم (قسد) في مواجهتها لتنظيم (داعش)؛ لكن لقاء آخر مرتقبًا لـ”بريت ماكجورك” مسئول الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي الأمريكي والمبعوث الرئاسي الروسي “ألكسندر لافرينتييف” لبحث الملف السوري يعتقد أنه سيقود الأطراف إلى تفاهمات جديدة بينهما في المستقبل، فحتى لو أقرت واشنطن بأنها لا تريد الانسحاب بهدف استمرار مواجهة “داعش” في سوريا، فلا شك أنها قد تحقق هذا الهدف بوسائل أخرى في سوريا في المستقبل، لا يشترط أن تكون في ظل تواجدها العسكري.
في الأخير، يمكن القول إن دخول درعا في اتفاق هدنة هو مبادرة روسية للعودة إلى اتفاق 2018 بشأن درعا، على اعتبار أن روسيا هي الضابط للايقاع السياسي والأمني في سوريا، وستظل هي اللاعب المحوري في هذا السياق، فهي تمتلك أدوات الوساطة وأدوات الضغط على أطراف الصراع في الوقت ذاته، فروسيا تركت الطرفين يخوضان جولة التصعيد المسلح دون تجاوز الحدود المسموح بها التي تخرجها عن السيطرة، كما هددت كلا منهما بأنها قد تتدخل للفصل وإنهاء التصعيد بالقوة. وبالتالي فإن مثل تلك الجولات تعزز من الدور الروسي في سوريا مع استمرار الوقت، وسيكون من الصعوبة بمكان استبداله أو تقلصيه على المدى المتوسط، وربما على المدى الطويل. على الجانب الآخر، من المهم الالتفات إلى حجم التشابكات المتزايدة بين القضايا الإقليمية، فروسيا كلاعب في سوريا تترقب متغير السياسة الأمريكية في مرحلة ما بعد الانسحاب الأمريكي في أفغانستان، على أرضية مستقبل الوجود الأمريكي في المنطقة بشكل عام، وسوريا على وجه الخصوص.