قبل أسبوعين، كتبت عن احتمالات حدوث أزمة دستورية وسياسية في الولايات المتحدة نتيجة رفض الرئيس دونالد ترامب مغادرة البيت الأبيض إذا ما خسر الانتخابات نظرًا لأن هذه الخسارة تعنى أن الانتخابات قد جرى تزويرها. لم تمضِ أيام على هذا التوقع، الذي رددته نوافذ إعلامية أمريكية كثيرة، حتى ذكر الصحفي المرموق بصحيفة النيويورك تايمز، «توماس فريدمان»، في حديث لشبكة CNN التليفزيونية، أنه من المحتمل أن تكون أمريكا متجهة نحو الحرب الأهلية الثانية بعد رفض الرئيس النقل السلمي للسلطة وترك مكتبه في البيت الأبيض إذا ما خسر الانتخابات في الثالث من شهر نوفمبر القادم. أضاف «فريدمان» أن بدايته الصحفية كانت في تغطية الحرب الأهلية اللبنانية، ويخشى أن يختم حياته المهنية بتغطية الحرب الأهلية الأمريكية. خلال هذه الفترة صعّد ترامب من هذه الأطروحة، مُركِّزًا أولًا على أنه من الجائز أن تكون هناك انتخابات مُتنازَع على نتيجتها، وأنه لن يلتزم بنتيجة الانتخابات ما لم يتأكد مما سوف يحدث في الانتخابات بالبريد، مضيفًا أن هذا النوع من التصويت هو كارثة لو جرى التخلص منها فإنه لن يكون الأمر انتقالًا للسلطة، وإنما امتدادًا لها! كان رد الفعل الديمقراطي عنيفًا وممجدًا للتصويت بالبريد بسبب وباء كورونا، والخوف من الازدحام على صناديق الاقتراع، أو العزوف عن التصويت. قلة من الجمهوريين مثل «ميت رومنى»- المرشح الجمهوري السابق للرئاسة- أدانوا أقوال ترامب، وأكدوا أن النقل السلمى للسلطة هو أساسي للديمقراطية، وأن غير ذلك غير مقبول. ولكن عملية الاستقطاب مستمرة، فهناك قاعدة ترامب من بين البِيض عامة وسكان المدن في أحياء بيضاء، والولايات التي أُضيرت من العولمة وبات عمالها بدون صناعات يعملون فيها، بعد أن هاجرت مصانعها إلى المكسيك والصين، والتي لأسباب مختلفة تعتقد أن حلفاء أمريكا سرقوها أو عاشوا على حسابها، وأن هناك مؤامرة كبرى لتغيير التركيبة السكانية للولايات المتحدة بغزو المهاجرين الملونين من أديان وعقائد مختلفة. وهناك بقية أمريكا ومجمع الأقليات المختلفة من غير البِيض وغير البروتستانت (بايدن كاثوليكى) والمندمجين والمنصهرين في المجتمع الأمريكي، الذين يريدون أمريكا على النحو الذي تعيش فيه.
الحرب الأهلية الأمريكية الأولى جرت كما هو معلوم بين الشمال والجنوب (١٨٦٠- ١٨٦٥)، والشائع أنها دارت حول «العبودية»، وهذا صحيح، ولكن الحرب دارت أيضًا حول بقاء الاتحاد الأمريكي والمدى الذي تصل إليه حقوق الولايات المختلفة. كان هناك خلاف أيضًا في القيم، فالولايات الشمالية كانت صناعية ومتقدمة تكنولوجيًا، والجنوبية زراعية، ومتخلفة في كل شيء آخر، وخائفة طوال الوقت من القيم المتحررة في الشمال. الانقسام الأمريكي الحالي جغرافيًا يجرى بشكل مختلف بين الولايات الزرقاء الواقعة على سواحل المحيط الأطلنطي شرقًا والمحيط الباسيفيكي من ناحية، وولايات الوسط والجنوب من ناحية أخرى. ولا توجد هناك صدفة أن الولايات المُتنازَع على الأغلبية فيها هي تلك الواقعة على البحيرات الشمالية في الوسط (ميتشجان، وبنسلفانيا، وسيكنسون)، التي تختلط فيها الصناعة مع الزراعة، والتقدم مع التخلف. الولايات الأولى هي الأكثر سكانًا، والعامرة بالجامعات الكبرى المعروفة عالميًا، والتي توجد فيها مراكز البحث وأودية السليكون المتقدمة، كما أنها محور ما كان معروفًا في السابق بالمؤسسة الشرقية التي تولد الأفكار الأمريكية والعالمية للولايات المتحدة والعالم، وفيها وُلدت هوليوود وأبل ومايكروسوفت وجوجل وفيس بوك وأمازون وبوينج، ومنها أيضًا برزت أفكار الإجهاض وحرية زواج المِثليين وتدخل الدولة في حرية السوق والحماية الصحية للأفراد. الولايات الأخرى لا تزال تعتمد على الصناعات التقليدية والاستخراجية والزراعة والصيد، ومتمسكة إلى حد كبير بقيم دينية متعصبة أحيانًا ومضادة لكل الأفكار المشار إليها.
القضية في حقيقتها باتت تتجاوز ترامب وأفكاره الخاصة، وحتى طريقته في إدارة الانقسام الحالي، وهو يستعير عمليًا من أفكار جرت لتعميق التناقضات، كما جرى في ألمانيا أثناء الثلاثينيات من القرن الماضي، وفى دول عربية طرح الإخوان المعادلة السياسية بأنها إما الحكم أو الحرق والاقتتال. الصيغة هكذا تضع كل الأفكار التي عاشت عليها أمريكا منذ الحرب العالمية الثانية موضع التساؤل الشديد والخطر الأشد لو وصل الأمر إلى الاقتتال الأهلي، أو رفضت كاليفورنيا الاتحاد الأمريكي إذا ما فاز ترامب بطريقته، وهي التي خرجت في مظاهرات تطالب بالانفصال بعد النجاح الأول، أو طرح ولايات أخرى نوعًا من «البريكسيت» الأمريكي. الظن هنا هو أنه ولو أن الأزمة حقيقية وجادة، إلا أن هناك من التقاليد والأعراف والتماسّ الكبير في المصالح ما يمنع كل ذلك من الحدوث. ولكن فى زمن الكورونا فإن المفاجآت غير مستبعدة!