تعتبر حرب أكتوبر عام 1973 واحدة من أهم وأكبر الحروب التى قادتها مصر لتحرير أرضها, استعادت بعدها الروح العربية والمصرية، كما استعادت العزة والكرامة، والتي تأثرت بالسلب عقب هزيمة 1967, وكانت أحداثها مفاجِئَة وغريبة التوقعات, وحساباتها شديدة الدقة والتعقيد, غيرت الفكر الاستراتيجي لحروب العصر الحديث، وأبرزت أهمية خطط الخداع الإستراتيجي وربطه بالمستوى التعبوي, كما غيرت الخريطة السياسية والعسكرية للشرق الأوسط, وشدَّت انتباه القوى الدولية إلى أهمية منطقة الشرق الأوسط، سواء من حيث موقعها الـ”جيوسياسي”، أو ثروات تلك المنطقة، خاصة مصادر النفط, لا سيما بعد توظيف العرب لسلاح النفط فى حربهم مع إسرائيل في 1973، والذي شكَّل ضغوطًا اقتصادية على الغرب, وهذا ما اتضح جَلِيًّا فى الأدبيات الغربية وحديثهم عن الشرق الأوسط الجديد، وأهمية توظيفه لخدمة الغرب وإسرائيل.
كشفت حرب أكتوبر عن الكثير من الجوانب الإيجابية في الشخصية المصرية، خاصة الروح المصرية التى اقترنت بقدر هائل من التصميم والقوة والتضحية والإرادة وإنكار الذات، والرغبة في التخلص من آلام (67), كما كشفت عن القوة الكامنة داخل المواطن المصري، والتي لا تظهر إلا وقت الشدائد ولحظات التحدي والمِحَن, وأظهرت قدرته على استيعاب التكنولوجيا الحديثة, وتحمله تدريبات شاقة عالية المستوى تمَّت على مسارح عمليات مشابهة تمامًا لمسرح الأحداث، كالتدريب على عبور قناة السويس، والتسلل داخل وحدات العدو, وإحداث خسائر مباشرة داخل صفوف الإسرائيليين, وزرع الألغام للدوريات الإسرائيلية, واقتحام المواقع الحصينة، والاشتباك لأكثر من مرة مع العدو بكافة أنواع الأسلحة الخفيفة والمتوسطة والثقيلة, والتدريب على إزالة الساتر الترابي من خلال خراطيم المياه… إلخ.
وقد ساهمت كل هذه التدريبات في كسر حِدَّة الخوف من العدو الذي روج لأسطورة الجيش الذي لا يقهر, وأثبت المقاتل المصري للعالم أن هذه الأسطورة ما هي إلا خرافة من أدوات الحرب النفسية، وليس لها أساس من الصحة، ولكنها كانت جزءًا من شعور الوعي العربي بالهزيمة النفسية, كما شجعت تلك التدريبات الجندي المصري على المُبادرة والبدء بالهجوم، وأنه لا مجال لسياسة رد الفعل كما حدث في (48) و(56) و(67)، بل اعتمد الجندي المصري على أن يكون فاعلًا وليس مفعولًا به, وكانت حرب الاستنزاف بمثابة تطعيم حقيقي للمعركة أحدثت فيها القوات المصرية خسائر كبيرة في تشكيلات العدو، ودفعته لطلب وقف إطلاق النار من خلال طرح الولايات المتحدة الأمريكية مبادرة “روجرز”.
على الرغم من أن النخب السياسية بشقيها (الأمني، والعسكري) هي التي تصيغ مفهوم الأمن القومي, إلا أن الذي يحدد أُطُر الصياغة عوامل كثيرة, أهمها: الجغرافيا السياسية، والتراكمات التاريخية، والقدرة على استشراف المُستقبل، ورؤى الذين يعيشون على الأرض لترجمة التاريخ وربطه بالحاضر والمستقبل، وفهم الجغرافيا, ويختلف مفهوم الأمن القومي من دولة الى أخرى، ومن إقليم إلى إقليم، ومن زمن إلى زمن آخر, وهذا -في الحقيقة- مقبول لمرونة مفهوم الأمن القومي وسرعته في التغير والتطور طبقًا لتغير التهديدات والتحديات والمصالح, ولذلك فهو نسبي وليس مطلقًا.
وعندما نناقش القضايا المُتعلقة بالأمن القومي نبحث دائمًا على مصادر التهديدات التي يمكن التعرض لها، سواء من قِبَل الفاعلين من الدول، أو الفاعلين من غير الدول, وأهمها الجماعات السياسية الدينية، والمؤسسات الاقتصادية العملاقة، وغيرها من التي لديها مشاريع سياسية واقتصادية, وأشد التهديدات وأخطرها على الأمن القومي هي التدخلات الخارجية في شئون الدول, سواء تدخلات عسكرية (مباشرة أو غير مباشرة), أو تدخلات غير عسكرية (أعمال استخباراتية)، مثل: فرض عقوبات على دول, ودعم ثورات داخلية, ودعم انقلابات, وإيواء ودعم عناصر المعارضة السياسية, والإطاحة بأنظمة حاكمة, ودعم جماعات إرهابية وتوفير ملاذات آمنة لهم ومنصات إعلامية تروج لأفكارهم, تغيير وتشكيل رأي عام, وكافة أشكال العمليات الاستخباراتية الأخرى, وقد تلاحظ مؤخرًا أن التدخلات الاستخباراتية أضحت أكثر تأثيرًا وفعالية في ضوء التطورات العلمية والتكنولوجية الهائلة، خاصة تكنولوجيا الاتصالات وتكنولوجيا الجيل الخامس, لا سيما أن الأطراف المتداخلة تجتهد لامتلاك تلك التكنولوجيا وتطوير أدواتها بما يحقق مصالحها, كما أن هذا النوع من التدخلات أقل تكلفة من التدخلات العسكرية، وأقل انتقادًا من المُجتمع الدولي؛ لأنه غير مرئي وغير معلوم الأطراف.
كان مفهوم الأمن القومي في فترة حرب 1973 ينطوى على احتلال عسكري لأراض عربية, خلَّفت إحباطات شديدة لشعوب المنطقة, وبالتالي كان محصورًا في القوة العسكرية والاقتصادية, فكان لزامًا لتحقيقه امتلاك القوة العسكرية والاقتصادية, لكن اختلف مفهوم الأمن القومي العربي والمصري في هذه الفترة من الزمن بعد أن تداخلت قوى جديدة بجانب القوة العسكرية أصبحت مؤثرة في التفاعلات الدولية والإقليمية.
كما ارتبط مفهوم الأمن القومي عام 73 بشكل وطبيعة النظام العالمي ثنائي القطبية، ووجود معسكرين (شرقي، وغربي) حققا نوعًا من التوازن النسبي في شكل العلاقات الدولية, ولكن عَقِب انهيار المعسكر الشرقي وهيمنة الولايات المتحدة على مجريات الأمور وتوظيفها لمصالحها حدث خلل في منظومة وطبيعة العلاقات الدولية, أدى إلى زيادة حجم التهديدات والتحديات والمصالح، وبالتالي تغير مفهوم الأمن القومي العربي.
رسخ الصراع العربي الإسرائيلي منذ الإعلان عن دولة إسرائيل قناعة لدى العرب بأن زرع الكيان الصهيوني وسط المنطقة العربية هو قمة التهديد لأمنها القومي, وأن المشروع الصهيوني الاستعماري الاستيطاني سوف يقوِّض المشروع القومي العربي, وكانت هزيمة العرب في 67 واحتلال أراض عربية خير دليل على ذلك, كما أن اتفاقيات السلام العربية الإسرائيلية لم تستطع إيقاف الطموحات الإسرائيلية ومشروعها الاستعماري والاستيطاني في المنطقة, بل استمرت في استيلائها على أراضٍ عربية جديدة.
ثَمَّة اختلافات بين الحروب التي خاضتها الدولة المصرية سابقًا والحروب التي تخوضها حاليًّا عقب ثورات الربيع العربي، فالحروب السابقة كان العدو الإسرائيلي واضحًا ومعروفًا, ومعلوم أيضا من يسانده ويدعمه, وكانت الحروب تقليدية كلاسيكية، أي أن جيشين في المواجهة المباشرة, كما كانت ميادين القتال فيها معروفة، وهي البر والبحر والجو, وكذلك أسلحة وأدوات الحرب كانت معروفة وواضحة, أما الحروب التي تخوضها المنطقة العربية والدولة المصرية في تلك الفترة فهي حروب غير مُتماثلة وغير مرئية، ومن الصعب معرفة أبعادها وكافة أطرافها, ومن الصعب معرفة العدو من الصديق, العدو فيها غير واضح, ويتورط في تلك الحرب دول كبرى ودول إقليمية (إسرائيل, تركيا, إيران, إثيوبيا)، ولديهم مشاريع توسعية وأطماع استعمارية على حساب جيرانهم من العرب، وتجمعهم أمور مشتركة تتمثل في الكراهية الشديدة للعرب والاستعلاء عليهم، وتجمعهم أيضًا أطماع في ثروات ومياه العرب, وللأسف تتعاون معهم دول عربية على رأسها “قطر”, كما أن الحروب التي تدار في المنطقة العربية حروب بالوكالة، تشارك فيها الجماعات الإرهابية والميليشيات المسلحة والمرتزقة والبلطجية, حروب أضعفت النسيج الوطني العربي، وأضعفت الأمن القومي العربي والمصري، وميادين المعارك فيها تجاوزت البر والبحر والجو، بل أصبحت تُدار من خلال الفضاء الإلكتروني والأقمار الصناعية وبرامج الذكاء الاصطناعي، فهجوم إلكتروني يدمر البنية المعلوماتية للدول ويُخَرِّب اقتصاداتها، وأحيانًا يستهدف عقول الشعوب العربي من خلال حروب نفسية شرسة لتدمير الروح المعنوية وكسر إرادة الشعوب وخلق حالة من الإحباط والاغتراب السياسي.