مع بدء الانتخابات الرئاسية الأمريكية تدخل أسواق الطاقة العالمية حالة من الترقب الشديد. الرئيس القادم للولايات المتحدة سوف يحدد توجهات وسياسات الطاقة فى أكبر دولة مستهلكة ومنتجة للطاقة فى العالم، وهو الأمر الذى سيكون له تداعيات بالغة الأهمية، ليس فقط على سوق الطاقة الأمريكى، وإنما أيضا على موازين الطاقة العالمية.
أمريكيا، يظل استمرار ترامب رئيساً لأربع سنوات أخرى أفضلية لمعظم شركات الطاقة العملاقة، مثل «إكسون موبيل» و«شيفرون» وغيرها؛ فالرئيس الحالى هو الأكثر ميلا لتحقيق مصالح هذه الشركات، فى ظل قناعته الخاصة بأن مواجهة التغير المناخى العالمى، من خلال خفض الاعتماد على مصادر الطاقة التقليدية كالنفط والغاز والفحم لصالح مصادر الطاقة المتجددة كطاقة الشمس والرياح، هو «خدعة باهظة الثمن»، ويضر ضررا شديدا بالاقتصاد الأمريكى وخلق الوظائف. وفى هذا الإطار، قام ترامب أثناء ولايته الأولى بإزالة معظم القيود التنظيمية المعيقة للإنتاج المحلى من النفط الصخرى، وفتح المزيد من الأراضى الفيدرالية والمناطق البحرية للحفر، كما شجع مشروعات تصدير الغاز الطبيعى المسال.
من جهة أخرى، يأتى تفضيل شركات النفط الكبرى للرئيس ترامب أيضا على خلفية تهويل حملته الانتخابية لتداعيات توجهات بايدن «الكارثية» فى قطاع الطاقة على هذه الشركات، مشيرة أنه يؤيد «المبادرة الخضراء» التى طرحها الجناح اليسارى فى الحزب الديمقراطى، والتى سوف تعنى «منع إنتاج النفط والغاز»، وزيادة الدعم لطاقة الرياح والطاقة الشمسية والسيارات الكهربائية. وبالفعل، يتضمن برنامج بايدن الانتخابى «خطة صديقة للبيئة» بتكلفة 1.7 تريليون دولار. وتركز هذه الخطة على التحول إلى مصادر الطاقة المتجددة على مدى عشر سنوات، بهدف التخلص من الانبعاثات الكربونية فى الولايات المتحدة تماماً بحلول عام 2035. وفى هذا الإطار، وعد المرشح الديمقراطى للرئاسة بحظر إصدار كافة تصاريح الحفر الجديدة للتنقيب عن النفط والغاز فى الأراضى والمياه الفيدرالية فى اليوم الأول له فى البيت الأبيض. كما أكد أيضا أنه سيعيد انضمام الولايات المتحدة فورا إلى اتفاق باريس بشأن مواجهة التغير المناخى العالمى فى حال انتخابه، مشيرا إلى أنه سيعمل على فرض تدابير مثل التعريفات الجمركية من أجل تعزيز قدرة الشركات الأمريكية على المنافسة العالمية فى مشروعات الطاقة المتجددة، وتشجيع بقية دول العالم على الانتقال إلى مصادر الطاقة الأنظف. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ترامب، بمجرد وصوله إلى السلطة، جعل بلاده هى الدولة الأولى والوحيدة فى العالم التى تنسحب من اتفاق باريس لمواجهة التغير المناخى العالمى، حيث وصفه بأنه اتفاق «غير عادل» ولا يحقق المصالح الأمريكية العليا.
ومع ذلك، لن تكون «كارثة» التحول الطاقوى، و«قلب» موازين عالم الطاقة بعيدا عن مصادر الطاقة التقليدية كالنفط والغاز والفحم، فى ظل إدارة بايدن المحتملة «حتمية»، كما تصورها حملة الرئيس ترامب. إذ يؤكد كثير من الخبراء أن أى رئيس أمريكى يأتى إلى البيت الأبيض، يأتى إلى نظام عريق له قواعده التى لا يستطيع تجاوزها. ومن هذه القواعد المحافظة على موازين الطاقة القائمة فى الولايات المتحدة والعالم. كما أن الإخلال بهذه الموازين، فى الوقت الراهن، وفى ظل أزمة كوفيد-19، من شأنه أن يتكلف «مبالغ هائلة» من أجل تحقيق مشروعات الطاقة المتجددة التى يحلم بها المرشح الديمقراطى للرئاسة، حيث تتوقع «وود ماكنزى» أن تبلغ التكلفة الإجمالية لتحقيق هدف بايدن الخاص بالتحول نحو الطاقة النظيفة بنسبة 100% بحوالى 4.5 تريليون دولار على مدى السنوات العشر المقبلة.
وفى الوقت نفسه، لن يستطيع بايدن -إذا وصل إلى البيت الأبيض- تجاهل أهمية إنتاج النفط الصخرى أو النفط فى المياه العميقة لخليج المكسيك، لأن هذا الإنتاج أصبح يشكل دعما قويا للاقتصاد الأمريكى، ويؤثر، بشكل ملموس، فى ميزان المدفوعات وفى قيمة الدولار. كما أنه يمثل أيضا دعما قويا لسياسة الولايات المتحدة الخارجية على عدة مستويات، ويُحسن من وضع الأمن القومى الأمريكى.
إلا أن التحفظات الواردة على إمكانية نجاح بايدن، حال نجاحه فى الانتخابات الرئاسية، فى تعديل موازين عالم الطاقة فى الولايات المتحدة بشكل جذرى، لا تعنى أنه لن يحدث «هزة شديدة» فى هذه الموازين فى المدى المتوسط، وذلك لميله الواضح إلى وضع نهاية لـ«عصر النفط»، من خلال تعزيز الاستثمارات الخضراء وإعادة تنظيم صناعة النفط الصخرى والعودة إلى اتفاقية باريس. وبالإضافة إلى ذلك، سوف «تميل» موازين عالم الطاقة بوضوح مع توجه بايدن المتوقع نحو جعل أسعار النفط والغاز فى السوق العالمية مرتفعة بما يكفى، لجعل بدائل الطاقة النظيفة للوقود الأحفورى قادرة على المنافسة، وذلك دعما لخطته المناخية الطموحة. كما لن يكون بايدن أيضا حريصا على منع التذبذب الشديد فى أسعار النفط العالمية، خاصة أنه سيفتقر، على الأرجح، إلى العلاقة القوية التى أقامها ترامب مع ولى العهد السعودى، الأمير محمد بن سلمان، والرئيس الروسى فلاديمير بوتين، والتى مكنت ترامب من أن يكون مؤثرا فى تحديد سياسات الإنتاج التى تنتهجها مجموعة «أوبك بلس»، وهو الأمر الذى ساهم فى جعل أسعار النفط معقولة ومستقرة خلال السنوات الأربع الماضية.
وإلى جانب كل ذلك، يمكن أن يؤدى وصول بايدن إلى الرئاسة الأمريكية إلى إحداث خمسة تطورات بالغة الأهمية فى موازين الطاقة العالمية. التطور الأول، هو عودة الولايات المتحدة إلى اتفاقيات مواجهة التغير المناخى العالمى، كما كانت فى عهد باراك أوباما قبل ترامب، وهو الأمر الذى سيغير كثير من الحسابات القائمة حاليا فيما يتعلق بالاستثمارات المستقبلية فى مشروعات الطاقة الجديدة والمتجددة، سواء داخل الولايات المتحدة أو خارجها. التطور الثانى، هو فرض ضريبة الكربون، والتى قد ينتج عنها تراجعات كبيرة فى واردات النفط إلى الولايات المتحدة، خاصة تلك القادمة من دول الخليج العربى. التطور الثالث، هو إمكانية عودة إدارة بايدن إلى الاتفاق النووى الإيرانى الذى وقَّعته إدارة أوباما وانسحب منه ترامب. وهو الأمر الذى سيؤدى إلى تزايد صادرات النفط الإيرانية إلى الأسواق العالمية فى نهاية العام الحالى وبداية العام المقبل.
التطور الرابع، هو إمكانية تراجع إدارة بايدن عن دعم مشروعات إنتاج وتصدير الغاز فى منطقة شرق المتوسط، وعدم التصدى للتحركات التركية المزعزعة للاستقرار فى هذه المنطقة، وهو ما سيمثل «ضربة شديدة» لآمال وطموحات ليس فقط شركات الطاقة الأمريكية العاملة فى المنطقة، وإنما أيضا لطموحات شعوب هذه المنطقة الساعية لتحقيق الاستفادة الأمثل من اكتشافات الغاز الهائلة، التى توالى ظهورها خلال العقد الماضى. التطور الخامس، هو حدوث «زلزال» شديد فى أسواق الطاقة العالمية، إذا تم الطعن فى نتيجة الانتخابات من جانب ترامب، وهو الأمر المرجح. ففى هذه الحالة، سيشهد العالم، فى الأغلب، عمليات بيع واسعة للأسهم والأصول الخاصة بالعديد من شركات الطاقة.