عدد قليل من الدول التي تمتلك القدرة على التأثير في الأوضاع الاقتصادية العالمية كالتي تتمتع بها الصين، خاصة وأن التطور المتواصل الذي لحق بمكانتها الدولية لا يمكن اختزاله في مجرد نجاح دولة كانت فقيرة مغلقة في تحقيق إنجازات تخطت بمقتضاها مكانة عدد من الدول المتقدمة، بما ساعد على تحولها إلى واحدة من أهم القوى الاقتصادية على مستوى العالم، فما يطلق عليه “بالصعود السلمي للصين” قد اعتمد على سياسات تختلف تمامًا عن تجارب دول العالم الحر التي قامت على الربط بين الإصلاح السياسي وتحقيق التطور الاقتصادي، وكذلك على أن الأخذ بالنظام الرأسمالي سيؤدي حتمًا إلى الأخذ بالنظام الديمقراطي القائم على التعددية الحزبية، وحرية الرأي والتعبير، والانتخابات الحرة، واحترام حقوق الإنسان.
فمنذ خطاب “دنج شياو بنج” عام ١٩٧٨ الذي أكد فيه أن الأولوية المستقبلية للبلاد يجب أن تركز على التنمية الاقتصادية، وعلى تحقيق التطور العلمي والتكنولوجي؛ سجلت الصين إنجازات متواصلة لم تنجح أي دولة أخرى في تحقيقها بتلك المعدلات أو بتلك السرعة، خاصة وأن خطاب الزعيم الصيني أكد ضرورة وضع نهاية لمرحلة الجنون الأيديولوجي للثورة الثقافية، والعمل على استعادة مكانة الصين بما يتوافق مع تاريخها وحضارتها.
وتمثل الصين حالة فريدة عالميًّا، إذ يبلغ تعدادها السكاني ١,٣ مليار نسمة، بما يقترب من ٤ أمثال التعداد السكاني للولايات المتحدة الأمريكية، إلا أنها استطاعت تحقيق معدلات للنمو تتراوح بين ٩ و١١% سنويًا طوال العقود الثلاثة التي سبقت عام ٢٠١٨، وهو أعلى معدل للنمو المتواصل تحققه دولة في العصر الحديث. كما أنها نجحت في إخراج ٤٠٠ مليون نسمة من تحت خط الفقر، وارتفع متوسط الدخل الفردي فيها بمعدلات تصل إلى ٧٠٠ في المائة، كما نجحت في مضاعفة حجم اقتصادها الوطني كل ثمانية أعوام، فالقيمة الإجمالية لصادراتها عام ١٩٧٨ تعادل أقل من إجمالي قيمة صادراتها في يوم واحد الآن. كما أصبحت الصين تمتلك أكبر رصيد من احتياطيات النقد الأجنبي على مستوى العالم يقدر بـ٣ تريليونات دولار، بما يعادل ضعف احتياطي اليابان، وثلاثة أمثال احتياطيات دول الاتحاد الأوروبي مجتمعة، الأمر الذي دفع بالاقتصادي الكبير “جيفري ساكس” إلى القول: “إن الصين تمثل أنجح قصص التنمية والتطور في التاريخ الإنساني”، فهي بالإضافة إلى كونها أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان، فهي -في الوقت ذاته- تحقق أعلى معدلات النمو المتواصل على مستوى العالم، وهي من أكبر الدول من حيث الإنتاج الصناعي، ومن أكبر الدول استهلاكًا للطاقة وللموارد الطبيعية، وهي أيضًا من أكبر الدول من حيث معدلات الادخار، وهي ثاني أكبر دولة في العالم من حيث الإنفاق العسكري، وتمتلك أكبر رصيد من احتياطيات النقد الأجنبي، وكان ذلك كله من ثمار نظام رأسمالية الدولة الذي طبقته والذي يعد مختلفًا تمامًا عما هو سائد في مختلف الديمقراطيات الغربية أو الذي تطبقه القوى الاقتصادية البازغة الأخرى.
واعتمدت الصين على سياسة الاستحواذ على المعارف من أفضل مصادرها؛ إذ لا تخلو جامعة مرموقة في العالم من طلبة صينيين، في ظاهرة يمكن وصفها بأنها تمثل زحفًا صينيًا يهدف إلى الارتقاء بالمكانة العلمية، وإلى خلق مجتمع المعارف المتميزة، وذلك في إطار استراتيجية متكاملة لتطوير التعليم والبحث العلمي، والتي بمقتضاها أصبحت الصين أحد أهم مراكز الإنتاج الصناعي، ومن أكبر مقاصد الاستثمارات الأجنبية، وثاني أكبر الدول المصدرة على مستوى العالم، ومن أهم الدول المستثمرة في القارة الإفريقية، حيث اقتحمت الصين تدريجيًا مختلف التكنولوجيات الأربعة الخالقة للثروة، والمقصود بها: تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والنقل، والتكنولوجيا الحيوية، وتكنولوجيا المواد، وتكنولوجيا النانو، الأمر الذي أسهم في دخولها إلى المجالات الحيوية للاقتصاد الحديث التي تشمل “الجينات، والروبوتات، وأجيال الإنترنت فائقة السرعة، والطاقة النظيفة، والذكاء الاصطناعي” وإن كانت جودة بعض منتجاتها لا تزال بعيدة تمامًا عن المعايير الدولية.
وقد دفعت التطورات الهائلة التي تشهدها الصين العديد من الدوائر إلى محاولة استشراف المستقبل، والعمل على تحديد الصورة التي سيكون عليها العالم في حالة استمرار قصة صعود الصين بنفس معدلات الإنجاز التي حققتها طوال العقود الماضية، خاصة إذا ما اتجهت إلى السيطرة على مصادر الموارد الطبيعية الواقعة خارج حدودها، أو على خطوط الملاحة البحرية المرتبطة بمصالحها الاقتصادية، وهو الأمر الذي يتصل في بعض جوانبه بمشروع “الحزام والطريق” المثير للجدل، وما يمثله الإنفاق العسكري الصيني من بواعث للقلق، خاصة وأنه يتزامن مع امتلاك الصين كوادر من العلماء والمتخصصين في كافة المجالات فائقة التطور علميًّا وتكنولوجيًّا، وإن كان ذلك لم يُخرجها من حلقة الاستمرار في الاعتماد على بعض أنظمة التسلح الروسية حتى الآن.
ومهما يقال عن الإنجازات الهائلة التي حققتها الصين منذ عام ١٩٧٩، وظهورها على المسرح الدولي كإحدى أهم القوى الاقتصادية الكبرى؛ إلا أن ذلك لا يجب أن يدعو البعض إلى التسرع في تقييم الأمور، أو الاستغراق في الانبهار بعيدًا عن حدود المنطق، حيث إن الصين تبدو حتى الآن بعيدة عن أن تتبوأ مكانة القوة العظمى بمكوناتها السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية، إذ لا تزال الصين تتحصل على قروض من البنك الدولي (إحدى مؤسسات التمويل الدولية التي تقدم القروض التساهلية للدول النامية)، وبلغت قيمة مديونيتها للبنك الدولي حتى أبريل عام ٢٠١٨ حوالي ٦٠ بليون دولار، كما أنها تعد ثالث أكبر الدول المدينة في العالم، إذ يقدر إجمالي مديونيتها بحوالي ٢٥,٥ تريليون دولار، ويقدر متوسط الدخل الفردي في الصين وفقًا لقوته الشرائية بحوالي ١٨ ألف دولار مقارنة بـ٦٤ ألف دولار في الولايات المتحدة الأمريكية، كما تحتل الصين المرتبة ٢٨ في مؤشر التنافسية العالمية مقابل المرتبة الثانية التي يحققها الاقتصاد الأمريكي، فضلًا عن مكانتها الـ٣٤ عالميًا في مؤشر رأس المال البشري مقابل المرتبة الرابعة بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية. وعلى الرغم من إقرار صندوق النقد الدولي العملة الصينية (اليوان) كإحدى عملات الاحتياطيات النقدية، وإضافتها إلى سلة العملات المرتبطة بحقوق السحب الخاصة؛ إلا أنها ضمن تشكيل احتياطيات النقد الأجنبي عالميًا لا تمثل سوى ٢ ٪ فقط مقابل ٦٣ ٪ للدولار و٢٠ ٪ لليورو و٤,٩ ٪ للين الياباني، الأمر الذي يؤكد أن العملة الصينية لا تزال بعيدة عن إمكانية منافسة العملات الرئيسية الأخرى، وحتى بالنسبة لنجاح الصين في أن تتخطى مكانة اليابان كثاني أكبر الدول المصدرة عالميًّا، فإن ذلك لا يمكن النظر إليه بمعزل عن نتاج مشروعات الاستثمار الأجنبي التي بدونها ما كان من الممكن أن تتطور الصادرات التي تحققها الصين إلى هذا الحد.
وفي ضوء المحاولات الأمريكية المبذولة لاحتواء تصاعد ثقل الصين دوليًّا، والتي تتزامن مع تصاعد التحديات الداخلية التي تواجهها، سواء تلك المرتبطة باختلال التركيبة السكانية الناجم عن عدم توازن نسبة الذكور للإناث، أو المتصلة بكيفية التعامل مع الأقليات، أو بسبل معالجة اتساع الفجوة في الثروة بين الريف والحضر، وتزايد معدلات الهجرة من المزارع إلى المصانع، فضلًا عن مشكلة المياه القائمة والمتوقع تفاقمها مستقبلًا، وما لحق بسمعة الصين الدولية من أضرار نتيجة للملابسات المتصلة بانتشار فيروس كورونا. وعلى الرغم من التوقعات التي تشير إلى إمكانية تحول الصين إلى قوة عظمى، إلا أنه لا يجب أن يغيب عن أذهاننا أن الصين -وفقًا للعديد من المؤشرات- تأتي ضمن الدول البازغة التي يتصاعد ثقلها الدولي بشكل ملحوظ، وهو أمر يختلف تمامًا عن إمكانيه اعتبارها قوة عظمى قائمة بذاتها حاليًّا، أو أنها ستتخطى مكانة الولايات المتحدة الأمريكية في المستقبل المنظور، فأمام الصين شوط طويل حتى يمكن أن تحقق هذا التطور، وهو ما يتطلب من المتابعين للأوضاع العالمية فهمًا عميقًا لكافة المدخلات التي يمكن أن تؤهل دولة ما للانتقال إلى مكانة القوة العظمى التي لا تتوافر العديد من عناصرها في الصين في المرحلة الحالية، وإن كان من المتصور إمكانية توافرها على المدى الطويل.