يبدد الهجوم العسكري الإثيوبي المتصاعد في إقليم تيجراي شمال إثيوبيا، والقصف والتحركات العسكرية والحشد والتعبئة بين الجانبين، الآمال في إنهاء سريع للصراع بينهما، فضلًا عن تضاؤل فرص التفاوض مما يزيد مخاوف اندلاع حرب أهلية شاملة، لا سيما في ظل اعتقال آلاف المواطنين في جميع أنحاء البلاد، وفرض حالة الطوارئ لمدة ستة شهور في الإقليم المضطرب، وعدم وجود أفق لتحقيق أي من الطرفين انتصارًا واضحًا في المدى المنظور، والخوف من أن استخدام القوة من جانب الحكومة المركزية سوف يسهم في تأجيج النزاعات الانفصالية والصراعات بين مختلف مكونات إثيوبيا المتعددة، لا سيما أن جميعها لديها طموحات انفصالية ونزعات ذاتية. في هذا السياق، يثور تساؤل عن تأثير الصراع في إقليم تيجراي على القوميات الأخرى من حيث ردود فعلها ومدى تأثرها به، وتأثيره على طموحاتها وإمكانية سعيها لتحقيق أهداف ذاتية، أو ربما كبت طموحها في ظل التدخل العنيف من جهة الدولة من أجل إخماد تمرد التيجراي.
أولًا: المواقف المتباينة للجماعات الإثيوبية
منذ الرابع من نوفمبر 2020 لم تتمكن القوات المسلحة الإثيوبية أو جبهة تحرير تيجراي من حسم المعركة لصالحها، في ظل عدم قدرة الحكومة المركزية بعد أكثر من أسبوعين على حسم الصراع مع الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي، فالتراجع أو الانسحاب التكتيكي للتيجراي لوسط الإقليم من المحتمل أن يكون فخًّا للقوات الحكومية من خلال استدراجهم لفرض قتال العصابات وتكتيك الكمائن ومصايد الدبابات للقضاء على الأسلحة والمدرعات والميكانيكية، ومن ثم الانقضاض على تجمعات القوات الحكومية، بالإضافة إلى ذلك سوف تلجأ الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي إلى حرب العصابات من خلال المرتفعات لاستنزاف القوات الحكومية. لا سيما أن الصراع أصبح الآن أكثر تعقيدًا مع اتساع دائرة الاشتباكات لتشمل جماعات أخرى.
1. موقف قومية بني شنقول: بالنظر لعلاقة إقليم بني شنقول جوموز -على سبيل المثال- مع جيرانهم من القوميين الأمهرة، يتضح أنه كان -ولا يزال- لديهم تاريخ طويل من العلاقات المضطربة، لذا اتخذت قيادات بني شنقول موقفًا واضحًا من الأزمة في إقليم تيجراي، حيث تبنى كتابها ومثقفوها خطابًا واحدًا، وانخرطوا في دعم الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي، باعتبارها فرصة ربما لا تتكرر، وفقًا للممثل الدبلوماسي لقومية بني شنقول السيد “نيلسون عبدالناصر”، حيث دعا شعب بني شنقول للخروج من قبضة النظام الحاكم وتحقيق مصيره. في السياق نفسه، نصبت مجموعة مسلحة من بني شنقول كمينًا لناقلة عسكرية تنقل جنودًا من إقليم أمهرة إلى إقليم تيجراي مما أدى إلى مقتل أكثر من 34 شخصًا، وحتى هذه اللحظة لم تتبنَّ حركة تحرير بني شنقول المسئولية عن هذا الهجوم.
وفي تغريدة في مدونة صوت بني شنقول كتب الأستاذ “حسن حامد السيد نور الدين”، أن التعتيم الإعلامي في بني شنقول هو امتداد طبيعي لدولة الاحتلال الإثيوبي لإقليم بني شنقول. وأضاف أن تداعيات الحرب على إقليم تيجراي سوف يستغلها الثالوث المدمر في وصفه لكل من (آبي أحمد، ديمكميي مكونن، تمسجن ترونيه) ضد قوميات الجوموز وبني شنقول، عبر ممارسة انتهاك ممنهج من ضمن الخطة الاستراتيجية لتهجير السكان الأصليين من قراهم في بني شنقول. وأوضح أن هذه الحرب أدت إلى نزوح أعداد كبيرة على الشريط الحدودي للنيل الأزرق في مناطقهم. وطالب “نور” بدور كبير لدول الإيجاد ومجلس السِلم والأمن الإفريقي لتهدئة الأوضاع السياسية والأمنية في إثيوبيا، وتبني مصالحة تفضي إلى سلام شامل بين القوميات المتناحرة.
2. موقف قومية الأورومو: في تغريدة كتبها البروفيسور “مرارا جودينا” -أستاذ العلوم السياسية بجامعة أديس أبابا، وعضو البرلمان السابق، والأمين العام لحزب مؤتمر الأورومو الفيدرالي OFC))- قال: إن ثمن اضطهاد الأوروميين والتيجراويين وظلمهم وإثارة غضبهم باهظة الثمن للغاية تاريخيًّا، وهذه الحقيقة أصبحت واضحة في السياسة التي ينفذها ويتبناها “آبي أحمد”.
ويتهم نشطاء الأورومو المعارِضة حكومة رئيس الوزراء “آبي أحمد” بمحاولة إعادة تأكيد سيطرتها المركزية على أوروميا، ورفض حملتهم من أجل الحقوق الثقافية والحقوق اللغوية، بما يضع مستقبل نظام الفيدرالية الإثنية على المحك. وانتقدت جماعة الأورومو بشدة سياسة الحكومة باستخدامها العنف كفرصة للقضاء على خصومها السياسيين، لا سيما أولئك الذين يمثلون تهديدًا كبيرًا لفرص “آبي أحمد” المستقبلية.
3. موقف القوميات في جنوب إثيوبيا: أما في جنوب غرب إثيوبيا فتترقب القوميات بحذر شديد ما يحدث في إقليم تيجراي، وأيضًا تتخوف من التهديدات التي تحاول قومية (الولايتا) تنفيذها في ظل الأوضاع الداخلية، وإعلان عن إقليم جديد في الجنوب الإثيوبي، وبالتالي تصبح أقاليم الجنوب ثلاثة بدلًا من اثنين.
ومن الواضح أن هناك تباينًا في مواقف الإثنيات الإثيوبية، فمنها من يحاول استغلال الأزمة من أجل تحقيق مكاسب ذاتية وتشجيع عملية تقرير المصير والانفصال، لا سيما في ظل الغبن السياسي والتهميش الذي تعاني منه قوميتا بني شنقول وقومية الأورومو. وهناك من يرى في الأزمة فرصة من أجل الضغط على حكومة “آبي أحمد” من أجل إجراء إصلاحات سياسية، والضغط على حكومته من أجل مزيد من الحقوق لكل من قوميات (ولايتا، غامبيلا، الأنواك، والجوراجي). وهناك من يترقب تطورات الموقف دون الدخول على خط الصراع مثل قومية (العفر، والقومية الصومالية).
ثانيًا: مستقبل الأزمة والدولة في إثيوبيا
يجادل البعض بأن الصراع يمكن أن يضعف الدولة الإثيوبية بشكل كبير، وهو الأمر الذي قد تكون له عواقب إقليمية مدمرة في حد ذاته، لا سيما في تشجيع الجماعات الأخرى في الدولة متعددة الأعراق على مواجهة الحكومة المركزية، ويمكن للصراع في إقليم تيجراي أن يرفع من زعزعة الاستقرار في الأقاليم الأخرى، بفضل البنية الاجتماعية الهشة للقوميات الإثيوبية، وأيضًا بسبب تباعد المناطق عن المركز، بما يجعل المركز غير قادر على السيطرة، وبالتالي يصبح المركز أضعف.
في غضون ذلك، قد تؤدي الأزمة إلى إجبار الآلاف على ترك منازلهم إما بشكل مباشر بسبب الصراع، أو بسبب الخوف من الصراع مما يثير مخاوف من أنه قد يتصاعد إلى حرب أهلية كاملة، ويزعزع استقرار المنطقة التي تعاني فعلًا من هشاشة الأوضاع الداخلية. وفي غضون تلك المعارك نشبت بوادر نزاع بين الحكومة الفيدرالية وحكومة إقليم أمهرة بعد أن قرر حاكم إقليم تيجراي الجديد المعين من قبل “آبي أحمد” تعيين الكوادر الإدارية في المناطق التي انسحبت منها الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي، بينما القوات الأمهرية الخاصة تعتبر تلك المناطق خاصة بها وترفض الانسحاب منها.
من جانب آخر، تعمل الحكومة الإثيوبية على إجراءات قانونية تخولها إخضاع قيادات الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي للمساءلة عن جميع الجرائم التي ارتكبوها طيلة العقود الثلاثة الماضية في إثيوبيا، بالإضافة إلى التخلص من الجبهة الشعبية وتحجيم نفوذها وسطوتها، وشل قدرتها ومنعها من العودة مرة أخرى للحياة السياسية. باختصار فإن التحرك الأحادي الذي تسعى له الحكومة الإثيوبية لإعادة الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي، إلى ما كانت إليه قبل ثلاثة عقود ماضية، يضع البلاد في ورطة كبيرة، بما يعني تبعثر القوميات وإحياء فرضية الانفصال، أو الانتقال إلى مرحلة أخرى وهي بلقنة ونهاية إثيوبيا كدولة للقوميات.
وفي السياق ذاته، دعت الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي، القوميات الإثيوبية وقواتها للانضمام إلى مسار النضال والكفاح المسلح والتمسك بمشروع الفيدرالية الإثنية، والتخلي عن سياسة الحكومة الإثيوبية الرامية إلى الاستبداد، من خلال فرض الرؤية السياسية لحزب “الازدهار”، وهو ما يمكن اعتباره بمثابة رسالة تحذير لبعض قوى المعارضة له في البلاد، تحمل في طياتها تهديدًا صريحًا لمستقبل التعايش السلمي، وإنذارًا مبكرًا بارتفاع وتيرة التجاذبات الداخلية ذات الطابع العرقي والسياسي في إثيوبيا. ولكن إذا تزايدت الضغوطات الخارجية، خاصة في ظل تواجد الفاعلين الإقليميين والدوليين في المنطقة، ربما تدفع تلك الضغوط الحكومة المركزية وإدارة إقليم تيجراي، للوصول إلى تسوية للصراع بينهما.
ثالثًا: دروس مستفادة لمستقبل إثيوبيا
بجانب الآثار السلبية التي قدمها الصراع في إقليم تيجراي حتى الوقت الراهن، يمكن الخروج باثنين من الدروس المستفادة، يشير أولهما إلى أنه عندما يتعلق الأمر بإفريقيا جنوب الصحراء، وحتى الأماكن الأخرى التي تشهد تطورًا ونموًا اقتصاديًا وتغيرًا اجتماعيًا سريعًا، فإن ذلك لا يعني أن هذه الدول قد حققت تقدمًا حقيقيًا في سبيل تحقيق تماسك الدولة، وأن التوترات العرقية والدينية سوف تتلاشى مع التنمية. فعلى سبيل المثال، حققت إثيوبيا باستمرار على مدى السنوات الماضية أفضل معدلات نمو اقتصادي في إفريقيا، ولكن التوترات العرقية ارتفعت بالتوازي مع التحسن الاقتصادي. أما الدرس الثاني فيتعلق باستمرار تأثير الانتماءات الأولية الإثنية والقبلية في صياغة مستقبل الدول الإفريقية في ظل هشاشة الانتماء الوطني للدولة، الأمر الذي يوفر وقودًا مستمرًّا للصراعات في الكثير من الدول، وفي مقدمتها إثيوبيا.