تشهد الساحة اللبنانية تحركات مكثفة على كافة المستويات لإنجاز استحقاق مهم وأساسي وهو إخراج التشكيلة الحكومية للنور، حيث قدم رئيس الوزراء المكلف “سعد الحريري” تشكيلة مقترحة لرئيس الجمهورية العماد “ميشيل عون”، ولا يزال ينتظر موقفه منها خلال الأيام القادمة، بينما تتحرك باقي الأطراف السياسية لإعلان مواقف مُسبقة من شكل الحكومة القادمة، لقطع الطريق على “الحريري” في تقديم تشكيلة حكومية لا تتوافق مع رغبات ورؤى كل الأطراف الوازنة وذات التأثير في الساحة اللبنانية، خاصة الثنائي الشيعي والتيار المسيحي، كما لا تزال تداعيات حادثة المرفأ تلقي بظلالها على مسار الواقع اللبناني، وهناك من يتوقع أن المسار القضائي الخاص بتحقيقات حادثة المرفأ قد يقفز بالوضع اللبناني بعيدًا عن موضوع تشكيل الحكومة، إذا ما ثبت تورط بعض الشخصيات المحسوبة على قوى سياسية معروفة في هذه الحادثة، سواء بالتقصير أو التقاعس عن منعها من الحدوث، والأخطر من ذلك هو أن سقف هذه الاتهامات قد لا يتوقف عند مستوى رئيس الحكومة المستقيل “حسان دياب”، بل قد يصل إلى مستوى رئيس الجمهورية، الذي تتناوله تقارير كثيرة بالإشارة المباشرة تارة وبالتلميح تارة أخرى لمسئوليته عن هذه الحادثة.
إذن، مُلخص الوضع الداخلي في لبنان هذه الأيام وخلال الفترة القصيرة القادمة على أقل تقدير سيظل محكومًا بهذين المسارين: مسار تشكيل الحكومة، ومسار التحقيقات في حادثة المرفأ، والمساران متداخلان بدرجة كبيرة، على الأقل على مستوى التأثير السياسي، الذي سيكون لعنصر الوقت دور حاسم فيه، فإذا ما حُسم ملف التحقيقات بشكل أسرع خلال الفترة القادمة، وتمكن من الوصول لنتائج واضحة بإدانة أو تبرئة بعض الأطراف والشخصيات، فسيكون لذلك بلا شك انعكاس على مسار تشكيل الحكومة، بينما العكس غير صحيح، فإذا ما نجح “الحريري” في تمرير حكومته، وتجاوز الخلافات مع باقي الأطراف السياسية؛ فإن مسار التحقيقات لن يتأثر، فالقضاء اللبناني مشهود له بالنزاهة والاستقلالية، كما أن هذه القضية محل متابعة ليس فقط من الرأي العام اللبناني لكن كذلك من المجتمع الدولي، لتظل لعبة تدوير الزوايا مستمرة على مستوى الداخل اللبناني، انتظارًا للخروج من هذا النفق المظلم.
يقصد بتدوير الزوايا عدم خوض الصراع بصيغة المواجهة، ومحاولة تحاشي الحدية في التعاطي مع الأحداث، وتجنب المقاربات المباشرة، وهو مصطلح يمتلك حقوق الملكية الفكرية له “نبيه بري” زعيم حركة أمل ورئيس مجلس النواب، ويستخدمه الساسة اللبنانيون دائمًا عند تعقد المواقف، سواء كان الموقف من تشكيل حكومة جديدة أو إسقاط حكومة حالية أو مشكلة من المشكلات المستمرة والمتكررة في لبنان. وبالفعل كان لسياسة “تدوير الزوايا” الفضل في حل أزمات كثيرة على مستوى الداخل اللبناني خلال السنوات الماضية، خاصة الأزمات المتعلقة بتشكيل الحكومة، حيث مكنت من تجاوز النكاية السياسية بين القوى السياسية المختلفة، والخلافات حول تفاصيل عديدة مثل الحصص الوزارية لكل طرف وحجم ونوعية الحقائب الوزارية، وحتى الاقتراحات المستحدثة مثل مقترح تبادل الحقائب الوزارية بحيث يحصل كل فصيل سياسي على الوزارة التي يريدها لأسباب بعضها مناطقي وبعضها طائفي وبعضها شخصي. مع ذلك يجمع كثير من المحللين أن أزمة لبنان الحقيقية راجعة إلى سياسة تدوير الزوايا، لأنها سياسة من شأنها العمل على تخطي الخلافات مؤقتًا والدوران حولها دون التوصل إلى حل حقيقي لها، وبالتالي تظل الخلافات موجودة ومستمرة وقابلة للانفجار في أي وقت. وهذا ما يخشى منه على الوضع اللبناني حاليًا، الذي أصبح لا يحتمل مثل هذه السياسات، خاصة الوضع الاقتصادي والمعيشي، الذي أخرج جموعًا من الشعب اللبناني للشارع خلال الأشهر الماضية.
تدوير الزوايا الخارجية ومسار تشكيل الحكومة اللبنانية
بات من المسلم به للمتابعين للشأن اللبناني أن عملية تشكيل الحكومات اللبنانية تخضع عادة لمسايرات خارجية، وأحيانًا لضغوط من أطراف لها مصالح في لبنان، وكل من هذه الأطراف له زاويته التي ينظر منها للوضع اللبناني، وبالتالي من المهم لاستكمال الصورة الخاصة بتشكيل الحكومة اللبنانية النظر إلى زوايا التأثير الخارجي.
فرنسا: تقف فرنسا حاليًّا على رأس الدول المتحكمة في مسار تشكيل الحكومة اللبنانية، من خلال المبادرة التي قدمتها والحراك الكبير للدولة الفرنسية من خلال الرئيس “ماكرون” الذي زار لبنان مرتين في أقل من شهرين، وينتظر أن يزور بيروت للمرة الثالثة بعد حادثة المرفأ نهاية هذا الشهر، حيث وجه “ماكرون” رسائل واضحة وشديدة اللهجة للقوى السياسية في لبنان، للإسراع في تشكيل حكومة لإنقاذ الموقف والاستجابة لتوجهات الشارع اللبناني، وحتى الآن لا يزال مصير المبادرة الفرنسية غير معروف، هل ستنجح في الضغط لتشكيل حكومة وفق هذه المبادرة، وبالتالي تستعيد زمام المبادرة في الواقع اللبناني، بما ينعكس على حجم وثقل الدور الفرنسي ليس فقط في لبنان بل في ملفات أخرى وعلى رأسها الملف الإيراني والسوري؟.
الولايات المتحدة/ إسرائيل: اللاعب الأمريكي ومن خلفه ومن أمامه أحيانًا إسرائيل، يتعاملون مع لبنان من عدة زوايا، ارتباطًا برؤيتهم للبنان على أنها إحدى ساحات المواجهة الحالية مع إيران، علاوة على ملف الغاز في شرق المتوسط، ونصيب لبنان منه، والنزاع القائم بين لبنان وإسرائيل حول تحديد الحدود البحرية، والذي تلعب فيه الولايات المتحدة دور الوسيط، والاشتباكات العسكرية المتكررة مع “حزب الله” في مناطق الحدود المشتركة، وبالتالي فإن رؤيتهم لملف تشكيل الحكومة في لبنان تأتي ضمن هذا المنظور، وبلا شك فإن الولايات المتحدة وإسرائيل لن يكونوا راغبين في رؤية حكومة في لبنان يتحكم فيها “حزب الله”، خاصة في بعض الوزارات السيادية، وقد يكون من مصلحتهم الإبقاء على حالة الفراغ الحالية، بما يضعف موقف لبنان التفاوضي في ملف الغاز وترسيم الحدود. وحتى الآن لا يزال الموقف الأمريكي من أزمة تشكيل الحكومة غير واضح، بالنسبة لعدم وضوح حجم التغيير الذي حدث بعد الإعلان عن اتفاق الإطار للتفاوض حول ترسيم الحدود، وقراءة اتجاه هذا التغيير، بالنسبة لموقف الولايات المتحدة، وهل لا تزال متمسكة بالفيتو الذي يعتقد كثيرون أنه تسبب في إرباك المبادرة الفرنسية وأضعف من فرصة “مصطفى أديب”.
روسيا: أكدت روسيا على مستوى وزارة الخارجية ولقاءات السفراء، خاصة مع الجانب الفرنسي، على ضرورة تشكيل حكومة في أسرع وقت وأهمية التنسيق للدفع في هذا الاتجاه وعدم إضاعة الوقت، وأكّدت أيضًا دعمها المبادرة الفرنسية. ومن الواضح أن هناك تنسيقًا فرنسيًا – روسيًا مشتركًا في ملف تشكيل الحكومة في لبنان، وهدف فرنسا هو الاستفادة من هذا التنسيق نظرًا إلى ما للروس من تأثير على مختلف القوى المحلية انطلاقًا من العلاقات الجيّدة التي تجمع موسكو بالفرقاء السياسيين، وفي الوقت نفسه قدرتها على التأثير على موقف إيران. ولا ننسى أن نشير إلى أن مكانة لبنان الاستراتيجية تزايدت في السياسة الروسية في الشرق الأوسط، خاصة بعد 2015، فالوجود العسكري الروسي في سوريا استلزم تعاونًا ما في فترة من الفترات مع “حزب الله” والجماعات التي ساندت النظام السوري ضد المجموعات المسلحة، خاصة التابعة لإيران، وإن ظل هذا التعاون في إطار محكوم بتفاهمات وتنسيق أمني واستخباراتي مع إسرائيل والولايات المتحدة. وهذا أيضًا مكسب إضافي للروس.
إيران: هناك دور غير مباشر لإيران في توجيه مسار عملية تشكيل الحكومة في لبنان، وهذا ليس باستنتاج جديد، إذ جرى اختباره خلال الحكومات السابقة، وتأكد للكافة أن “حزب الله” (حليف إيران في الداخل اللبناني) هو فرس الرهان في عملية تشكيل الحكومة، واللاعب الوحيد الذي يحتفظ بقوة عسكرية مستقلة، يُلوح بها عند الضرورة، ويفرض لنفسه قواعد حركة مستقلة نسبيًا عن الدولة اللبنانية، خاصة فيما يتعلق بالتحكم في مستوى الصراع مع إسرائيل. وإيران من جانبها تتعامل مع ملف الحكومة اللبنانية ضمن ملف تعاملها مع من يجلس في البيت الأبيض، فلبنان ورقة ضغط مهمة لإيران، والمساعدة الإيرانية في إنجاح جهود تشكيل الحكومة قد تكون ورقة تكتيكية جيدة يمكن لطهران تقديمها للإدارة الأمريكية الجديدة، أو حتى للفرنسيين في مرحلة معينة، تجدها مناسبة في لعبة التفاوض المتوقعة مع إدارة “بايدن”.
مصر: وهي من الدول المؤثرة في الساحة اللبنانية تاريخيًا، والخط السياسي المصري معروف بدعم الاستقرار في لبنان بشكل أساسي، وعدم التدخل في شئونه الداخلية، ومصر لا تألو جهدًا عبر علاقاتها مع القوى الكبرى في حشد الدعم المطلوب لتحقيق الاستقرار للبنان، ولقد كانت زيارة الرئيس “السيسي” الأخيرة لفرنسا أكبر دليل على ذلك، حيث كان الملف اللبناني حاضرًا في المناقشات بين الزعيمين المصري والفرنسي، وتم التأكيد فيها على وحدة واستقرار لبنان ومنع التدخل الخارجي في شئونه، وتكتسب إشارة الرئيس “عبدالفتاح السيسي” إلى “عدم التخلي عن لبنان” في المؤتمر الصحفي المشترك الذي عقده مع نظيره الفرنسي “إيمانويل ماكرون” في باريس أهمية كبيرة في هذه الظروف، وكذلك إعلان الرئيس “السيسي” دعم مصر للمبادرة التي يقوم بها الرئيس الفرنسي تجاه لبنان، مما يشكل أعلى مستوى من الدعم العربي للمبادرة بحكم ثقل مصر الإقليمي.
السعودية: داعم مهم لاستقرار لبنان تاريخيًا، ولها أيضًا نفوذ خاصة مع التيار السني ممثلًا في تيار المستقبل، غير أن السعودية لم تكن راضية خلال السنوات الماضية عن سياسة “سعد الحريري” التقاربية مع “حزب الله” وإيران، فالسعودية لا تريد أن ترى إيران في لبنان، الحليف الأقرب لها لسنوات، بينما “سعد الحريري” لا يزال مستمرًّا في استخدام سياسة تدوير الزوايا مع “حزب الله”، حيث لا بديل آخر أمامه سوى الاصطدام الذي سيخسر معه لبنان كل شيء.
مُلخص زوايا التأثير الخارجي على عملية تشكيل الحكومة يقود إلى القول إن “اللاعب الفرنسي ليس وحده المتحكم في مسار الأزمة الراهنة في لبنان -التي لا تقتصر بالمناسبة على أزمة تشكيل الحكومة فقط، بل تشمل ملفات وقضايا أخرى عديدة لا يتسع المجال للتطرق لها- بل أيضًا على مستوى أزمة تشكيل الحكومة، فإن فرنسا ليست اللاعب الوحيد في هذا المسار، فهناك دول أخرى تنظر بزوايا مختلفة، بعضها يتوافق مع الرؤية الفرنسية مثل روسيا والاتحاد الأوروبي ومصر وبعض دول الخليج، وهناك دول لها اتجاهات بعيدة نسبيًا عن الرؤية الفرنسية، التي تُلح وتستعجل تشكيل الحكومة في أسرع وقت، مثل الولايات المتحدة وإيران وإسرائيل.
رؤية مستقبلية
يُمكن إجمال السيناريوهات المستقبلية في ثلاثة سيناريوهات رئيسية، تشمل:
السيناريو الأول- تأجيل التشكيل الحكومي لما بعد رحيل إدارة “ترامب”، حتى وقت كتابة هذا التقرير، لا تزال كل المؤشرات تؤكد أن المحاولات الخاصة بإظهار تشكيلة الحكومة للنور تراوح مكانها، فبرغم قيام الرئيس المكلف “سعد الحريري” بتقديم تركيبة كاملة إلى قصر بعبدا، مؤلفة من اختصاصيين ذوي خبرة، غير حزبيين، وتلاقي حسب مصادر من تيار المستقبل الحدود الممكنة لمتطلباتِ المبادرة الفرنسية، لكن لا يبدو أن الأمور ستشهد نتائج إيجابية على الأقل قبل الزيارة التي سيقوم بها الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” مجددًا إلى بيروت في 21 ديسمبر الجاري، وهو ما سيؤدي إلى إطالة أمد الشغور الحكومي. وهو ما ينسجم مع رؤية “حزب الله” الذي يفضل ألا تشكّل الحكومة خلال هذه الفترة انتظارًا لوضوح الرؤية حول كيفية تعاطي الإدارة الأمريكية الجديدة معه ومع الملف الإيراني ككل، وتوقعًا من جانب “حزب الله” لموقف أمريكي أكثر مرونة في التعاطي مع أي حكومة تضم ممثلين لحزب الله.
السيناريو الثاني- النجاح في تشكيل الحكومة بضغوط فرنسية وأمريكية وبدعم مصري: يقوم هذا السيناريو على رؤية مفادها أن هناك ضغطًا أمريكيًّا من إدارة “ترامب” على “الحريري” وعلى الرئيس “عون” وكل الأطراف اللبنانية من أجل الانتهاء من تشكيل الحكومة قبل وصول “جو بايدن“، تحسبًا لموافقة “بايدن” على تشكيل حكومة يكون لـ”حزب الله” فيها قوة ونفوذ معين، خاصة في ملف الطاقة، الذي يهم إسرائيل بالأساس في هذه المرحلة، ضمن تسويات جزئية متوقعة مع إيران. كذلك ووفق هذا السيناريو قد يكون هناك ضغط فرنسي لمحاولة إنقاذ المبادرة الفرنسية، بما يعيد لفرنسا دورها المعهود في الملف اللبناني، بما يعود لفرنسا من مكاسب وانعكاسات وتداعيات على وضعها بالمنطقة، من العلاقة مع إيران إلى العلاقة مع إدارة “بايدن”، وتثبيت فرنسا لنفوذها في لبنان وقدرتها على التأثير والتقرير. ومما سيساعد على هذا السيناريو الضغط العربي والخليجي، خاصة من جانب مصر التي كانت مواكبة للمبادرة الفرنسية وشريكة فيها، واستمرت في مساعيها مع القوى اللبنانية ومع الفرنسيين، في محاولة لإيجاد صيغة يتوافق عليها الجميع، وهو ما برز في زيارة الرئيس “السيسي” الأخيرة لباريس.
السيناريو الثالث- المراوحة وفشل “الحريري”، وهو أضعف السيناريوهات، فالواقع اللبناني الاقتصادي بالأساس لا يتحمل هذه المخاطرة، التي قد تقود لخروج اللبنانيين للشارع مرة أخرى، خاصة أن الشارع اللبناني معبأ بعد حادثة المرفأ، وينتظر من القوى السياسية أن تكون بقدر المسئولية. مع ذلك قد يحدث هذا السيناريو بسبب إصرار الثنائي الشيعي، “حركة أمل” و”حزب الله”، على الحصول على وزارة المال وتسمية وزيرها وسائر الوزراء الشيعة، فيما يصر رئيس الحكومة على المداورة الشاملة في الحقائب، بدءًا بالمال، وأيضًا على تولي اختيار وزراء الثنائي الشيعي واختيار الوزراء السنّة والمسيحيين والدروز.