أصبح القطاع غير الرسمي أحد شواغل الدولة في فترة ما بعد برنامج الإصلاح الاقتصادي. حيث بدأت تُشكل المُبادرات وتُعيد صياغة القوانين لتحويله إلى الرسمية، ولعل أبرز الجهود في ذلك المجال هي مُبادرة الشمول المالي التي أطلقها البنك المركزي بهدف مد التغطية المصرفية لعدد أكبر من الأعمال بما يضمها إلى القطاع الرسمي. من جانب آخر صدر قانون تنمية المشروعات المتوسطة والصغيرة رقم 152 لسنة 2020 الذي قدم صياغة جديدة لمفهوم الأعمال الصغيرة والمتوسطة تعتمد على حجم الأعمال إضافة إلى المفهوم الذي قدمه القانون القديم 141 لسنة 2004 مُعتمدًا على معيار رأس المال وعدد العاملين، علاوة على مجموعة ضخمة من الحوافز الضريبية وغير الضريبية تُساعد في ضم شريحة أخرى من القطاع غير الرسمي. ولم تتوقف جهود الدولة على هذا المستوى الكُلي بل ذهبت إلى مُستويات جُزئية أدق، مثل إعادة تقديم المنظومتين الضريبية والجمركية بشكل يُحكم الرقابة بما يدعم الجهود التحفيزية السابقة.
يُظهر تنوع الأدوات التي تستخدمها الدولة لضم قدر ما تستطيع من القطاع غير الرسمي، أهميته للإيرادات العامة للدولة التي تتمحور أساسًا حول الإيرادات العامة، بما يجعل كُل زيادة في الحصيلة الضريبية تُسفر عن خفض مُعتبر في العجز الكُلي للموازنة. وتزداد هذه الأهمية في ضوء ضخامة الاقتصاد غير الرسمي نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي، مما يجعل كُل جُهد لضم شريحة منه ولو بسيطة، فائدة ضخمة للاقتصاد المصري، لذلك يهدف المقال أولًا إلى استيضاح حجم القطاع غير الرسمي، ثم التأثير المتوقع لضمه على المالية العامة.
أولًا – وضع المُنشآت الصغيرة والمتوسطة في الاقتصاد المصري
لابد أولًا من الإشارة إلى أن التعداد الاقتصادي لعام 2017/2018 الصادر في إبريل 2020، يُظهر سيطرة نشاط تجارة الجُملة والتجزئة على مُنشآت القطاع الخاص في إجمالي الجمهورية، بعدد 2.178 مليون مُنشأة وذلك بنسبة 58% من إجماليها، حيثُ بلغ إجمالي العدد نحو 3.742 مليون مُنشأة، تتخذ مُعظمها في الشارع المصري شكل محال وأكشاك البقالة، والخردوات، والجزارة وغيرها… فيما حل بعد ذلك نشاط الصناعات التحويلية بنسبة 14% تقريبًا وبعدد يبلغ 523 ألف مُنشأة، شكلت المُنشآت التي يعمل بها عامل واحد فقط نحو 30%، والمنشآت التي يعمل بها عاملين اثنين نحو 37%، فيما شكل إجمال المُنشآت التي يعمل بها أقل من 10 مُشتغلين أكثر من 97% من جُملة المُنشآت، الأمر الذي يعني بوضوح تام أن مُنشآت القطاع الخاص في غالبها الأعظم تميل لتكون مُنشآت صغيرة ومُتناهية الصغر، وفقًا لتعريف القانون 141 لسنة 2014 السابق الإشارة إليه، والذي كان يعتبر المُنشآت التي يعمل بها أقل من 50 عاملًا مُنشآت صغيرة، ويوضح الشكل التالي توزيع مُنشآت القطاع الخاص وفقًا لعدد العُمال:
شكل 1 – توزيع مُنشآت القطاع الخاص وفقًا لعدد العاملين.

من جانب آخر عمل بهذه المُنشآت نحو 12.5 مليون عامل، يتقاضون 266.07 مليون جنيه، نحو 67.3% منهم يعمل في مُنشآت يعمل بها أقل من 10 عُمال ويتقاضون 30% من الأجور، و25% منهم في مُنشآت يعمل بها أقل من 800 عامل يتقاضون نحو 44.8% من جُملة الأجور. بالإضافة إلى ذلك تُنتج المُنشآت الصغيرة ذات عدد العُمال أقل من 10 نحو 26% من جُملة إنتاج القطاع الخاص، فيما ترتفع هذه النسبة إلى 47.7% إذا ما أضفنا إليه المُنشآت أقل من 100 عامل، الذي يضيف بُعدًا جديدًا من الأهمية لقطاع الشركات الصغيرة والمتوسطة، ويوضح الشكل التالي توزيع الأجور ونسبة المُشتغلين في مُنشآت القطاع الخاص:
شكل 2 – يوضح توزيع مُنشآت القطاع الخاص وفقًا لعدد العاملين وأجورهم

تتجلى أهمية الشركات الصغيرة والمتوسطة كذلك عند النظر إلى مُنشآت القطاع الخاص من زاوية القيمة المُضافة، حيث ترتفع مُساهمة المُنشآت التي يعمل بها عدد أقل من عشرة عُمال إلى 33% من إجمالي مُساهمة مُنشآت القطاع الخاص، يُضاف إليها 5% أخرى من المُنشآت التي تُشغل ما بين 10: 19 عامل، الأمر الذي يعني أن 38% من جُملة القيمة المُضافة للقطاع الخاص تأتي من مُنشآت يعمل بها أقل من 20 عامل. جانب آخر لابد من تركيز الضوء عليه وهو مقدار التكوين الرأسمالي للمُنشآت السابق الإشارة إليها والذي يعني صافي تراكم رأس المال خلال فترة محاسبية لمُنشأة معينة، ويشير إلى إضافات رأس المال، مثل المعدات والأدوات وأصول النقل والكهرباء، وهنا سنجد أن هذه المُنشآت تُعاني بشدة، حيث أن نسبة المُنشآت التي ساهمت بأكبر قدر من القيمة المُضافة أضافت أقل قدر من التكوين الرأسمالي، فجُملة الإضافة للمُنشآت التي تعمل بأقل من 20 عامل كونت ما نسبته 9.7% من جُملة رأس المال المُتراكم، وعند إضافة جميع المُنشآت التي تُشغل ما بين 20 و99 عامل سنجد أننا أضفنا فقط 5.6%، بينما تركزت التكوينات الرأسمالية في الشريحة من المُنشآت التي تُشغل ما بين 100 إلى 399 عامل وذلك بنسبة 53.9% من الإجمالي، ويوضح الشكل التالي توزيع نسب التكوين الرأسمالي على المُنشآت من حيث عدد العُمال:
شكل 3 – يوضح توزيع نسب القيمة المُضافة من مُنشآت القطاعات الخاصة وفقًا لعدد المُشتغلين

تٌشير الأرقام السابقة إلى حقيقتين في غاية الأهمية، أولها الانتشار الواسع للمشروعات الصغيرة والمتوسطة في طول القطاعات الإنتاجية بكافة أشكالها. وثانيًا أن إيرادات هذه الأنشطة توجه للإنفاق الاستهلاكي لأصحابها مما يُصعب للغاية من عملية التكوين الرأسمالي، ولذلك جاءت مُشاركتها مُتدنية للغاية في تكوينه رغم أنها الأعلى في إضافة القيمة. الأمر الذي يعني بالتبعية، أنها غير قادرة على النمو، وأن أدوات إنتاجها ستتقادم تحت تأثير عنصر الزمن والتطور التكنولوجي، وهو ما سينعكس سلبًا على مؤشرات الاقتصاد الكُلي بداية من مُعدلات النمو الاقتصادي ومستويات التشغيل، بالتالي كان لابد من توفير دعم لهذه المشروعات يأتي أولًا في صورة توفير التمويل اللازم لها حتى ترفع من قُدرتها على التكوين الرأسمالي، ومن ناحية أخرى عدم الجور على إيراداتها بحيث يجري إفساح المجال لها لتنمو حتى يشتد عودها، وتصبح قادرة على النمو اعتمادًا على ذاتها. ولذلك جاءت سياسة الدولة التحفيزية على طرفي السياسة النقدية والمالية بحيث يوفر النظام المصرفي، قروضًا مُنخفضة التكلفة للمُساعدة في رفع التكوين الرأسمالي، بينما يأتي النظام الضريبي مُحددًا ومُختصرًا للغاية عند مُخاطبتها، وهو ما تحقق فعلًا حيث حدد القانون الجديد حصة ضريبية مُحددة لشرائح أرباح مُحددة سلفًا.
ثانيًا- أهمية اجتذاب أكبر قدر من المشروعات الصغيرة والمتوسطة للاقتصاد الرسمي
لعله من الدارج بين كُتاب الاقتصاد الكُلي إبراز أهمية تحويل القطاع غير الرسمي إلى رسمي، في جميع الاقتصادات باختلاف موقعها على سلم التقدم أو مرتبة نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، إلا أن هذا التحويل يتخذ بُعدًا شديد المحورية إذا كان محور الحديث هو الاقتصاد المصري، وذلك لعدة أسباب أهمها:
موقع الضرائب من الإيرادات العامة:
تُبلغ الإيرادات المتوقعة في الموازنة العامة للعام المالي 2020/2021 نحو 1.28 تريليون جنيه، تأتي من عدد كبير من المصادر أهمها الضرائب بنحو964.7 مليار جنيه، عوائد الملكية بنحو 108.6 مليارًا، ثم حصيلة بيع السلع والخدمات التي تقارب 69.2 مليار جنيه، وأخيرًا المنح التي تُشكل نحو 2.2 مليار جنيه، ولذلك تتبوأ الضرائب العامة مكانة الصادرة بين جميع موارد الدولة وذلك بنسب من المتوقع أن تجاوز في العام المالي الجاري نحو 75% من جُملة الإيرادات، واتجهت هذه الإيرادات إلى النمو خلال السنوات الخمس الأخيرة لترتفع من مُستوى 65% إلى 75% من جُملة الإيرادات، وهو ما يعني أن الزيادة في الحصيلة الضريبة تؤثر بشد على نسب العجز، بالتالي فإنه كُلما نجحت الدولة في ضم عدد أكبر من المشروعات الصغيرة والمتوسطة في القطاع غير الرسمي إلى القطاع الرسمي كُلما أدى ذلك إلى ارتفاع الحصيلة الضريبية وهو ما ينعكس على مُعدلات العجز، ويوضح الشكل التالي تطور الحصيلة الضريبية بالنسبة لمُجمل الإيرادات كرقم مقطوع وكنسبة:
شكل 4 – يوضح تطور الحصيلة الضريبية ونسبتها إلى الإيرادات العامة

الهيكل الضريبي:
يُقصد بالهيكل الضريبي، مكوناته من حيث مصادر الضريبة، ويميل الهيكل الضريبي المصري إلى الاعتماد بشكل كبير على ضريبة القيمة المُضافة وهي ضريبة تُفرض على واقعة الاستهلاك، وتُحصل من المُمول على أرباحه مما أضافه من قيمة. وقد شكلت ضريبة القيمة المُضافة في العام المالي (2018/2019) وهو أخر رقم مُعلن نحو 350 مليار جنيه من إجمالي 770 مليار حنيه، هي جُملة الحصيلة الضريبية في ذات العام. يأتي ذلك في حين تُخلق 38% من القيمة المُضافة لدى مُنشآت القطاع الخاص في شركات صغيرة ومتوسطة، وهي شركات -كما سنوضح لاحقًا- يقع مُعظمها في القطاع غير الرسمي. ومما يزيد من أهمية هذه الشركات أن المصدر الثاني للحصيلة يأتي من أرباح الشركات والذي بلغ في 2018/2019 ما إجماليه 162.8 مليار جنيه، وقد اتضح سابقًا أن نحو 97% من جُملة المُنشآت في القطاع الخاص المصري هي مُنشآت يعمل بها أقل من 10 عُمال، ويوضح الشكل التالي الهيكل الضريبي الأساسي:
شكل 5 – يوضح الهيكل الضريبي الأساسي

نحو نصف المُنشآت المصرية خارج نطاق الاقتصاد الرسمي:
مع الأهمية البالغة للحصيلة الضريبية المُعتمدة على نشاط المُنشآت، تقع مُعظم المُنشآت المصرية خارج نطاق الاقتصاد الرسمي، وهو ما يُمكن تأكيده من خلال التعداد الاقتصادي للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء لعام 2017، والسابق مُباشرة على التقرير الذي استند عليه المقال الماثل حيث تبين أنه من بين 2.27 مليون مُنشأة في ذلك العام، امتلك 1.09 مليون مُنشأة فقط سجل تُجاري، بينما 1.17 مليون مُنشأة ظلت خارج التغطية، وهو ما يعني أن جزُء مُعتبرًا منها غير مرئي بالنسبة للإدارة الضريبية، والوضع أشد سوءً حين يتعلق الأمر بالرقم التأميني، حيث سجلت 807 ألف مُنشأة فقط، بينما ظلت 1.46 مليون مُنشأة خارج نطاق التغطية التأمينية، وعند تراكم العوامل الثلاثة السابقة يتضح ضياع مبالغ ضخمة سنويًا من الحصيلة الضريبية المُستحقة نتيجة بقاء هذه المُنشآت خارج الإطار الرسمي.
لذلك فإن جُملة القول فيما سبق، هو أن عملية ضم قطاع الشركات الصغيرة والمتوسطة أصبحت ضرورة متبادلة بين الدولة وهذه المؤسسات إذ أنه في نمو هذه المؤسسات حفاظ على مُعدلات نمو الاقتصاد المصري ورفع مُعدلات التشغيل، في ظل تركز الاستثمار الأجنبي المُباشر في قطاع النفط، واتجاه الاستثمارات المحلية الضخمة إلى قطاعي التشييد والسياحة. وثانيًا رفع للحصيلة الضريبية التي تعتمد أساسًا على ضريبة القيمة المُضافة والضريبة على أرباح الشركات، وهو ما سيُقلل عجز الموازنة العامة للدولة، ويرفع قُدرات الدولة على توجيه المزيد من إيراداتها للاستثمار. أما الشركات الصغيرة والمتوسطة ذاتها فستستفيد من قُدرات النظام المصرفي الضخمة التي ستساعدها على النمو عبر تطوير الأدوات الإنتاجية، ومن جانب آخر ستحصل على مزايا ضريبية وغير ضريبية مُقدمة من وزارة المالية تُساعدها على الصمود والنمو لفترات طويلة في المُستقبل.