ترجع فكرة إنشاء مدارس المتفوقين في العلوم والتكنولوجيا إلى بداية الألفية حين أدرك المعنيون بالسياسة التعليمية في الولايات المتحدة انخفاض مستوى الطلاب الأمريكيين في العلوم والرياضيات مقارنةً بنظرائهم في الدول الصناعية الأخرى وفقًا لنتائج الاختبارات الدولية، الأمر الذي فرض مزيدًا من التركيز على مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (SMET)، الاختصار الذي تحول بعد ذلك إلى (STEM)، واعتماد المعايير الواجب اتباعها عند تدريس هذه المجالات للطلاب في جميع المراحل التعليمية بهدف الوصول إلى مستويات أكاديمية أفضل، وقد يكون ذلك هو نفس السبب الذي دفع وزارة التربية والتعليم المصرية إلى تبني التجربة نفسها والبدء في تطبيقها منذ عام 2011 ليصل عدد هذا النوع من المدارس إلى 19 مدرسة في المحافظات المختلفة خلال العام الدراسي الجاري.
تطور مدارس STEM على مدار عشر سنوات
أنشأت وزارة التربية والتعليم أول مدرسة للمتفوقين في العلوم والتكنولوجيا (STEM) في مدينة السادس من أكتوبر بموجب القرار الوزاري رقم (369 لسنة 2011) بهدف رعاية الموهوبين والمتفوقين، والاهتمام بقدراتهم وتطوير استخدام أساليب تكنولوجيا المعلومات لتطوير العملية التعليمية، على أن تكون هذه المدارس صيغة جديدة للإصلاح من خارج المنظومة التقليدية للتعليم تتيح لطلابها تعليمًا متميزًا بغض النظر عن خلفياتهم الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، واستوجبت التجربة أن تكون هذه المدارس داخلية، لأن الطلاب الملتحقين بها من محافظات مختلفة.
وفي غضون أقل من عام، وبدعم كامل من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)، تم افتتاح المدرسة الثانية من مدارس المتفوقين في العلوم والتكنولوجيا في المعادي؛ وكانت مدرسة للبنات نظرًا لأن المدرسة الأولى كانت للبنين؛ وبغرض تقديم مساعدة حقيقية لوزارة التربية والتعليم للمضي قدمًا في هذا المشروع، وقعت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية اتفاقية مدتها 4 سنوات مع مؤسسة World Learning الأمريكية بقيمة 25 مليون دولار لتقديم الدعم اللازم لوزارة التربية والتعليم المصرية في أغسطس 2012، وقد تم زيادة هذه القيمة لتصل إلى 30 مليون دولار بعد مد الاتفاقية عامًا آخر لتنتهي في 2017 بدلًا من 2016.
وعلى الرغم من أن أحد أهداف الوكالة الأمريكية تمثل في إنشاء 3 – 5 مدارس جديدة للمتفوقين طوال مدة الاتفاقية، إلا أن وزارة التربية والتعليم تمكنت من إنشاء تسع مدارس قبل بدء العام الدراسي 2015/2016، لتثبت هذه المدارس تواجدها في محافظات (القاهرة، الجيزة، الإسكندرية، أسيوط، الأقصر، البحر الأحمر، كفر الشيخ، الدقهلية، الإسماعيلية)، وبحلول العام الدراسي 2016/2017 افتتحت الوزارة مدرستين جديدتين في الغربية والمنوفية، ومع بدء العام الدراسي 2018/2019 ارتفع العدد إلى 14 مدرسة للمتفوقين بعد إضافة ثلاث مدارس في محافظات (القليوبية – الشرقية – قنا)؛ ورغم توقف دعم الوكالة الأمريكية لهذا المشروع استمرت وزارة التربية والتعليم في افتتاح عدد من مدارس المتفوقين ليصل العدد الإجمالي إلى 19 مدرسة بإضافة خمس مدارس في (بني سويف – المنيا – سوهاج – الفيوم – السادات) في 2020/2021.
تنافسية مدارس المتفوقين تضمن استمراريتها
تتمثل الأسس العامة لبناء الميزة التنافسية في المؤسسات التعليمية في الكفاءة، والجودة، والتحديث والإبداع، والاستجابة لحاجات التلاميذ والمعلمين، وقد نجحت مدارس STEM في مصر على مدار عشر سنوات في تحقيق ميزة تنافسية مكنتها من الاستمرار والنمو وجذب أعداد أكبر من التلاميذ في كل عام، حيث كان عدد الطلاب المقبولين في أول مدرسة 150 طالبًا فقط في 2011، واستمر هذا العدد في النمو إلى أن بلغ 1950 طالبًا وطالبة في 2021.
ويرجع النمو الذي حققته مدارس STEM على مدار العشر سنوات الماضية إلى ثلاثة أسباب رئيسية، هي:
- جودة التعليم وانخفاض التكلفة:
ترتكز فلسفة مدارس STEM على تدريس العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات بطريقة تكاملية للتغلب على ضعف مخرجات التدريس المنفردة للمجالات الأربعة والارتقاء بمستوى مهارات الطلاب ودعم قدرتهم على الابتكار من خلال اعتماد المنهج القائم على المشروعات الذي يطور المهارات البحثية عند الطلاب، وينمي قدرتهم على حل المشكلات واتخاذ القرار. ولا يقتصر الأمر على المنهج فقط، وإنما يمتد لنوعية المعلم الذي يقوم بالتدريس في هذه المدارس، حيث يتم الاستعانة بأكفأ المعلمين العاملين في وزارة التربية والتعليم وتدريبهم بشكل مكثف على نظام STEM قبل البدء في العمل، كما أن عملية التقييم لا تعتمد على الامتحانات التحريرية فقط، ولكن يتم تقسيم الدرجات إلى 30% للاختبار التحريري، و60% للمشروع Capstone، و10% لأداء الطلاب والمواظبة أثناء الدراسة.
الأمر الآخر الذي يساعد مدارس STEM على تقديم خدمة تعليمية جيدة هو أنها مدارس داخلية يقيم فيها الطلاب طوال أيام الدراسة، وتضم قاعات للاستذكار وملاعب ومعامل ومطاعم لضمان بيئة تعليمية متكاملة تراعي نمو شخصيات الطلاب من جميع جوانبها؛ بالإضافة إلى حصول كل طالب على “لابتوب” عند التحاقه بالصف الأول الثانوي لتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص بين جميع الطلاب.
أما فيما يتعلق بميزة التكلفة الأقل، فتقدم وزارة التربية والتعليم الخدمة التعليمية في مدارس STEM لطلاب المدارس الحكومية بمصروفات دراسية رمزية تبلغ “ألف جنيه” لكل عام دراسي، في حين تبلغ المصروفات لطلاب المدارس الدولية الراغبين في الالتحاق بمدارس STEM 30 ألف جنيه، كما يسدد جميع الطلاب مبلغًا ماليًا قدره 3 آلاف جنيه رسوم تأمين للحصول على اللابتوب. وفي كل الأحوال، تعد الرسوم الدراسية المنخفضة وجودة الخدمة التعليمية التي تقدمها هذه المدارس بما يلبي احتياجات الطلاب وأولياء أمورهم هو ما منحها ميزة تنافسية ضمنت استمرارها وتطورها.
- المشاركات الدولية:
تتيح مدارس STEM الفرصة لطلابها للمشاركة بشكل دائم في مسابقات دولية بما يفتح المجال أمامهم للاحتكاك بنظرائهم من ثقافات ونظم تعليم مختلفة واكتساب مهارات وخبرات تمكنهم من تحسين مستوى تنافسيتهم في المستقبل، ولعل أبرز هذه المسابقات هو المعرض الدولي للعلوم والهندسة ISEF الذي يتنافس في مرحلته الأولى آلاف الطلاب على المستوى المحلي بمشروعات مبتكرة، ليتأهل الفائزون بها لتمثيل مصر في المرحلة النهائية التي يتم تنظيمها في الولايات المتحدة، وقد فاز 115 طالبًا من طلاب مدارس STEM حتى فبراير 2017 بجوائز ومراكز متقدمة في المسابقات المحلية والدولية. وفي 2021، فازت 3 مشروعات مبتكرة لثلاث فرق مصرية بجوائز تميز في النسخة الأخيرة للمعرض.
إضافةً إلى المعرض الدولي ISEF، فقد شارك 531 طالبًا من مدارس STEM المصرية في مسابقة “كانجارو” العالمية في الرياضيات التي تشارك بها 87 دولة بعدد يصل إلى 6 ملايين طالب للمرة الأولى في 2019، حيث فاز 135 طالبًا منهم بالميدالية الذهبية وعضوية نادي كانجارو، كما حقق طلاب الصفين العاشر والحادي عشر المراكز الأولى في اختبارات أعلى مستويين من مستويات المسابقة الستة.
- المنح الدراسية لاستكمال الدراسة الجامعية:
ميزة أخرى يتمتع بها طلاب مدارس STEM هي إمكانية حصولهم على منح دراسية، سواء في الجامعات الدولية داخل مصر أو خارجها. فبحلول 2017، كان 45 طالبًا من طلاب هذه المدارس قد حصلوا على منحة دولية أو شاركوا في برنامج للتبادل الطلابي. وفي 2018 فقط، حصل حوالي 20 طالبًا على منح دراسية في جامعات خارج مصر، بالإضافة إلى 43 منحة في الجامعة الأمريكية و10 منح في الجامعة البريطانية و60 في جامعات النيل واليابانية والأكاديمية البحرية. إضافةً إلى ذلك، قدمت وزارة التعليم العالي خلال العام الدراسي الحالي 119 منحة لطلاب مدارس STEM للدراسة في الجامعات الحكومية بنظام الساعات المعتمدة، في حين استمرت الجامعة البريطانية والأكاديمية البحرية في تقديم المنح لهؤلاء الطلاب.
معوقات أمام استمرار نجاح التجربة
يبدو أن تأثيرات التوسع في عدد مدارس المتفوقين لم تكن إيجابية في بعض الجوانب، حيث انطوت على عدد من التأثيرات السلبية، وظهرت بعض المعوقات التي أدت إلى تعالي أصوات بعض الطلاب وأولياء الأمور عسى أن تستجيب الوزارة لمطالبهم فيما يتعلق ببعض المشكلات، ومنها:
- المركزية في توزيع الطلاب: على الرغم من زيادة عدد المدارس إلى 19 مدرسة، إلا أن عددًا من الطلاب الذين اجتازوا اختبارات القبول بمدارس المتفوقين يتم توزيعهم على مدارس في أقاليم بعيدة جدًا عن محل إقامتهم، الأمر الذي يضع أعباء على أولياء الأمور في تقديم الدعم والرعاية الكافية لأبنائهم، أو يفرض عليهم منع أبنائهم من الالتحاق بمدارس المتفوقين لبُعد المسافة.
- تأخر التنسيق وحساب النسبة المرنة: تتمثل شكوى طلاب مدارس المتفوقين وأولياء أمورهم من اعتماد وزارة التعليم العالي على حساب “النسبة المرنة” عند التحاق هؤلاء الطلاب بالجامعات، حيث يتم قسمة عدد الطلاب المتقدمين في الشهادة على عدد الأماكن المتاحة في الكليات العلمية لتحديد تنسيق طلاب مدارس المتفوقين، الأمر الذي دفع مجلس النواب لمناقشة الأمر في 2018 من أجل إيجاد نظام بديل يخدم مصالح هؤلاء الطلاب. علاوةً على ذلك، يعاني خريجو هذه المدارس من تأخر إعلان نتيجة التنسيق، حيث يتم إعلانها بعد انتهاء تنسيق الثانوية العامة بمراحلها الثلاث، الأمر الذي يحرمهم من بعض المميزات مثل التقديم للمدن الجامعية أو بدء العام الدراسي مع زملائهم.
- ندرة المعلمين المؤهلين للعمل بهذه المدارس: في ظل تزايد أعداد المدارس والاعتماد فقط على معلمي المدارس الحكومية، تعاني مدارس المتفوقين في الوقت الحالي من قلة أعداد المعلمين المؤهلين خاصةً في مدارس سوهاج والمنيا، ويرجع ذلك لتأخر الوزارة في الإعلان عن حاجة مدارس STEM لمعلمين، أو عدم رغبة المعلمين المؤهلين في ترك أماكن إقامتهم والانتقال إلى محافظة أخرى من أجل مقابل مادي قد يعوضونه من الدروس الخصوصية.
- قلة عدد المنح التي توفرها وزارة التعليم العالي: وفقًا لأحدث البيانات المتاحة حول عدد المنح التي توفرها وزارة التعليم العالي لطلاب مدارس المتفوقين، فإن عدد المنح المتوفرة يغطي بين 15-20% من إجمالي عدد طلاب تلك المدارس، الأمر الذي يتطلب مزيدًا من الاهتمام بتوفير منح دراسية لهؤلاء الطلاب لتحقيق أقصى استفادة ممكنة من الموارد التي تم إنفاقها عليهم أثناء المرحلة الثانوية.
ختامًا، يمكن النظر إلى مدارس المتفوقين في العلوم والتكنولوجيا على أنها أحد نماذج التعليم الناجحة التي تستطيع أن تقدم مخرجًا تعليميًا قادرًا على المنافسة، سواء في المسابقات الدولية أو سوق العمل العالمي، ولكنّ هناك عددًا من المعوقات التي بدأت في الظهور مع زيادة عدد المدارس وانتشارها في مختلف محافظات الجمهورية، بما يفرض إعادة النظر في السياسة المتبعة في إدارة هذه المدارس وتعيين معلميها ونظام التحاق طلابها بالجامعات من أجل الحفاظ على ما حققته خلال عِقد كامل.