صدمت اللغة الهجومية المباشرة التي تحدث بها الرئيس الأمريكي جو بايدن عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الكثيرين، وبدت كمحاولة واضحة لإشعال نيران لم تنطفئ بعد بين البلدين. لم يكن الهجوم -في حد ذاته- مثيرًا للتساؤل، ولكنّ توقيت الهجوم ولغته الحادة، التي وصلت إلى حد وصف بايدن الرئيسَ بوتين صراحة بـ”القاتل”، وبعيدًا عن الرد الروسي -ممثلًا في رد الرئيس بوتين- الذي جاء هادئًا ومراوغًا ويحتمل تفسيرات عدة، ورد وسائل الإعلام الروسي في الداخل الذي تضمن تصعيدًا في الهجوم الموجّه ضد شخص بايدن؛ إلا أن ذلك كله يدفع إلى الحاجة للوقوف حول دوافع إثارة هذا التصعيد في هذا التوقيت، حيث لم تستجد أي أحداث ولم تحدث أي تفاعلات تضمنت استفزازًا من الجانب الروسي للرئيس الأمريكي الجديد، بل إن ما حدث كان نقيض ذلك، فقد أشاد بوتين في تصريح له العام الماضي بجو بايدن ووصفه بالسياسي المتمرس، وقال إنه مستعد للعمل مع أي إدارة أمريكية لتحسين العلاقات بين موسكو وواشنطن، وهو ما يثير تساؤلًا هامًّا: لماذا بادر بايدن بالتصعيد ضد بوتين؟.
بايدن ومحاولات التحرك خارج الإطار
قد تبدو أسباب هذا التصعيد متباينة؛ إلا أن معظمها أسباب غير موضوعية ترتبط بصورة مباشرة بشخص الرئيس الأمريكي الجديد الباحث عن الكاريزما المفقودة، في وقت تبارت فيه وسائل الإعلام والرأي العام الأمريكي لوصف بايدن بالشخص العادي، الذي سيعيد التوازن بعد العاصفة، وينهي الهوس الأمريكي بشخص الرئيس. فبعد كاريزما أوباما، وشعبوية ترامب، جاء بايدن مظللًا الرأي العام بمشاعر واتجاهات رمادية؛ فهو ليس له أنصار متطرفون، أو مريدون، أو ظهير يضعه في مصاف عظماء من جلسوا على مقعد الرئاسة؛ بل إن شريحة ضخمة ممكن قاموا بالتصويت لبايدن صوتوا له لأنه “ليس ترامب” وذلك وفقًا لاستطلاع رأي أجراه مركز بيو (Pew) خلال الانتخابات الرئاسية. فقد وجد الاستطلاع، الذي أُجري في الفترة من 27 يوليو إلى 2 أغسطس أن 56٪ من مؤيدي بايدن يقولون إنهم يصوتون له لأنه ليس ترامب. لقد كان هذا هو السبب الأول والرئيسي للتصويت لبايدن.
يقول ستيف شامبان Steve Chapman، في تحليله المنشور في 21 نوفمبر 2020 في صحيفة “ذا صن” (The Sun) المعنون “بايدن يحد من عبادة شخصية الرئيس”: “الميزة الوحيدة لبايدن لدى البعض هو أن التوقعات حياله منخفضة نسبيًا. لا أحد يعتقد أنه قادر أو راغب في تغيير الأمة. إذا كان بإمكانه فقط إصلاح الكثير من الأضرار التي حدثت في عهد ترامب فسيكون الكثير منهم راضين عنه”، وأضاف: “أي إنجازات إضافية منه ستكون مكافأة”. لقد سبق الرئيس بايدن رئيسان كل منهما كان مثار أحلام وتطلعات وصلت ذروتها، من الرئيس أوباما الذي كان أول رئيس أسود للولايات المتحدة، بالإضافة لما يتسم به من شخصية كاريزمية، وموهبة في الخطابة، وهو ما دفع القطاع العريض من الشعب الأمريكي للنظر إلى أوباما بوصفه “المخلّص”. وجاء بعده ترامب يرافقه تطرف وهوس يميني عززته لغة ترامب وتوجهاته التي كانت تتوافق مع رؤى وتوجهات شريحة واسعة من اليمينيين الذين نظروا له بوصفه “المنقذ”، ثم جاء بايدن ليعقب المخلص والمنقذ، ويهبط بهذه بالتوقعات المتطرفة إلى حد العقلانية، وفي هذا يقول تشابمان: “النبأ السيئ هو أن بايدن لن يكون المنقذ.. النبأ السار هو أنه لا يتظاهر بذلك”.
وصمة ترامب وبصمة بايدن
بالنظر إلى هذه الرؤية التي تتردد بكثافة عبر مختلف نوافذ الرأي العام الأمريكي يثار تساؤل مؤداه: هل هذه الرؤية صحيحة؟ والتساؤل الأهم، وهو إن صحت هذه الرؤية فهل يتقبل بايدن أن يأتي ويذهب دون أثر؟ هل يتقبل أن يكن رئيسًا عاديًا؟.
إن ما أطلقه بايدن من تصريحات حادة وعنيفة لم تأتِ مستهدفة بوتين، ولكن الأرجح أنها قد أطلقت لتدوي في الداخل الأمريكي وتتداولها وسائل الإعلام، وتحشد الرأي العام، وتكون نواة لصورة جديدة لرئيس قادر على الغضب والانتفاض والهجوم، أو رئيس “ليس عاديًّا”.
يأتي التصعيد الأخير من جانب الرئيس الأمريكي في سياق سلسلة من التحركات التي اتخذها منذ توليه الرئاسة، وهدف منها إلى محو أي أثر لما يرى أنها “خطايا ترامب”، إن تحركات بايدن تلك هي التي دفعت صحيفة “التايم” لأن تضع صورته على غلافها واقفًا على باب البيت الأبيض حاملًا أدوات النظافة، لإزالة أثر الرئيس السابق. ولكن يثار هنا تساؤل شبيه بالتساؤلات السابقة، وهو: هل سيكتفي بايدن بأن يكون إنجازه هو محو أخطاء الرئيس السابق؟ يبدو أن الرئيس الأمريكي الجديد يطمح لما هو أبعد من أن تسير فترته بهدوء متضمنة إصلاحًا لما أفسده سابقه، وفي ظل السعي نحو تغيير الصورة الذهنية السائدة عنه، فلا مانع من استخدام خطايا الرئيس السابق لصنع الكاريزما المفقودة. ولعل المتتبع لأبرز ما تم وصم الرئيس دونالد ترامب به؛ سيجد أن الوصمة الرئيسية التي لازمته وستلازمه ممثلة في علاقته مع روسيا، وما وُجّه له من اتهامات بتلقي دعم من الجانب الروسي للفوز في الانتخابات. ويبدو أن الرئيس بايدن سيسعى لتحويل تلك الوصمة لبصمة، ولن يكتفي بعلاقات باردة مع الجانب الروسي، بل بدا وكأنه يسعى إلى إشعال عداء مباشر، والمبادرة بالعديد من التحركات الانتقامية. وليس أدل على ذلك من محاولة إيجاد أي مؤشر من مؤشرات المواءمة بين شدة الهجوم وتوقيته. وسائل الإعلام تتحدث في المجمل عن التوصل إلى أدلة تؤكد التلاعب والتدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية الأخيرة، والبعض الآخر يتحدث عن الهجوم الإلكتروني الذي وجهت فيه الولايات المتحدة الاتهام إلى روسيا في ديسمبر من عام 2020، ووصفه وزير الخارجية الأمريكي بأنه: “أسوأ هجوم تجسس إلكتروني على الحكومة الأمريكية” حتى الآن، بالإضافة إلى محاولة اغتيال المعارض الروسي البارز أليكسي نافالني.
مزيد من العصا.. قليل من الجزر
يبدو أن تصعيد الرئيس بايدن ضد الرئيس بوتين، لن يقف عند حد التصعيد والهجوم اللفظي المعلن والمباشر، فقد أفادت صحيفة “نيويورك تايمز” بأن الولايات المتحدة تعتزم تنفيذ عدة هجمات إلكترونية خلال الأسابيع القادمة على مواقع روسية مرتبطة بالسلطات الروسية. من جهة أخرى، أعلن مسئولون أمريكيون، الثلاثاء الموافق 2 مارس 2021، عن فرض الولايات المتحدة عقوبات على روسيا على خلفية سجن المعارض الروسي أليكسي نافالني. ومن الجدير بالذكر هنا هو أن تلك هي أول عقوبات تفرضها الولايات المتحدة على روسيا في هذه الواقعة، وجاءت عقب تولي الرئيس بايدن منصبه، وقد كان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب قد امتنع عن فرض عقوبات على موسكو في هذه القضية، وجاءت التصريحات الأخيرة مصحوبة بتحليلات ترى أن العلاقات الروسية-الأمريكية ستشهد توترًا ملحوظًا في ظل بايدن، الذي يبدو أنه سيسعى لتوظيف هذا العداء المتصاعد في إعادة بناء صورة أخرى وتوقعات جديدة حيال شخصيته وفترة رئاسته، ومن غير المتوقع أن تكون ورقة العداء الروسي الأمريكي هي الورقة الوحيدة التي سيستخدمها الرئيس الأمريكي الجديد في الدفع نحو إعادة النظر في التوقعات الرمادية حياله، بل هناك العديد من الأوراق الأخرى التي يبدو أن الرئيس سيسلك فيها خلاف المتوقع منه.
يمكن إجمال التوقعات التي تم إطلاقها لوصف السياسة القادمة للرئيس الأمريكي الجديد في كونها سياسة ستتضمن “مزيدًا من الجزر وقليلًا من العصا”، ولكن يبدو أن تلك التوقعات لم تضع في اعتبارها تمرد الرئيس القادم عن الإطار الذي وُضع له، والخروج عن سياق تلك التحليلات التي أطلقها العديد من علماء النفس والمحللين الذين تنافسوا لتحليل شخصيته، وبناء توقعات تتضمن نهجًا “تصالحيًا” بعيدًا تمامًا عن التصعيد والعداء، ولكن المؤشرات التي ترجح أن سياسة بايدن ستتجه نحو “مزيد من العصا وقليل من الجزر” تتصاعد لتدفع نحو إعادة النظر في محاولات الاستشراف التي أطلقت سابقًا.