لا تزال الولايات المُتحدة الأمريكية تحت إدارة بايدن تتوسع في استعمال العقوبات الاقتصادية كسلاح لفرض إرادتها السياسية، على الرغم مما كان يُعتقد على نطاق واسع بين المحللين السياسيين بأن الإدارة الجديدة ستتخذ مُقاربات أخرى غير التي اتبعتها إدارة ترامب لاستعادة تأثيرها المُتراجع في المجال العالمي. حيث استخدمت الإدارة السابقة هذه الأداة بشكل مفرط طال قائمة طويلة من الدول، بالإضافة إلى بعض المُنظمات الدولية، حتى إنها استهدفت موظفين لدى المحكمة الجنائية الدولية من بينهم مُدعيها، بسبب قيامها بالتحقيق في جرائم حرب يُحتمل قيام القوات الأمريكية بارتكابها في أفغانستان. وجاءت إدارة بايدن لتستمر على النهج ذاته، ففي عام 2021 فرضت العقوبات أو جددتها لنحو 21 من البرامج التي يستهدف مُعظمها الدول فضلًا عما دونها من الكيانات وحتى أنواع معينة من التعاملات بصرف النظر عن ماهية من يقوم بها، وعلى رأس قائمة الدول التي تتأثر بالبرامج المُجددة تأتي بيلاروسيا، بورما، كوبا، سوريا، فنزويلا، اليمن، بالإضافة إلى كُل من روسيا والصين.
هذا الاستعمال المُكثف للعقوبات يُشير إلى أن الإدارات الأمريكية تعتقد في فاعلية هذه الأداة وقدرتها على تغيير سلوك الدول وإراداتها السياسية، مما يُتوقع معه ردات فعل من الدول التي تستهدفها العقوبات أو المُتوقع استهدافها بها. لذلك يحاول هذا المقال تتبع أسباب فاعلية العقوبات الأمريكية من ناحية، ثم ردات الفعل من الدول المُستهدفة بها والتأثير المتوقع لها على شكل الاقتصاد العالمي في المديين المنظور والبعيد.
أولًا- عوامل فاعلية العقوبات الأمريكية:
ينبع تأثير العقوبات الأمريكية وقوتها من وزن الاقتصاد الأمريكي كجزء من الناتج الإجمالي العالمي، بالإضافة إلى الوضعية المُسيطرة للدولار على الاحتياطيات النقدية العالمية، وريادة النظام المالي الأمريكي (معتمدًا على الدولار في التجارة العالمية)، ونستعرض فيما يلي كُلًا من هذه العوامل على حدة:
- نصيب الولايات المُتحدة من الناتج الإجمالي العالمي:
احتلت الولايات المُتحدة الأمريكية المرتبة الأولى بين دول العالم من ناحية الناتج المحلي الإجمالي في عام 2020، بعد أن بلغ ناتجها الإجمالي بالأسعار الجارية نحو 20.93 تريليون دولار، وذلك بنسبة 24.7% من الناتج الإجمالي العالمي، تليها الصين بنحو 14.72 تريليون دولار، ونسبة 17.4% من الإجمالي، تليهما اليابان بنسبة 5.97% فألمانيا بنسبة 4.5%، كما يوضح الشكل التالي:
تُشير الأرقام السابقة إلى أن خُمس عمليات الإنتاج للسلع والخدمات العالمية واستهلاكها يجري في الولايات المُتحدة الأمريكية، وهو ما يجعلها سوقًا موردًا أساسيًا للسلع والخدمات وخاصة الأساسية مثل الغذاء، وعالية التكنولوجيا مثل برمجيات الحواسيب والهواتف، وسوقًا رئيسيًا في استهلاكها، بما يجعل من تُفرض عليه عقوبات بعدم الدخول إليها أو الاستيراد منها يفقد الوصول إلى الخُمس الأجود في السوق العالمي دُفعة واحدة.
- الوضعية المُسيطرة للدولار على الاحتياطات العالمية:
يُعتبر الدولار هو العملة الرئيسية في سلة العُملات التي تُكون منها البنوك المركزية في العالم احتياطياتها النقدية، وذلك لما يتمتع به من قبول شبه تام لدى جميع الدول والشركات، بالإضافة إلى كونه عُملة الدولة صاحبة الاقتصاد الأكبر في العالم، وأخيرًا لأنه العُملة التي تُقوّم به السلع الأساسية في العالم، مثل الطاقة والغذاء والمعادن، وأخيرًا بسبب المعروض الضخم منه، بما يجعل من تداوله على مُستوى العالم أمرًا يسيرًا. يُضاف إلى ذلك أن حوالي نصف التجارة الدولية يتم بالدولار، وما يوازي نصف جميع القروض الدولية وسندات الدين العالمية مقومة بالدولار. كذلك يشارك الدولار في نحو 90% من العمليات في أسواق الصرف الأجنبي.
كما يعمل الدولار كملاذ آمن خلال الأزمات الاقتصادية الكبرى، فخلال الأزمة المالية العالمية 2008-2009، والاضطراب الاقتصادي المصاحب لوباء فيروس كورونا في عام 2020 هرب المستثمرون إلى الدولار الأمريكي، متوقعين أن يحتفظ الدولار بقيمته. ويوضح الشكل التالي نصيب الدولار من الاحتياطيات العالمية في نهاية الرُبع الرابع من عام 2020:
يُحول الدور العالمي للدولار وقوته إلى سلاح قاطع إذا ما استُخدم كوسيلة لفرض العقوبات، حيث تجري تسوية جميع المُعاملات التي تتم به داخل الجهاز المصرفي، كما سنعرض في النقطة التالية، وبالتالي فإن من يُحرم من التعامل بالدولار يفقد القدرة على الوصول إلى الأسواق الدولية بشكل عام. بالإضافة إلى أنه سيجد صعوبة جمة في تصريف صادراته إلى هذه الأسواق، حيث ستخشى المؤسسات المالية من التعرض لعقوبات جراء قيامها بتحويلات مُقومة بالدولار ترصدها الإدارة الأمريكية مع الكيان المفروض عليه العقوبات، وبالتالي، ستضطر هذه الكيانات إلى اللجوء إلى عُملات أخرى أقل قبولًا في التجارة الدولية مثل اليورو أو الين على سبيل المثال. لكن حتى هذه الإمكانية تستطيع الولايات المُتحدة تقييدها عن طريق التهديد بمنع هذه التعاملات مع الكيانات المُستهدفة بالعقوبات من الوصول إلى الأسواق الأمريكية، وهو ما سيمنع أيًا من المؤسسات المالية من التعامل معها.
- ريادة النظام المالي الأمريكي مُعتمدًا على الدولار:
يُعد الوصول إلى النظام المالي الأمريكي ضروريًا بشكل عام لتسوية المعاملات المقومة بالدولار، حتى عندما يكون طرفا المُعاملة خارج الولايات المتحدة، وقد بدأت الإدارات الأمريكية استغلال النظام المالي المدعوم بالدولار كأداة للعقوبات خلال إدارة الرئيس السابق بيل كلينتون فيما بين 1993 و2001 وتوسعت في ظل الإدارات اللاحقة.
ويجري استخدامه عن طريق أداتين يُطلق على أولهما اختصارًا (CHIPS) أو US Clearing House Interbank Payments System، وتستخدم هذه الأداة لتسوية جميع المُعاملات التي تجري بالدولار الأمريكي بين البنوك، حتى لو تمت العمليات التجارية المُتعلقة بها خارج الولايات المُتحدة الأمريكية أو بين أشخاص غير أمريكيين، وتعمل CHIPS كشبكة للتسوية الأولية للمدفوعات المحلية والدولية ذات القيمة الكبيرة بالدولار الأمريكي. واعتبارًا من عام 2015، تقوم CHIPS بتسوية أكثر من 250.000 صفقة يوميًا في المتوسط، تقدر قيمتها بأكثر من 1.5 تريليون دولار في كل من المعاملات المحلية أو الدولية.
أما الأداة الثانية فهي (SWFIT) أو Society for Worldwide Interbank Financial Telecommunication، وهي شبكة تُمكن المؤسسات المالية في جميع أنحاء العالم من إرسال واستقبال المعلومات حول المعاملات المالية في بيئة آمنة وموحدة وموثوقة. وفي مارس 2021 بلغ عدد عمُلاء SWIFT نحو 11.6 ألف بنك في مُختلف أنحاء العالم، قامت بإجراء نحو 42.9 مليون تعامل عبرها. ورغم وجود مقرها في بلجيكا، فإنه يُمكن للولايات المتحدة استخدام نفوذها الناتج عن قوة نظامها المصرفي لمُطالبة SWIFT بتسليم معلومات حول المعاملات إلى الولايات المتحدة لأغراض التحقيق في أي بنك مستهدف، إذ تمتلك الولايات المُتحدة مقعدين والرئاسة من بين أعضاء مجلس الإدارة البالغ عددهم 25.
تُمكِّن الأداتين بالتالي الإدارة الأمريكية من فرض الحصول على معلومات عن مُعظم التعاملات المالية التي تجري عبر النظام المصرفي العالمي، سواء بالدولار أو بغيره، وتستطيع من خلال هذه المعلومات تشديد العقوبات على الكيانات المُستهدفة بها، وتمديدها إلى المصارف أو الكيانات التي تعاملت معها، وهو ما يُجبر الجميع على الرضوخ لهذه العقوبات.
ثانيًا- الانعكاسات على النظام المالي العالمي:
نتيجة الاستخدام الموسّع للعقوبات الأمريكية ضد عدد مُتزايد من دول العالم، فقد بدأت هذه الدول السعي للخروج من دوائر السيطرة الأمريكية السابق الإشارة إليها، وهو ما أدى إلى انخفاض عوامل فاعلية العقوبات وتأثيرها، ولعل أكثر ما يجري استهدافه من هذه العوامل هو وضع الدولار والنظام المالي الأمريكي عن طريق تقليل الاعتماد عليهما أو استبدالهما، بما يُمكن أن يتغير معه شكل الاقتصاد العالمي بالكامل، كما نوضّح فيما يلي:
- انخفاض نسبة الدولار في الاحتياطيات العالمية:
أشرنا في النقطة الأولى إلى أن الدولار يشكّل مُعظم الاحتياطيات النقدية في العالم وذلك بنسبة تُقارب 59% من مُجملها، لكن هذه النسبة شهدت انخفاضًا حادًا عند مُقارنتها بما كانت عليه قبل 20 عامًا، حيث كانت عند مستوى 71.1% في عام 2000، وبالتالي جرى استبدال ما يزيد على 10% من الدولار بعُملات أخرى، كما يوضح الشكل التالي الذي يُقارن بين الحصص بنهاية الرُبع الرابع في عامي 2000 و2020:
يتضح من الشكل تراجع الدولار لصالح عُملات أخرى أهمها اليورو الذي ارتفعت حصته من 18.29% إلى 21.2%، والجنيه الإسترليني الذي ارتفع من مستوى 2.75% إلى مستوى 4.7%، وأخيرًا مجموعة العملات الأخرى التي ارتفعت من 1.49% إلى 2.7%، الأمر الذي يعني بالتبعية خفض سيطرة الدولار على الاحتياطيات الدولية، وبالتالي انخفض الطلب عليه بقدرٍ ما، وفي حال استمر هذا الاتجاه بنفس المُعدل في المُستقبل فسيعني أن الدولار قد يفقد أكثر من النصف، وستكون الاحتياطيات النقدية بعملات غير الدولار، وهو أمر متوقع بشدة خاصة في ضوء العدد الكبير من المحاولات التي تجري لتقليص سيطرته على التجارة الدولية والتي نشير إلى بعض منها في النقاط التالية.
- اتساع نطاق اتفاقات التبادل التجاري بالعملات المحلية:
بدأت الدول المُستهدفة بالعقوبات الأمريكية مُحاولات حثيثة لتقليل تعاملاتها التجارية الدولية بالدولار، بحيث تخفض من انكشافها عليه من ناحية، ومن ناحية أخرى تقلل من تأثرها بالعقوبات، سواء في مستوياتها الحالية أو في المُستقبل، وعلى رأس هذه الدول تأتي روسيا والصين اللتان تقودان التيار، لكن الجهود الصينية لتحويل الرمبيني إلى عُملة دولية تحل تدريجيًا محل الدولار هي الأبرز على الإطلاق، فبحلول عام 2020 امتلكت الصين نحو 40 اتفاقية للتبادل التجاري باستخدام العملات المحلية مع دول مُختلفة أهمها:
- في عام 2013 وقّعت الصين اتفاقية لتبادل العملات مع الاتحاد الأوربي لمُدة ثلاث سنوات بنحو 350 مليار يوان و45 مليار يورو، لمُدة ثلاث سنوات، جُددت آخر مرة في عام 2020.
- وجَّهت الصين عدة ضربات موجعة للدولار خلال عام 2014، عندما وقّع بنك كندا وبنك الشعب الصيني (PBoC) اتفاقية تبادل عملة لإنشاء خط مبادلة عملات لمدة ثلاث سنوات بقيمة 30 مليار دولار كندي/يوان صيني بقيمة 30 مليار دولار كندي و200 مليار يوان صيني، وقد جُددت هذه الاتفاقية مرتين في عام 2017 ثم أخيرًا في يناير 2021.
- وفي عام 2014، وقّعت الصين مع روسيا صفقة تبادل عملات لمدة ثلاث سنوات بقيمة 150 مليار يوان (24.5 مليار دولار)، مُددت الصفقة لمدة ثلاث سنوات في عام 2017، ومن جديد في 2020. وتسمح الاتفاقية للبنك المركزي لكل بلد بالوصول إلى عملة الطرف الآخر دون التداول عبر الدولار الأمريكي.
- في مارس 2020، اتّخذت الدول الثماني الأعضاء في منظمة شنجهاي للتعاون (SCO) وعلى رأسها الصين وروسيا والهند، قرارًا باعتماد العملات المحلية والوطنية في التبادل التجاري والاستثمار الثنائي وإصدار سندات، بدلًا عن الدولار الأمريكي.
وتعمل هذه الاتفاقيات جميعها -إذن- على رفع حصة الرمبيني من التجارة الدولية، وبالتالي خفض سيطرة الدولار وإن كان بنسب بسيطة نسبيًا، إلا أنها تشير إلى اتجاه مُتنامٍ إلى تراجعه.
- تعزيز مكانة العملات المُشفرة:
تتميز العُملات المُشفرة في الوقت الحالي بخواص فريدة، أهمها عدم وجود جهة مُعينة تتحكم في إصدارها وتحديد ثمنها، بل يُترك تحديد ثمنها لتفاعلات السوق بشكل تام، وهو ما يعني -من ناحية أخرى- عدم قُدرة أية جهة على تتبع المُعاملات التي تجري عن طريق استخدامها، وهو ما دفع عددًا كبيرًا من الأفراد إلى استخدامها. وأخيرًا أعلنت شركة تسلا الرائدة في صناعة السيارات الكهربية شراءها وحدات من Bitcoin بما يُعادل 1.5 مليار دولار تحتفظ بها كأصول. ومن ناحية أخرى قبول العملة ذاتها في عمليات البيع التي تجريها الشركة، وهو ما حفز عددًا آخر من الشركات على الإقدام على الخطوة ذاتها، لكن مميزات هذه العُملات هي في الوقت ذاته أهم عيوبها، وعلى الخصوص التقلبات الحادة في سعرها، واستخدامها في تمويل الأنشطة غير المشروعة.
لذلك، سعت بعض الشركات متعددة الجنسيات إلى إصدار عملات رقمية أكثر استقرارًا لاستخدامها على نطاق أوسع. فعلى سبيل المثال، أصدر JP Morgan عملة رقمية (JMP Coin) في عام 2019، كما يسعى تحالف واسع من الشركات بقيادة Facebook إلى إصدار عملة رقمية عالمية جديدة libra (أعيد تسميتها بـ”diem” في ديسمبر 2020 بعد مواجهة تدقيق من المنظمين في عدد كبير من دول العالم). وفي حين ترتبط عملة JMP بالدولار الأمريكي؛ سيجري ربط diem بسلة من العملات، بما فيها الدولار.
لكن التحول الأبرز هو محاولة عدد كبير من البنوك المركزية في العالم، تبلغ نسبتها 80% وفقًا لبنك التسويات الدولية، إصدار عُملاتها المُشفرة الذاتية، وعلى رأس هذه العُملات يأتي اليوان أو الرمبيني المُشفر، الذي يتوقع له أن يُشكل التهديد الأهم للدولار على الإطلاق إذا ما قللت السُلطات الصينية من الرقابة عليه، وسمحت بتداوله خارج الصين.
خُلاصة القول -إذن- إن فاعلية العقوبات الأمريكية ترجع إلى سيطرة الولايات المُتحدة على أكثر من خُمس الاقتصاد العالمي، بالإضافة إلى سيطرتها شبه التامة على التجارة الدولية، وبالتالي النظام المالي العالمي. وتحت ضغوط التوسع في استخدام العقوبات الاقتصادية من جانب الإدارات الأمريكية المُختلفة، بدأت تجري سلسلة من الجهود لتقليص سيطرة الولايات المُتحدة على نظام التجارة العالمي، وفي الوقت ذاته تجري مُحاولات عديدة لتقليل سيطرتها على النظام المالي العالمي على المدى الطويل.