أضحى انقطاع الإنترنت الجزئي وحجب مواقع التواصل الاجتماعي في الداخل الإيراني سلاح طهران الاستراتيجي في مواجهة الاحتجاجات الشعبية التي ترجع بالأساس إلى وفاة “مهسا أميني” (22 عامًا) على خلفية احتجازها من قبل شرطة الأخلاق؛ فعلى خلفية تلك الاحتجاجات، أكد مرصد “نت بلوكس” (المعني بمراقبة حركة الإنترنت) إغلاق شبكات الهواتف المحمولة على نطاق واسع، لتتزايد صعوبة تتبع أعداد القتلى والمصابين من المدنيين مع تعدد وتضارب الروايات بصددهم في ظل ما وصفه بعض المراقبين بغرق البلاد في الظلام الرقمي لا سيما مع حظر متجري الألعاب “جوجل بلاي” و”أبل ستور”، وصعوبة ولوج المستخدمين إلى بعض التطبيقات بما في ذلك تطبيقي “واتساب” و”إنستغرام”، على نحو مشابه إلى حد ما للإغلاق الكامل للإنترنت في عام 2019 على خلفية الاحتجاجات المناهضة للحكومة آنذاك في أعقاب ارتفاع أسعار الوقود بنسبة تصل إلى 300٪.
السياسات الإيرانية:
لقد بات قطع الإنترنت أحد الوسائل الفعالة التي تكرر توظيف إيران لها دون إغفال خطورة القطع الكلي له على الاقتصاد القومي، وهو ما يفسر لجوء إيران إلى قطعه جزئيًا على خلفية الاحتجاجات الشعبية الراهنة؛ فقد قُطعت شبكات الهواتف المحمولة بشكل شبه كامل، فيما شمل قطع الإنترنت شبكة المعلومات الوطنية (وهي بنية تحتية مستقلة لشبكة الإنترنت المحلية التي تعتمد على نسخ مقلدة من محرك البحث “جوجل” وتطبيق “إنستغرام”)، كما تركز الأمر في بعض المناطق لا سيما محافظة كردستان (حيث وقعت بعض أعنف المواجهات)، فيما شمل “لينكد إن” و”سكايب” و”جوجل بلاي” و”أبل ستور” و”مايكروسوفت”، بجانب تطبيقي “إنستغرام” و”واتساب” (أكثر التطبيقات استخدامًا في إيران) لينضما بذلك إلى عدد من التطبيقات ووسائل التواصل الاجتماعي التي حظرتها إيران في السنوات القليلة الماضية ومنها “تويتر” و”فيسبوك” و”تليجرام”. وهو ما أثار الشكوك حول تورط شركة “ميتا” في ذلك، بيد أنها نفته وأكدت مساعيها الدؤوبة لتقديم خدماتها.
وفي سياق متصل، أشار وزير الاتصالات الإيراني “عيسى زارع بور” إلى الحجب الدائم المحتمل لتطبيقي “واتساب” و”إنستغرام”، قائلًا نصًا “إن بعض المنصات الأمريكية تحولت إلى حاضنة لأعمال الشغب، ولهذا فرضنا قيودًا عليها… ستبقى القيود ما دامت تتسبب هذه المنصات بالأضرار”، مطالبًا الإيرانيين بعدم تنظيم أعمالهم في بيئة لا تلتزم بالقوانين الإيرانية، بل ونقل أعمالهم من المنصات الأجنبية إلى أخرى وطنية. وقد أفاد بأن قطع الإنترنت إنما يرجع لأسباب أمنية تدفع الجهاز الأمني إلى فرض قيود على الإنترنت، فيما أشار وزير الداخلية الإيراني “أحمد وحيدي” إلى أن قطع الإنترنت يهدف إلى السيطرة على المتظاهرين في الاحتجاجات إلى أن تنتهي التظاهرات.
وقد عجز الإيرانيون ممن هم خارج البلاد عن استخدام تطبيق “واتساب” بأرقامهم الإيرانية، وقد اتجه كثير منهم إلى استخدام برامج فك التشفير للوصول إلى المواقع المحجوبة على الرغم من عدم فعالية ذلك جراء حظر خوادم (DNS) في البلاد وتعطيل الشبكات الافتراضية الخاصة وعرقلة التشفير على تطبيقات المراسلة وتقييد عمليات البحث في “جوجل”. وقد وصف مرصد “نت بلوكس” تقييد الاتصال بالإنترنت بأنه أشد قيود الإنترنت الإيرانية صرامة منذ احتجاجات نوفمبر 2019 عندما شهدت البلاد انقطاعًا شبه كامل للإنترنت لم يسبق له مثيل آنذاك. ويمكن فهم موقف إيران بالنظر إلى الانتشار الواسع للهاشتاغ الذي حمل اسم “أميني” على “تويتر” وإعادة تغريده والإعجاب به أكثر من 9 مليون مرة، كما استخدم عشرات من الرياضيين البارزين (بمن فيهم نجوم المنتخب الوطني لكرة القدم مثل “علي كريمي” و”سردار أزمون”) والمشاهير (مثل “أصغر فرهادي”) وسائل التواصل الاجتماعي للتعبير عن دعمهم للمتظاهرين.
وفي ظل محدودية الخيارات المتاحة في مواجهة التدابير الإيرانية، دفعت بعض التحليلات بأن الهدف من تلك الإجراءات يتمثل في: عرقلة تجمع المتظاهرين، ومنع المواطنين من نشر مقاطع الفيديو الحية للأحداث، وقطع الصلات بالعالم الخارجي، والحيلولة دون تحديد حصيلة القتلى بدقة، وعدم توثيق انتهاكات حقوق الإنسان. وهو ما يستلزم من المواطنين توثيق وتصوير ملابسات الاحتجاجات ومشاهد من العمليات القمعية الشرطية والاحتفاظ بها لحين عودة خدمة الإنترنت.
وقد حذرت هيئة التجارة الإلكترونية في 29 سبتمبر 2022 من التداعيات الكارثية لحجب وسائل التواصل الاجتماعي وقطع خدمات الإنترنت والتي تشمل: انهيار سوق العمل وتحديدًا 400 ألف مهنة، وفقدان مليون شخص لوظائفهم، وتهديد معاش مليون شخص، وتدهور التجارة الإلكترونية، واستياء واضراب العاملين في الشركات والمؤسسات النشطة في مجال التكنولوجيا. فيما قدّر مرصد “نت بلوكس” الأضرار الناجمة عن قطع الإنترنت بمليون ونصف مليون دولار للساعة الواحدة.
الموقف الأمريكي:
على خلفية ما سبق، أعلن وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن” عن خطوات من شأنها رفع وتخفيف بعض العقوبات والقيود التي فرضتها الإدارة الأمريكية سلفًا على قطاع الاتصالات في إيران. وقال في بيان له إن الولايات المتحدة تتيح للشركات التقنية تقديم المزيد من الخدمات الرقمية في إيران بدءًا من خدمات الحوسبة السحابية وصولًا إلى أدوات أفضل لتعزيز أمن الإيرانيين وخصوصيتهم على الإنترنت لمواجهة جهود الحكومة الإيرانية الرامية إلى مراقبة مواطنيها وفرض الرقابة عليهم. وبموجب التدابير الجديدة، يُسمح للشركات التكنولوجية الأمريكية بمساعدة الشعب الإيراني على الوصول إلى الأدوات الرقمية من خلال تصدير التكنولوجيا وتوسيع نطاق خدماتها لتشمل أدوات مكافحة الفيروسات والبرامج الضارة، بالإضافة إلى خدمة المؤتمرات عبر الفيديو وعدة خدمات رقمية بما في ذلك خدمات الحوسبة السحابية والمنصات والخدمات الخارجية الآمنة كسرًا للعزلة التي فرضتها السلطات الإيرانية من ناحية، وتأكيدًا على حق المواطنين في التظاهر للمطالبة بحقوقهم الأساسية من ناحية ثانية، واستباقًا للعزلة التامة التي قد تفرضها السلطات الإيرانية حال اتساع نطاق التظاهرات على نحو ينذر بخروجها عن السيطرة على نحو يعيد تكرار سيناريو عام 2019 من ناحية ثالثة.
فيما ترى وزارة المالية الأمريكية أن قطع طهران للإنترنت لا يعدو كونه محاولة لمنع العالم من مشاهدة حملتها العنيفة ضد المتظاهرين السلميين، وهو ما يحتم على الولايات المتحدة أن تضاعف من دعمها لتدفق المعلومات والحقائق بحرية إلى الشعب الإيراني لتمكينه من مواجهة القمع والرقابة الإيرانية على الرغم من انعدام الأثر الفوري لمختلف التدابير الأمريكية، بيد أنها من المتوقع أن تحقق الأثار المرجوة منها على المدى الطويل. وعلى صعيد متصل، أتت تأكيدات “بلينكن” على أن قطع الحكومة الإيرانية لخدمات الإنترنت عن معظم مواطنيها (البالغ عددهم 80 مليونًا) إنما يهدف إلى منعهم هم والعالم من مشاهدة حملتها العنيفة ضد المتظاهرين السلميين، وهو ما يحتم على الولايات المتحدة اتخاذ ما يلزم من تدابير لعدم بقاء الشعب الإيراني في عزلة وجهل لا سيما مع تواتر أنباء عن اعتقال عدد من الصحفيين الإيرانيين واستخدام الاحتجاجات الوطنية كذريعة لإسكات الصحافة الوطنية.
وعلى صعيد متصل، أكدت شركة “جوجل” ضرورة النظر في بعض التعديلات الفنية اللازمة للوصول إلى مواقعها الإلكترونية، فيما اتجه تطبيق “سيجنال” -بالتعاون مع بعض المستخدمين المتطوعين- إلى ابتكار طرق بديلة للوصول إلى التطبيق، وطلب مساعدة الجمهور في استخدام خادم وكيل يُمكّن الإيرانيين من الاتصال بالتطبيق حال انقطاع الخدمة. وقد واجه كلاهما عقبات تقنية عدة لا سيما مع اقدام شركات الاتصالات الإيرانية على منع تسليم رموز التحقق عبر الرسائل النصية. فيما أكد “إيلون ماسك” (الرئيس التنفيذي لشركة “سبيس إكس”) تفعيل خدمة “ستارلينك” في إيران في 25 سبتمبر 2022 استجابة لتغريدة “بلينكن” التي ذكر فيها أن الولايات المتحدة ستتخذ إجراءات لتعزيز حرية الإنترنت والتدفق الحر للمعلومات للإيرانيين، وهو الأمر الذي استلزم بدوره تخفيف القيود المفروضة على خدمات الإنترنت في الداخل الإيراني، وتوضيح القواعد الخاصة بتوفير الخدمة للمواطنين الإيرانيين، وتسريع جميع التراخيص ذات الصلة بالشركات التكنولوجية بما فيها شركة “سبيس إكس”.
وللوقوف على فعالية خدمة “ستارلينك” في الحالة الإيرانية، يمكن في هذا الصدد الإشارة إلى 3 أراء متباينة؛ إذ يرى الرأي الأول عدم جدوى تلك الخدمة لأن إيران لن تدعم متطلبات تشغيلها من أطباق وأجهزة توجيه على نحو يتطلب تهريبها إلى داخل البلاد من ناحية، وعدم موافقة السلطات الإيرانية -على عكس الحالة الأوكرانية- على توفير تلك الخدمة بالداخل ابتداءً كما اتضح في تصريح وزير الاتصالات الذي قال إن عمل أي مشغل يقدم خدمات الإنترنت عبر الأقمار الصناعية وفقًا للقواعد الدولية وقواعد الجمهورية الإسلامية مرحب به في اتجاه مضاد لطبيعة الإنترنت غير المحدود من ناحية ثانية، وإمكانية استهداف المحطات الطرفية بطائرات بدون طيار ما قد يصاحبه تصعيدًا محتملًا من قبل الولايات المتحدة من ناحية ثالثة، وصعوبة تأسيس محطات أرضية في الدول المجاورة بحيث تكون مرئية من شبكة الأقمار الصناعية المتداخلة -كما حدث في الحالة الأوكرانية- مع تواجد تلك المحطات في كل من بولندا وليتوانيا وتركيا من ناحية رابعة. إذ تجدر الإشارة إلى أن بعد إيران جغرافيًا عن محطات “ستارلينك” الأرضية المعروفة قد يعني احتمالية تفاوض “ماسك” مع حكومة طالبان في أفغانستان لبناء محطات أرضية جديدة.
أما الرأي الثاني، فيرى أهمية وجدوى خدمة “ستارلينك” كونها شكلًا من أشكال الإنترنت فائق السرعة غير الخاضع للرقابة في البلاد على نحو يتجاوز شبكات الإنترنت الأرضية من ناحية، ومظهرًا من مظاهر الدعم التكنولوجي الذي تقدمه الولايات المتحدة إلى إيران كما سبق أن دعمت أوكرانيا بالخدمة نفسها على خلفية الحرب الروسية-الأوكرانية من ناحية ثانية، ووسيلة تمكن الشركات التكنولوجية الأمريكية من تقديم خدماتها الآمنة دون كسر القيود الأمريكية المفروضة على إيران لا سيما مع سهولة إمداد البلاد بمحطات الاستقبال سريعة الشحن من ناحية ثالثة، وإمكانية تشغيل الخدمة باستخدام تقنية الليزر التي يمكن من خلالها الاستغناء عن المحطات الأرضية لتعمل الخدمة معها أو بدونها من ناحية رابعة.
أما الرأي الثالث، فيرى أن المستفيد الأول من إمداد إيران بخدمة “ستارلينك” هو شركة “سبيس إكس” وليس المواطنين الإيرانيين؛ إذ تمثل الاحتجاجات الإيرانية فرصة إضافية للترويج للشركة وتمكينها من منافسة بعض الشركات الرائدة في مجال الاتصال عبر الأقمار الصناعية وفي مقدمتها شركة “ون ويب”، بل وزيادة أرباحها من خلال تنشيط عمليات شراء الهوائيات وأجهزة المودم وغير ذلك. فقد دأبت الشركة على التأكيد على قدرتها على توفير خدماتها في 40 دولة من دول العالم باستخدام آلاف الأقمار الصناعية التي تدور حول الأرض عوضًا عن كابلات الألياف الضوئية، ناهيك بدورها في مكافحة الاستبداد وعمليات القمع الإلكتروني. ومن هذا المنطلق، تصبح إيران الدولة رقم 41 التي تصلها خدمات الشركة، وتصبح الاحتجاجات الإيرانية خير تأكيد على أهمية إنترنت الفضاء الذي يُمكّن المواطنين من تجاوز عمليات قطع الإنترنت سواء كانت جزئية أو كلية على الرغم من ارتفاع تكلفة شراء وتركيب معدات الإنترنت عبر الأقمار الصناعية. ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال، يدفع المستهلكون حوالي 100 دولار شهريًا مقابل سرعة 2 ميغابت في الثانية أي ضعف ما يُدفع شهريًا مقابل الإنترنت عبر الكابل الذي يزيد في سرعته عن إنترنت الفضاء بنحو 25 مرة. وقد تقلل شركة “ستارلينك” من ارتفاع تلك التكلفة أو قد تجعلها مجانية كلية على شاكلة أوكرانيا حيث أرسل “ماسك” خمسة آلاف محطة مجانًا.
ختامًا، لا شك أن الإجراءات الأمريكية السابقة على اختلافها لم تلق ترحيبًا إيرانيًا، بل واعتبرتها إيران تدخلًا غير مسبوق في الشأن الإيراني الداخلي وتحريضًا غربيًا على التظاهر ووسيلة لتأزيم الأمور على نحو يستوجب الرد، وذلك على الرغم من تشكيك كثير من الأصوات في جدواها لأنها لن تستطيع بأي حال من الأحوال حل مشكلة الاتصال بالإنترنت في عموم البلاد، وبخاصة مع محدودية عدد المستخدمين المحتملين لإنترنت الفضاء. بيد أن الاحتجاجات الإيرانية تدلل على دخول الشركات التكنولوجية الامريكية على خط الصراع بين الولايات المتحدة وإيران تحت ستار مواجهة الأنظمة الاستبدادية والإفلات من الرقابة المحكمة لا سيما مع حجمها العملاق، وتنامي أعداد مستخدميها، وتنوع خدماتها المميزة.