تعكس مؤشرات المعركة الدائرة حاليًا بين فصائل المقاومة الفلسطينية وإسرائيل منظورًا مختلفًا عن الحروب السابقة، لا سيما حرب 2014، التي ستظل حصيلة نتائجها هي الأكثر دموية بين الحروب التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة. فوفقًا للتقرير النهائي الرسمي للأمم المتحدة استشهد في تلك الحرب 1462 فلسطينيًا ثلثهم من الأطفال. في المعركة الحالية قد تكون الخسائر البشرية أقل من ربع تلك المحصلة في الجانب الفلسطيني، لكن حجم الدمار الهائل والطريقة التي تعرضت لها البنية التحتية المدنية لا سيما الأبراج السكنية في القطاع يعكس معيارًا مختلفًا لقياس محصلة تلك النتائج، إذ من المتوقع أن يتجاوز حجم هذا الدمار إجمالي ما تعرض له القطاع في ثلاثة حروب سابقة منذ عام 2008، فيما يشير إلى أن أحد التوجهات الإسرائيلية هي مضاعفة تداعيات الحرب على المدنيين، كبعد مضافٍ لمعادلة “توازن الرعب” كاستراتيجية حاكمة بين الجانبين.
أحد الاستنتاجات الأخرى التي يعكسها تقييم المعركة الحالية في إطار مقاربة الخبرات السابقة، يتعلق بالمدى الزمني للمعركة وبنك الأهداف، فقد استغرقت حرب 2014 (ما بين يوليو وأغسطس) 51 يومًا شنت خلالها إسرائيل نحو 6 آلاف هجوم صاروخي وقذيفة مدفعية، تساوي تقريبًا مع معدل ما أطلقته فصائل المقاومة الفلسطينية (4881 صاروخًا و1753 قذيفة هاون)، لكن لا يعتقد وفق المؤشرات الميدانية (حتى 16 مايو 2021) أن يتجاوز المدى الزمني للحرب أسبوعين، في ظل تكثيف التحركات الدولية والإقليمية لوقف الحرب، واستنفاد الطرفين تقريبًا لبنوك الأهداف ولجوئهما إلى تكرار استهداف نفس المواقع. مما يرجح من فرضية أنّ ما تبقى من التصعيد في جولة الحرب الحالية تحول في شق كبير منه إلى أهداف سياسية تتعلق باستحقاقات عملية وقف إطلاق النار أكثر من كونها أهدافًا عسكرية.
في هذا الإطار، يمكن تقييم الأبعاد العسكرية للمعركة الحالية على الجانبين على النحو التالي:
أولًا- الأبعاد العسكرية بالنسبة للجانب الإسرائيلي:
بادرت إسرائيل بإشعال الحرب تجاه قطاع غزة، كتكتيك للاستدارة على ما يحدث من انتهاكات في القدس المحتلة، وتحديدًا معركة حي “الشيخ جراح” في ظل استيلاء مستوطنين يهود على منازل الفلسطينيين المقدسيين في إطار استمرار سياسة تهويد القدس التي تنتهجها إسرائيل. ومع انطلاق المعركة أوقفت إسرائيل مناورة عسكرية متعددة الجبهات كانت توصف بأنها الأكبر في تاريخها على الإطلاق، كمحاكاة لمعركة افتراضية محتملة من لبنان وسوريا وغزة تتضمن مشاركة إيرانية من جبهات أخرى، واختبار فاعلية “القبة الحديدية” كأحد التفسيرات لإطلاق المسمى الإسرائيلي “حراس الجدران” على المعركة الحالية على الرغم من أنها تشنها في اتجاه واحد.
وتركز إسرائيل بشكل دائم على تطوير قدرات الردع للحفاظ على ميزة التفوق من خلال تطوير قدرات منظومة القبة الحديدة. ووفق التقديرات العسكرية الإسرائيلية فإن المنظومة حافظت على قدرات مقبولة عسكريًا بالحسابات الإسرائيلية (85 – 90 %)، لكنها واجهت قدرات نوعية وتكتكيات جديدة من جانب الفصائل الفلسطينية، تتمثل في المديات الجديدة للصواريخ (فجر 5 M-75، وبركان (A-122) التي زادت من مستوى المديات. وترجع التقديرات الإسرائيلية هذا الأمر إلى عملية تخفيف وزن الرأس الحربي، لزيادة مدى التحليق، مع اعتماد فصائل المقاومة على الإطلاق الكثيف للصواريخ بالنظر إلى إمكانية عدم قدرة المنظومة على اعتراض نحو 100 صاروخ أحيانًا في الدفعة الواحدة.
على الرغم من أن أحد الأهداف الاستراتيجية التقليدية لإسرائيل هو تدمير البنية العسكرية لفصائل المقاومة الفلسطينية، ووفق إشارات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى إصابة 600 هدف في القطاع، لكنها لم تميز بين طبيعة تلك الأهداف، في حين أن التقارير الإعلامية ومنها الإسرائيلية تشير إلى أن أغلب الأهداف مدنية، لذا تزعم إسرائيل أن تلك الأهداف هي غطاء مدني لمواقع عسكرية واستخبارية لفصائل المقاومة الفلسطينية، لكن نزوح ما يقارب من 38 ألف فلسطيني، بحسب تقديرات الأونروا، إلى ملاجئ تابعة للمنظمة لتفادي الهجمات الإسرائيلية كاشف لحقيقة تلك المزاعم.
على الجانب الآخر، سعت تقديرات عسكرية إسرائيلية إلى افتراض وجود مخازن عسكرية تابعة لفصائل المقاومة الفلسطينية على تخوم القطاع، وهي فرضية غير واقعية تمامًا، لكنها تعكس شكوك الخبراء الإسرائيليين في قدرة إسرائيل على استهداف كافة القدرات العسكرية لفصائل المقاومة الفلسطينية، ووفقًا للتقديرات الإسرائيلية فإنها قصفت نحو 45 موقعًا لإطلاق الصواريخ، لكن معدلات الإطلاق لم تتراجع عن هذا الإعلان، بل إن استمرار إطلاق رشقات لعشرات الصواريخ في الدفعة الواحدة كاشف عن قدرة الفصائل الفلسطينية على المناورة ضد إسرائيل في هذا الجانب.
ربما تمكنت إسرائيل في هذه الحرب من توسيع قدراتها الاستخبارية لاختراق صفوف المقاومة الفلسطينية خاصة ما يتعلق بالصف الأول للكوادر الفنية من نخبة صناعة وتطوير برنامج صواريخ المقاومة المنتجة محليًا، منهم رئيس وحدة الصواريخ الخاصة في الجهاد الإسلامي سامح عبدالمملوك. كما قامت بتصفية سامر أبو دقة قائد منظومة الطائرات بدون طيار التابعة لحماس، وباسم عيسى قائد لواء غزة، وجمعة طحلة قائد منظومة السايبر وقائد مشروع تدقيق الصواريخ، وجمال زبدة قائد مشروع التطوير والمشاريع في فرع الإنتاج الصاروخي، وحازم خطيب قائد هيئة المهندسين في منظومة الإنتاج في حماس ونائب قائد منظومة الإنتاج، وسامي رضوان قائد المديرية التقنية في الاستخبارات العسكرية، ووليد شمالي قائد مديرية العتاد الصناعي في منظومة الإنتاج.
كما لجأت إسرائيل إلى حيلة الخداع العسكري عندما أعلنت عن عملية برية (مع تحريك لواء جولاني ولواء المظليين) باتجاه الحدود مع القطاع، الأمر الذي جعل حماس تتجه إلى الأنفاق على الحدود الإسرائيلية ربما للقيام بعمليات اصطياد جنود إسرائيليين، إلا أن إسرائيل قامت باستهداف العديد من العناصر العسكرية التابعة للفصائل من تلك الأنفاق. إلا أن النتائج تظل أقل من معدلات استهداف الأنفاق في الحرب السابقة والتي تجاوزت 17 نفقًا، بينما لم يعلن عن استهداف أكثر من بضعة أنفاق في الحرب الحالية.
إضافة إلى ما سبق، لجأت إسرائيل لحيلة “الردع بالإحباط”، أبرزها نشر مقاطع استهداف أسراب الطائرات بدون طيار التي أطلقتها حركة حماس باتجاه أهداف استراتيجية إسرائيلية مثل محطة غاز عسقلان، لكنها في الأخير تواجه قدرات نوعية مفاجئة لم تتمكن من التعامل معها بشكل استباقي. وعلى الرغم من أن الطائرة (شهاب) أيضًا تظل بدائية إذا ما قورنت بما تمتلكه ميليشيات الحوثي وحزب الله والفصائل العراقية، إلا أن إدخال حماس هذا السلاح إلى المعركة كمتغير يظل بداية قابلة للتطوير في المستقبل.
في إطار المقاربة الإقليمية للمعركة يمكن القول إن هذه الحرب ستضعف من مجازفة إسرائيل بخوض حرب على أكثر من جبهة قد تشكل مغامرة غير مأمونة العواقب بالنظر إلى تداعياتها على الداخل الإسرائيلي، خاصة إذا ما قورنت قدرات الفصائل الفلسطينية كحماس والجهاد الإسلامي بقدرات حزب الله اللبناني وفصائل أخرى على الجبهة السورية، حيث ستواجه إسرائيل تقريبًا 10 أمثال هذه القدرات من الصواريخ فقط. فوفقًا للتقديرات الإسرائيلية تستنفد الفصائل الفلسطينية ثلثي مخزونها العسكري الذي يصل إلى نحو 10 آلاف صاروخ (تقديرات 2014)، بينما من المؤكد أن الفصائل ضاعفت من قدراتها خلال 7 سنوات ما بين الحربين، في حين تشير التقديرات الإسرائيلية إلى أن حزب الله يمتلك أكثر من 100 ألف صاروخ، فضلًا عن تكديس مخزون هائل من الصواريخ في سوريا، وهي أكثر تقدمًا من الصواريخ التي تمتلكها الفصائل الفلسطينية على الأقل مقارنة بقدرات التوجيه وإصابة الأهداف.
بالإضافة إلى ذلك على الصعيد الداخلي، في أغلب التقارير الصحفية والعديد من التحليلات العسكرية في وسائل الإعلام الإسرائيلية تكررت عبارة “إسرائيل تحترق”، وهذه الصيغة كفيلة بأن تنسف أي إنجاز عسكري لإسرائيل، فقد تمكنت الفصائل الفلسطينية للمرة الأولى في تاريخ المواجهات مع إسرائيل من تحديد بنك أهداف استراتيجي أوسع (التقديرات العسكرية الإسرائيلية أنها كانت تستهدف منصة الحفر البحرية لحقل غاز تمار الإسرائيلي)، وبالتالي لم تعد تعتمد فقط على الوصول إلى المدنيين في مستوطنات غلاف غزة، وإنما الوصول أيضًا إلى منصات للغاز في السواحل الإسرائيلية. كذلك فإن عملية إغلاق مطار بن جوريون هو حدث تاريخي سيضاف إلى مكاسب الفصائل الفلسطينية في هذه المعركة. وربما تكون هناك رمزية أخرى مع وصول الصواريخ بعيدة المدى (الأقصى 250 كلم) إلى مطار “رامون” ثاني أكبر المطارات في إسرائيل.
ثانيًا- موقف فصائل المقاومة الفلسطينية:
أظهرت فصائل المقاومة الفلسطينية تطورًا نوعيًا في قدراتها العسكرية والاستخبارية كدروس مستفادة من الحروب السابقة مع إسرائيل. ربما يكون مقدار التفوق لحماس في هذه الحرب هو توسيع دائرة بنك الأهداف التي طالت مواقع استراتيجية في إسرائيل، على نحو ما سبقت الإشارة إليه، وأظهرت حماس استعدادها لحرب طويلة المدى نسبيًا، حيث أعلنت أنها يمكنها خوض معركة لـ6 أشهر مع إسرائيل. لكن من المتصور أن مخزون الفصائل العسكرية لا يسمح بالاستمرار لمدة زمنية طويلة في ظل تركيز إسرائيل على الأهداف المدنية بشكل واسع.
وتنسب التقديرات العسكرية الإسرائيلية تطوير الصواريخ (بدر 3 – عياش 250) طويلة المدى إلى إيران، خاصة وأن الصاروخ الأول ظهر لدى وكلاء إيران في عام 2019 لدى الميليشيا الحوثية في اليمن (أبريل 2019) في الوقت الذي ظهر لدى حركة الجهاد الإسلامي في غزة في الشهر التالي تقريبًا، بينما الصواريخ الأخرى مثل G80 –G90، AK 120، تصنع محليًا، وهناك احتمالات بأن تكون الفصائل الفلسطينية حصلت على هذه الصواريخ بوقت مبكر قبل أن يتم الإعلان عنها، في ظل صعوبة وصولها عبر طرق التهريب التي كانت تسلكها من قبل. ومما يدلل على هذا الاستنتاج هو افتقار عامل التوجيه الدقيق لأغلبها (بحسب التقديرات الإسرائيلية 450 صاروخًا من 2900 سقطوا داخل ساحة غزة أي أقل من ربع الصواريخ فشلت تمامًا في التوجيه) بينما المناظر لها لدى الحوثيين وحزب الله تم تعديله بتركيب أجهزة التوجيه GBS. وكذلك الوضع بالنسبة للطائرة دون طيار (شهاب) التي يُعتقد حتى الآن أنها أقرب إلى نموذج أبابيل، وهو نموذج لجيل إيراني تقادم نسبيًا، مما يؤكد على فرضية صعوبة وصول الأسلحة الإيرانية إلى غزة في الوقت الذي لا يزال بمقدور الفصائل الفلسطينية الحصول على تكنولوجيا التصنيع المحلي.
يقود هذا الجانب أيضًا إلى أن خوض غزة هذه الحرب دون دعم من أطراف خارجية أخرى لا سيما وكلاء إيران الإقليميين خاصة حزب الله الذي أطلق 3 صواريخ تقريبًا كنوع من المؤازرة الرمزية، بالنظر إلى أن أي دعم خارجي يعني أن حماس ستتحمل كلفة أكبر مما هو متصور، بالإضافة إلى تعرض البنية العسكرية الإيرانية في سوريا لضربات إسرائيلية واسعة. وبالتالي كما هو الوضع بالنسبة لإسرائيل فإن وكلاء إيران الآخرين لن يغامروا بالانخراط في معركة واسعة حاليًا في مواجهة إسرائيل قد تغير معادلة الاشتباك كلية إلى حرب وجودية مدمرة للجميع.
في الأخير، يمكن القول إنه على الرغم من تطور معادلة الاشتباك بين فصائل المقاومة الفلسطينية وإسرائيل؛ إلا أنها لم تخرج عن الخطوط الاستراتيجية الحاكمة لهذه المعادلة على مدار الحروب السابقة، لكن من المؤكد أنها ستكشف الكثير من الدروس المستفادة لدى الجانبين، فبالنسبة لفصائل المقاومة الفلسطينية فإن تحسين قدراتها بشكل عام سيظل عاملًا جيدًا في معادلة “توازن الرعب” مقابل إسرائيل، لكنها على الجانب الآخر ستواجه بمعضلة “الكلفة المدنية” للحرب، لا سيما على مستوى البنية التحتية التي دمرتها الحرب، والتي ستحتاج إلى عملية إعادة إعمار عاجلة وربما طويلة المدى. بالإضافة إلى أن جغرافيا القطاع ستظل عائقًا استراتيجيًا في حروبها، كذلك مع تحسن قدرات الفصائل الاستخبارية التي انعكست في الميدان مقارنة بالحروب السابقة، إلا أنها في الوقت ذاته ستظل تواجه معضلة قدرة إسرائيل على اختراق منظومة الاتصالات وطواقم النخبة.
بالنسبة لإسرائيل، ستظل تواجه معضلة القدرة على التهديد والإيذاء من جانب فصائل المقاومة الفلسطينية، وطالما امتلكت فصائل المقاومة عنصرًا جديدًا للمفاجأة العسكرية على مستوى القدرات فإن إسرائيل ستواجه تداعيات تطوير هذه القدرات في المستقبل، وكذلك مهما تمكنت إسرائيل من اتخاذ التدابير الدفاعية الاستباقية، إلا أنه سيتعين عليها الاستمرار في زيادة قدراتها الدفاعية أكثر مما هي عليه رغم الحديث عن كفاءة القبة الحديدة، لكن على الجانب الآخر هناك شكوك إسرائيلية في إمكانية الصمود حال زيادة عدد الجبهات التي قد تواجه عليها الحرب في المستقبل، خاصة إذا ما دخلت فعليًا في مواجهة مع إيران، لذلك ستظل أسيرة نمط الحروب الخاطفة.