“في العقد المقبل، ستعمل المملكة المتحدة على تعميق مشاركتها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ (الإندوباسيفيك)، وإنشاء وجود أكبر وأكثر ثباتًا من أي دولة أوروبية أخرى”. تلك هي كلمات المراجعة المتكاملة التي طال انتظارها من الحكومة البريطانية، والتي تحدد الرؤية والاستراتيجية لـ”بريطانيا العالمية” في عشرينيات القرن الحالي. فلقد أفردت المراجعة البريطانية مساحة منفردة لتلك المنطقة، التي ترتبط أهميتها بالنسبة للمملكة في ماضيها ومستقبلها القريب. وبالرغم من أن المراجعة أوضحت “أن الشرط المسبق لتحقق بريطانيا العالمية هو أمن المنطقة الأوروبية، حيث سيظل يشغل الجزء الأكبر من التركيز الأمني للمملكة المتحدة”، لكنها احتوت على على 15 إشارة فقط إلى “أوروبا “مقارنة بـ32 إشارة إلى الإندوباسيفيك”.
ويمكن تفسير ذلك بالرجوع لمقولة “بنجامين دزرائيلي” الذي تولى رئاسة الوزارة في بريطانيا مرتين في نهاية القرن التاسع عشر، بأن بريطانيا هي “قوة آسيوية أكثر منها قوة أوروبية”. وقد تأكد ذلك في تصريح لوزيرة التجارة الدولية البريطانية “ليز تروس” “أن المملكة المتحدة تعمل على تعميق التجارة مع الأسواق في منطقة الإندوباسيفيك، والتي من المقرر أن تهيمن على الاقتصاد العالمي بحلول نهاية العقد”.
وقد بدأت تلك العودة إرهاصتها بعد الأزمة المالية العالمية لعام 2008، التي دفعت رئيس الوزراء البريطاني السابق “ديفيد كاميرون”، بسبب سياسة التقشف التي اتبعتها بلاده للبحث عن استثمارات من الاقتصادات الناشئة في منطقة الإندوباسيفيك في محاولة لإعادة تنشيط الاقتصاد، بالإضافة إلى إيمان القيادة السياسية البريطانية -آنذاك- بأن مركز ثقل الاقتصاد العالمي يتجه شرقًا. وهو ما يفسر ازدهار العلاقة الاقتصادية بين المملكة المتحدة والصين حينها (حتى سميت تلك الفترة بالفترة الذهبية للعلاقات بين الطرفين)، والتي جعلت المملكة المتحدة تسمح للشركات المملوكة للدولة في الصين بالوصول إلى البنية التحتية الوطنية الحيوية في المملكة المتحدة.
وقد تم تسريع هذا الاتجاه بعد التصويت على مغادرة الاتحاد الأوروبي في عام 2016. فقد حث قرار مغادرة السوق الموحدة المملكة المتحدة على تعزيز علاقاتها التجارية مع شركاء خارج الاتحاد الأوروبي، واستهداف الاقتصادات الأكثر ديناميكية، والتي يقيم عدد كبير منها في منطقة الإندوباسيفيك. وهو ما اتضح من خلال تصريح رئيس الوزراء “بوريس جونسون” الذي كان وزيرًا للخارجية في حوار المنامة بعد أشهر قليلة من نتيجة الاستفتاء بأن المملكة المتحدة عادت لشرق السويس، وأعرب عن رغبة المملكة المتحدة في عكس سياسة فك الارتباط مع شرق السويس (التي انتهجتها المملكة بنهاية الستينيات تحت وطأة الأزمة الاقتصادية) وأن تصبح “نشطة وملتزمة بشدة في المنطقة”، وشدد على تحسين التجارة والأمن الإقليمي.
دوافع التوجه ناحية الإندوباسيفيك
بدايًة يتم التعارف على تعريف منطقة الإندوباسيفيك، وفق التعريف الذي قدمه رئيس الوزراء الهندي “ناريندرا مودي” في كلمته أمام “حوار شانجري” بعام 2018، بأنها المنطقة الممتدة من إفريقيا شرقًا إلى الأمريكتين غربًا، أي إنها تشمل جميع الدول الساحلية المشاطئة لأي من المحيطين والدول الواقعة داخل مياههما.
ويمتد الوجود البريطاني بتلك المنطقة إلى قرون، بدءًا من المنافسة التجارية مع البرتغاليين والإسبان في القرن السادس عشر، مرورًا برحلات الاستكشاف التي قام بها الكابتن كوك، إلى استعمار الهند وما بعده حتى القرن العشرين. ومنذ الحرب العالمية الثانية، كانت علاقات المملكة المتحدة مع دول الإندوباسيفيك واسعة النطاق، وكذلك التبادل التجاري والثقافي. وقد أدى قرار الانسحاب من مناطق شرق السويس في أواخر الستينيات إلى تقليص الكثير، ولكن ليس كل، من الوجود الأمني للمملكة المتحدة في الإندوباسيفيك. ويُمكن إجمال الدوافع المحفزة لعودة المملكة المتحدة بهذا الزخم، لسببين رئيسيين:
أولهما: احتواء الصعود الصيني، إذ بدأت المملكة المتحدة في انتهاج سياسة تصعيدية في وجه الصين منذ بداية انتشار الوباء، وربط عدد من العلماء البريطانيين بين انتشاره وتكتم الصين عليه، وما تلاه من سياسات تصعيدية بدأت تأخذها الصين بازدراء لتلك الاتهامات ومهاجمة الدول المروجة لها، وما صاحبها من إظهار لتحكم الصين في أغلب الإمدادات العالمية للمعدات والمواد الهامة وبخاصة الطبية والتكنولوجية، ما دعا المملكة لرفض إدخال تقنية الجيل الخامس عن طريق شركة هواوي الصينية بعد تردد استمر لفترات طويلة، وجاء هذا الرفض أيضًا نزولًا على رغبة الولايات المتحدة لتحقيق هذا الانسحاب.
وتسعى حكومة المملكة أيضًا إلى حماية الملكية الفكرية للشركات البريطانية، فقدمت مشروع قانون الأمن القومي والاستثمار إلى البرلمان الذي يمنع الأطراف الخارجية من التحكم بتلك الشركات. وردًا على اعتداء بكين على حريات هونغ كونغ، حددت خطوات لإتاحة الجنسية البريطانية لسكان هونغ كونغ. وبالمثل، فيما يتعلق بقضية الإيغور، قامت حكومة المملكة المتحدة -إلى جانب الولايات المتحدة وكندا– بقيادة الجهود الدولية للضغط على بكين. وفي فبراير الماضي اتخذت حكومة المملكة المتحدة إجراءات لمعاقبة الشركات المتورطة في انتهاكات حقوق الإنسان التي تُرتكب في شينجيانغ، ما استتبعه من قيام الصين بتوقيع عقوبات موسعة على برلمانيين عالي المستوى وأكاديميين وسياسيين بريطانيين.
ثانيهما: محورية المنطقة، حيث إن المنطقة تضم أكبر دولتين في العالم من حيث عدد السكان، الصين والهند. وثاني وثالث أكبر اقتصادات العالم، الصين واليابان. وممراتها البحرية هي “الأكثر أهمية في العالم”، بما في ذلك مضيق ملقا الذي يربط المحيط الهندي ببحر الصين الجنوبي. وقد صاغت المملكة المتحدة في مراجعتها المنشورة تلك الأهمية، كالتالي:
“إن منطقة الإندوباسيفيك هي محرك النمو في العالم؛ فهي موطن لنصف سكان العالم؛ و40٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي؛ وبعض الاقتصادات الأسرع نموًا؛ وتُعد في طليعة الترتيبات التجارية العالمية الجديدة؛ وتقود وتبني الابتكارات والمعايير الرقمية والتكنولوجية؛ وتستثمر بقوة في مصادر الطاقة المتجددة والتكنولوجيا الخضراء؛ وهو ما يُعد حيويًا لأهدافنا للاستثمار ولسلاسل التوريد المرنة. حيث تُمثل منطقة الإندوباسيفيك بالفعل 17.5٪ من التجارة العالمية للمملكة المتحدة و10٪ من الاستثمار الأجنبي المباشر، وأننا سنعمل على زيادة ذلك، بما في ذلك من خلال اتفاقيات التجارة الجديدة والحوارات والشراكات الأعمق في العلوم والتكنولوجيا والبيانات”.
ملامح التوجه البريطاني نحو الإندوباسيفيك
في إطار إعادة توجهها نحو المنطقة، سعت المملكة المتحدة لتنويع الأدوات ما بين عسكرية واقتصادية وغيرها، بما يضمن تعزيز نفوذها بالمنطقة، ويمكن إجمال أبرز تلك التحركات، كالتالي:
أولًا- التوسع العسكري:
بدأت المملكة المتحدة في تكثيف استثماراتها العسكرية، كأداة رئيسية تضمن عودتها للعب دور أكبر، بعد أن تراجع دورها في إطار دورانها في فلك سياسة أوروبا ككل، وهو ما تجلى فيما تضمنته المراجعة الكاملة وكذلك “ورقة قيادة شئون الدفاع” الصادرة عن وزارة الدفاع، عن خطط لتوفير أكثر من 111 مليار دولار لوزارة الدفاع “كي تصبح جاهزة لحروب المستقبل”، على أن يصل تمويل خطة التحديث التي ستقوم بها الوزارة حتى 2030 نحو 278 مليار دولار. بالإضافة للإعلان عن وقف سياسة خفض عدد الرءوس النووية البريطانية والبدء في زيادتها بنسبة 40% وتحديث سلاح الردع النووي، مبررة ذلك بأنه سيضمن قدرتها على حماية نفسها وحلفائها من التهديدات المستقبلية.
وقد سبق هذا الإعلان تحرك بريطانيا بشكل أكثر نشاطًا نحو منطقة الإندوباسيفيك. فقامت بريطانيا منذ عام 2018 بنشر سفنها الحربية في المنطقة لأول مرة من بعد غياب دام لعدة سنوات، فشاركت السفن في عمليات بالقرب من جزيرة باراكال المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي، وهو ما أثار حفيظة الصينيين آنذاك وجعل بكين تعترض وتهدد، وتعتبر العمل البريطاني خرقًا فاضحًا لقواعد القانون الدولي. وبين عامي 2018 و2020 أرسلت البحرية الملكية خمس سفن حربية إلى آسيا، وأبحرت كل من هذه السفن عبر بحر الصين الجنوبي، حيث يُعد حماية حرية الحركة البحرية ركيزة أساسية منذ القدم لدى المملكة المتحدة، باعتبار أن اقتصادها قام منذ البداية على توسع التجارة.
وفي خطابه في فبراير الماضي في مؤتمر ميونيخ الأمني، وهو أول خطاب للسياسة الخارجية بعد خروج المملكة المتحدة من ترتيباتها الانتقالية مع الاتحاد الأوروبي في 31 ديسمبر، أكد رئيس الوزراء “بوريس جونسون” على نشر حاملة الطائرات البريطانية الجديدة “إتش إم إس كوين إليزابيث” والأسطول المرافق لها في مايو في أول رحلة إلى المحيط الهندي بالتنسيق مع الولايات المتحدة، وهي السفينة الأكبر التابعة للبحرية الملكية البريطانية، وتقدر قيمتها بـ3.9 مليارات دولار، وستنقل الحاملة سربًا من الطائرات المقاتلة التابعة لسلاح الجو الملكي “إف-35 بي” بالإضافة إلى سرب تابع لمشاة البحرية الأمريكية “إف-35 بي إس”. وعلّق “جونسون” بأن هذا النشر يوضح كيف يمكن للقوات المسلحة البريطانية والأمريكية العمل جنبًا إلى جنب -أو على متن الطائرة- في أي مكان في العالم”.
وسيزور الأسطول جنوب شرق آسيا وسيتوجه إلى قاعدة شانجي البحرية في سنغافورة، وربما يشارك أيضًا في الأنشطة البحرية للاحتفال بالذكرى الخمسين للترتيبات الدفاعية بين الدول الخمس (المملكة، وأستراليا، ونيوزيلندا، وماليزيا، وسنغافورة). وسيبحر الأسطول عبر بحر الصين الجنوبي، وقد ينتقل بعد ذلك إلى اليابان، ثم يعود إلى المملكة المتحدة بعد مرور خمسة إلى ستة أشهر.
ويدرس العسكريون البريطانيون كذلك خططًا لزيادة الوجود العسكري في الشرق الأوسط ومنطقة المحيط الهادئ، مثل القواعد والموانئ في أستراليا واليابان وسنغافورة. ونجد أن المملكة المتحدة تحتفظ بالفعل بقاعدة عسكرية في بروناي ومنشأة دعم بحري في سنغافورة، وقد وقعت بريطانيا وسنغافورة مذكرة تفاهم لتعزيز التعاون الثنائي في مجال الدفاع 2018.
وقد كانت بريطانيا أعلنت عن زيادة حجم تواجدها العسكري بمنطقة الخليج العربي، حيث ترتبط بمنطقة “الإندوباسيفيك” عبر المسطحات المائية المرتبطة بالمحيط الهندي، الأمر الذي يجعل منطقة الخليج العربي امتدادًا طبيعيًا لمنطقة الإندوباسيفيك، فنجد أنها أنشأت قاعدة بحرية بالبحرين لسفن البحرية البريطانية وهي قاعدة “إتش إم إس الجفير” التي جرى افتتاحها في إبريل 2018. وتُعد القاعدة أول منشأة خارجية جديدة للبحرية الملكية منذ نصف قرن والمقر الرئيسي للبحرية البريطانية في المنطقة، ويتواجد فيها بشكل دائم أربع سفن مضادة للألغام وفرقاطة، وتستضيف سفنًا أخرى من الأسطول الملكي، بحسب موقع وزارة الدفاع البريطانية. وإلى جانب هذا أعلنت وزارة الدفاع البريطانية تعزيز استثماراتها في قاعدتها العسكرية بميناء الدقم بُعمان في 12 سبتمبر 2020، والتي تبعد نحو 500 كلم عن مضيق هرمز الاستراتيجي الذي يمر عبره ما يصل إلى 30% من صادرات النفط العالمية سنويًّا، وهذا الاستثمار سيزيد حجم القاعدة البريطانية بمقدار ثلاثة أضعاف.
ثانيًا- تعزيز الروابط مع الدول المحيطة بمنطقة الإندوباسيفيك:
لقد استثمرت المملكة المتحدة بالفعل بشكل كبير في هذه المنطقة من خلال شبكة مكونة من 52 بعثة دبلوماسية، تم فتح أربعة منها منذ عام 2018، بالإضافة لمشاركة المملكة المتحدة أيضًا في التعاون الأمني مع العديد من دول المنطقة من خلال ترتيبات دفاع “القوى الخمس” الذي تأسس منذ عام 1971، والذي يشمل كما أسلفنا أستراليا وماليزيا ونيوزيلندا وسنغافورة. علاوة على ذلك، فإن المملكة المتحدة جزء من تحالف العيون الخمس الاستخباراتي الذي يضم الولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا. وقد استغل “جونسون” رئاسة المملكة المتحدة لمجموعة السبع هذا العام لدعوة الهند وكوريا الجنوبية وأستراليا للانضمام إلى التجمع الأول، ودعا لاعتبار تلك القمة انطلاقة لتكوين نادي الديمقراطيات العشر، والذي دعا لنشأته في أول الأمر بغرض إنتاج تكنولوجيا غربية مقابلة لتكنولوجيا الجيل الخامس التي تنتجها هواوي، وبعدها بقليل تعددت أوجه التعاون لتشمل مكافحة كورونا والتعاون الأمني.
ثالثًا- تكثيف التعاون مع اليابان:
تُعد اليابان ثالث أكبر مستثمر في المملكة المتحدة (بعد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي)، وأهم القوى بمنطقة الإندوباسيفيك مع الهند في مواجهة الصين. وقد أبرمت المملكة المتحدة أول اتفاق تجاري رئيسي لها بعد خروجها مع اليابان. وبالرغم من أن الاتفاق يمثل 2٪ فقط من إجمالي التجارة الخارجية للمملكة المتحدة، إلا أن وزيرة التجارة الدولية البريطانية “ليز تروس” علقت بأن الصفقة من الناحية الاستراتيجية، كانت خطوة مهمة نحو الانضمام إلى الشراكة عبر المحيط الهادئ، ووضع بريطانيا في مركز شبكة من اتفاقيات التجارة الحرة.
إلا أن العلاقات بين الطرفين قد تعززت على مستويات عدة، وليس على المستوى الاقتصادي فقط. فمنذ عام 2012، وقّعت المملكة المتحدة معاهدة دفاع مع اليابان، تلاها ارتفاع التعاون بين الطرفين، وقد اشتمل هذا على مناورات بحرية مع اليابان والولايات المتحدة.
وفي عام 2016، استضافت قوة الدفاع الذاتي الجوية اليابانية Guardian North 16، أول تدريب مشترك مع مقاتلات RAF Typhoonالبريطانية. وقد كانت هذه هي المرة الأولى التي تستضيف فيها اليابان طائرات عسكرية أجنبية لإجراء تمرين بعيدًا عن الولايات المتحدة. وكان أيضًا أول انتشار عالمي لمقاتلات سلاح الجو الملكي البريطاني في هذا النطاق. وكذلك تم نشر الجيش البريطاني أيضًا في اليابان، واستضافته قوة الدفاع الذاتي البرية اليابانية (JGSDF) ؛ وكان بذلك أول جيش أجنبي يعمل على أراضي اليابان باستثناء الولايات المتحدة. وفي عام 2017، بالمثل، أرسل JGSDF وحدة إلى المملكة المتحدة لأول مرة.
كما وافق الاجتماع الوزاري البريطاني الياباني لوزراء الخارجية والدفاع “2 + 2” في فبراير 2021 على تعزيز التعاون ليس فقط في مجال الدفاع ولكن أيضًا بشأن أهداف التنمية المستدامة (SDGs)، وتعزيز البنية التحتية عالية الجودة والأمن السيبراني.
رابعًا- محاولات الاندماج في الترتيبات الإقليمية:
- التقدم للانضمام للآسيان:
سعت المملكة المتحدة لتوسيع شراكاتها الاقتصادية حول العالم وبخاصة من آسيا. ومن هذا المنطلق قامت بطلب لتصبح شريكًا بالحوار في رابطة دول جنوب شرق آسيا (ASEAN) المكونة من 10 أعضاء. فيما عيّنت بريطانيا مبعوثًا لها لدول آسيان للمرة الأولى هو “جون لامب” وكان ذلك في نوفمبر عام 2019، كإثبات لنيتها للوصول إلى أعلى مستويات التنسيق وتسريع الاتفاقيات بينهما.
وترتبط رابطة الآسيان بعلاقات تجارية كبيرة مع بريطانيا، فهي من أكثر الدول الأوروبية تعاملًا مع المنطقة. فقد زادت حصة حجم التبادل التجاري بين المملكة المتحدة وآسيان من إجمالي تجارة الأخيرة مع الاتحاد الأوروبي بنسبة 12% سنة ٢٠١٩، لكن المملكة لا تزال في المركز الرابع من حيث التبادل التجاري معها بعد ألمانيا وهولندا وفرنسا. إلا أن الطموح البريطاني قد يعرقله توقف الرابطة منذ فترة طويلة عن قبول شراكات حوار جديدة، وقد كان آخرها قبول شراكة الهند والصين وروسيا عام 1996.
- التقدم للانضمام للاتفاقية الشاملة والمتقدمة للشراكة عبر المحيط الهادئ (CPTPP):
قدمت المملكة طلبًا رسميًا للانضمام في 1 فبراير 2021، ومن المتوقع صدور قرار أولي في مايو، مع تحقيق العضوية في أوائل العام المقبل في حال قبول الدول الأعضاء. وهي اتفاقية تجارة حرة بين 11 دولة حول حافة المحيط الهادئ، هي: كندا، والمكسيك، وبيرو، وتشيلي، ونيوزيلندا، وأستراليا، وبروناي، وسنغافورة، وماليزيا، وفيتنام، واليابان. وتكمن أهميتها في أنها تتيح الفرصة للمملكة للدخول في ثالث أكبر كتلة للتجارة الحرة في العالم بعد USMCA (الولايات المتحدة، وكندا، والمكسيك) والاتحاد الأوروبي.
وأوضحت وزيرة التجارة الدولية “ليز ستروس” أن الانضمام للاتفاقية سيتيح للمملكة المتحدة الوصول إلى إجمالي ناتج محلي بقيمة 9 تريليونات جنيه إسترليني ودون الحاجة إلى الانضمام إلى نادٍ سياسي على غرار الاتحاد الأوروبي، والذي يمثل أعضاؤها سوقًا يضم 500 مليون شخص وحوالي 14٪ من الاقتصاد العالمي.
وترتفع حظوظ المملكة المتحدة بالانضمام، فمعظم الدول الأعضاء متحمسون لهذا الطلب، وبخاصة اليابان، الحليف الرئيسي للمملكة المتحدة في هذا المشروع، حيث تأمل اليابان في وجود اقتصاد رئيسي آخر في هذا المزيج يساعد طوكيو على الوقوف في وجه الخصوم التجاريين وبخاصة الصين. بالإضافة لتحمس أغلب الأعضاء لانضمام المملكة نظرًا لعلاقاتها الوثيقة مع الولايات المتحدة، والذين يأملون في عودتها بعد وصول إدارة بايدن، ففي حال انضمت الولايات المتحدة ستصبح الاتفاقية واحدة من أكبر التكتلات الاقتصادية في العالم، حيث تمثل أكثر من 30٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
عوائق التوجه نحو منطقة الإندوباسيفيك
تواجه المملكة عددًا من العراقيل الأساسية التي قد تعوق تفعيل دورها بشكل كبير كما تطمح بالمنطقة، يدور أغلبها حول التالي:
أولها- الحذر الهندي:
تُعد الهند من أهم الدول والأكبر بمنطقة الإندوباسيفيك، بالإضافة لكونها الأكثر رغبة في احتواء الصعود الصيني باعتباره مهددًا رئيسيًا لها. إلا أنه بالرغم من تلك الأهمية الاستراتيجية للهند، فهناك العديد من العوائق التي تقف أمام تعميق علاقاتهم. أولها: أن الوصول لصفقة تجارة حرة مع الهند، يعُد حلمًا بعيد المنال، فلم يكن لدى الهند اتفاق تجارة حرة مع أي دولة ثالثة منذ تأسيسها في عام 1947. يضاف إلى ذلك سياسة رئيس الوزراء الهندي “ناريندرا مودي” (الهند المعتمدة على نفسها) وهي في حد ذاتها شكل من أشكال الحماية تتعارض وما تدعو له استراتيجية “بريطانيا العالمية” التي تدعو لنظام عالمي منفتح على التجارة.
وثانيها: أنه على الرغم من أن الهند والمملكة المتحدة وصفتا علاقتهما بأنها “شراكة استراتيجية شاملة” قبل 16 عامًا، إلا أنهما يفتقران إلى حوار استراتيجي منتظم بين وزيري دفاع كل منهما من النوع الذي تقيمه نيودلهي مع عدد من الدول الأخرى. بالإضافة لسعي الهند لتوثيق علاقاتها مع دول أوروبية أخرى كفرنسا وألمانيا قبل المملكة المتحدة، الذي يمكن تفسيره بتحفظ الهند على دعم المملكة المتحدة لقوى الإسلام السياسي. إلا أن المملكة شاركت مؤخرًا في رعاية اقتراح للأمم المتحدة الذي يوضح فشل باكستان في منع تمويل الإرهاب. وهناك شكوك حول مدى استعداد المملكة المتحدة نفسها لمنح الهند واقتصادات النمور الآسيوية الأخرى إمكانية الوصول إلى أسواق المملكة المتحدة، ونقل وتوطين تكنولوجيا المملكة لتلك البلاد، بالإضافة إلى منحها تسهيلات لتقديم عشرات الآلاف من التأشيرات لمواطني هؤلاء الدول.
ثانيها- انخفاض الموارد:
تمر المملكة المتحدة بمأزق اقتصادي كبير، حيث تفاقمت الضربة الاقتصادية الأكبر من (كوفيد-19) بين دول مجموعة السبع بسبب الضربة الشديدة لخروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي بالوقت ذاته. فلقد تجاوز الدين القومي 21 تريليون جنيه إسترليني (حوالي 100% من الناتج المحلي الإجمالي – وهو أسوأ وضع مالي منذ 70 عامًا) ويستمر في الارتفاع.
وقد صاحب هذا الانهيار خفض في ميزانية المساعدات الدولية، والتي تسمح للمملكة المتحدة بدعم أجندتها التنموية. فقد أعلنت بريطانيا التخلي عن التزامها بإنفاق 0.7% على المساعدة الإنمائية، وتم تخفيضها إلى 0.5% إلى أن يسمح الوضع المالي بالعودة إلى 0.7، على حد قول وزير الخزانة البريطاني “ريشي سوناك” ليصل حجم الإنفاق البريطاني على المساعدة الإنمائية الرسمية في 2021-2022 إلى 10 مليارات جنيه إسترليني، بنسبة انخفاض أكثر من الثلث عن ميزانية المساعدة الإنمائية الرسمية لعام 2019 البالغة 15.2 مليار جنيه إسترليني.
وأخيرًا، ستظل معضلة الجغرافيا حاضرة، نظرًا لتصريح المراجعة بأن روسيا ستظل المهدد الرئيسي للمملكة المتحدة، وعليه فإن الوجود البريطاني بالقارة الأوروبية سيظل المحور. يضاف لذلك تعاظم الارتباطات والترتيبات القائمة بين الطرفين الأوروبي والبريطاني على كافة المستويات، والتي تجعل من الصعب تحقق الفكاك البريطاني من الفلك الأوروبي. أخيرًا، يمكن القول إن هذا التوجه يُعد مدفوعًا بشكل كبير من أرضية مغازلة الشريك الأمريكي، الذي اعتبر الكثيرون أنه الهدف الرئيسي للمراجعة. فهذا الشريك هو الأقدر على توفير مساحة المناورة والتحرك للمملكة المتحدة خارج بلاده، وبخاصة في منطقة الإندوباسيفيك، وإن لم ينفِ ذلك أهمية المنطقة للمملكة المتحدة بالطبع. وعليه فستظل مساحات النفوذ التي ستتاح للمملكة المتحدة معتمدة بشكل أساسي على رغبة ودعم الشريك الأمريكي، وحجم الموارد التي تقدر المملكة على تحمل تكلفتها، وآخرها حجم قبول القوى والدول الكائنة بتلك المنطقة وعلى رأسها الهند.