وقّعت مصر وكينيا (26 مايو 2021) اتفاقية فنية للتعاون الدفاعي وذلك في حضور كل من رئيس أركان القوات المسلحة المصرية الفريق “محمد فريد” ووزيرة الدفاع الكينية “مونيكا جوما” ورئيس أركان الدفاع الكيني “روبرت كيبوتشي”. وتدخل تلك الاتفاقية في إطار مساعي القاهرة لتعزيز ودفع علاقاتها بدول القارة الإفريقية، إذ إنها تأتي قبل يوم من زيارة الرئيس عبدالفتاح السيسي إلى جيبوتي للتباحث في عددٍ من الملفات ذات الاهتمام المشترك.
علاقات متجذرة
لم يكن توقيع اتفاق التعاون الدفاعي بين مصر وكينيا سوى فصل من علاقات وطيدة ومتينة جمعت الطرفين، إذ إن الروابط التاريخية تؤكد على حدود التعاون والتنسيق المشترك بينهما في مختلف المجالات، حيث لعبت القاهرة دورًا محوريًا وفاعلًا في تحركات كينيا نحو الاستقلال، حيث كانت مصر قبلة لحركات التحرر الكينية بل وفرت للمناضلين الكينيين كافة سبل ووسائل الدعم، مما ساهم في تعزيز فرصها نحو الاستقلال والتحرر من الاحتلال البريطاني. وقد نشأت العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين في أعقاب عام من حصول كينيا على استقلالها، حيث شهد عام 1964 افتتاح كينيا لسفارتها في القاهرة، ومنذ ذلك التاريخ بدأت العلاقة بين الطرفين تشهد تقاربًا وتنسيقًا في عدد من الملفات.
وفي أعقاب 2014 ومع تولي الرئيس عبدالفتاح السيسي رئاسة مصر، دخلت العلاقة بين الطرفين مرحلة مختلفة من التعاون على خلاف المراحل السابقة، وقد بدا ذلك من خلال زيارة الرئيس السيسي لكينيا عام 2017، تلك الزيارة التي وصفت بالتاريخية، خاصة أنها جاءت بعد نحو 33 عامًا من آخر زيارة قام بها الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك لنيروبي عام 1984. وقد أفضت تلك الزيارة لمزيد من التوافق حول عدد من القضايا ذات الاهتمام المشترك، خاصة ما يرتبط بمكافحة الإرهاب وقضايا الأمن الإقليمي، كما دفعت نحو تعزيز التعاون والروابط الثنائية بين البلدين على مختلف الأصعدة.
من ناحية أخرى، تطورت العلاقة الاقتصادية بين الطرفين ليس فقط في إطارها الثنائي، بل امتد الأمر للشراكة عبر التجمعات الإقليمية الاقتصادية التي تجمع الطرفين وفي مقدمتها “الكوميسا”، ويمكننا الإشارة لارتفاع حجم التبادل التجاري بين الطرفين في السنوات الأخيرة كمؤشر لحدود التعاون الاقتصادي، فخلال الخمس سنوات الماضية ما بين عامي 2015 و2020 ارتفع حجم التبادل التجاري بنحو 3.58%، حيث وصل لما يقرب من 635.8 مليون دولار بعدما سجل 444 مليون دولار عام 2015.
وعلى صعيد آخر، لعبت الوكالة المصرية للشراكة من أجل التنمية دورًا ملحوظًا في مسار العلاقة بين البلدين، وذلك عبر مجموعة من الأشكال، سواء ما يرتبط بتأهيل وتدريب الكوادر الكينية في عدة مجالات كمنحة وزارة الكهرباء والتي تستهدف تدريب نحو 17 كينيًا في العام، أو من خلال تقديم عدد من المساعدات الإنسانية والإنمائية، إذ قدمت مصر خلال عام 2017 دعمًا بقيمة 5.5 ملايين دولار لتطوير الموارد المائية في كينيا، سواء من خلال حفر آبار أو بناء سدود لتجميع المياه.
دلالات عديدة
يحمل توقيع اتفاق التعاون بين مصر وكينيا العديد من الدلالات التي يمكن الإشارة إلى أهمها على النحو التالي:
أولًا: تعزيز التعاون العسكري والأمني، لا تنفصل الاتفاقية بين مصر وكينيا عن مجمل تحركات مصر الرامية لتوطيد العلاقات العسكرية والأمنية مع عدد من الدول الإفريقية، وقد تشكلت تلك التحركات وفقًا لنمطين مختلفين:
- النمط الأول، عبر العمل على رفع الكفاءة القتالية وعقد تدريبات ومناورات عسكرية مع عدد من الدول بهدف تبادل الخبرات والتدريب على مسارح العمليات، وقد بدا ذلك بوضوح خاصة في المناورات المصرية السودانية “حماة النيل” التي تُعقد في الفترة من (26 حتى 31 مايو الجاري). ورغم أن هذه المناورات تُعد الأكبر بين البلدين، إلا أنها لم تكن الأولى، إذ سبقها مناورات نسور النيل 1 (نوفمبر2020) ونسور النيل 2 (إبريل2021).
- النمط الثاني، يدخل في إطار تحركات مصر لعقد عدد من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم العسكرية والدفاعية مع دول المنطقة، حيث عقدت مصر اتفاقيات مماثلة لتلك التي وقّعتها كينيا مع ثلاث دول أخرى خلال الأشهر الماضية من بينها الاتفاقية الدفاعية مع السودان (مارس 2021)، علاوة على اتفاق مشابه مع أوغندا (إبريل 2021) بشأن تبادل المعلومات الاستخباراتية والعسكرية، وصولًا لاتفاق تعاون عسكري في مجالات التدريب المشترك مع بوروندي في الشهر ذاته. وبذلك تمكنت مصر خلال الربع الأول من العام الجاري من توقيع أربع اتفاقيات ذات طابع عسكري وأمني، وتدخل تلك الاتفاقيات ضمن مساعي مصر لامتلاك أدوات الردع لمجابهة التحديات القائمة والمحتملة، والتي يمكن أن تؤثر على مصالحها الحيوية في المنطقة.
ثانيًا: مجابهة التحديات الأمنية، يدخل التحرك المصري المتنامي في الفترات السابقة والذي يتخذ طابعًا عسكريًا وأمنيًا ضمن الاستراتيجية الكبرى لمصر والرامية إلى المشاركة في تحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة، سواء في إفريقيا بشكل عام أو منطقة حوض النيل والقرن الإفريقي بشكل خاص، وهو نهج يتماشى مع الرؤية المصرية أثناء رئاستها للاتحاد الإفريقي، والتي ارتكزت على مبدأ إسكات البنادق داخل القارة. وعليه، يمكن أن يساهم الانتشار والحضور العسكري بصيغته السابقة في الحيلولة دون تفاقم الأوضاع الأمنية وخروجها عن السيطرة، خاصة ما يرتبط بمكافحة الإرهاب في ظل نشاط الجماعات والتنظيمات الإرهابية في القارة. ومن هنا يمكن أن يدخل الاتفاق بين مصر وكينيا في إطار مساعي البلدين للمواجهة المشتركة لتلك التحديات وما قد ينتج من التغيرات والتحولات التي تشهدها المنطقة، سواء من خلال تصاعد حالة الاحتراب والاقتتال الداخلي، أو غياب الاستقرار في عدد من الساحات وبروز الفواعل من غير الدول، علاوة على نمط الهشاشة الذي تتسم به عدد من المؤسسات والدول داخل المنطقة.
ثالثًا: التأكيد على عمق الروابط المصرية الإفريقية، تعكس التحركات المصرية تجاه إفريقيا رغبة مصر في استعادة دورها وحضورها في القارة الإفريقية، والتأكيد على الترابط والعلاقات الوطيدة مع دول القارة، وقد اتضح ذلك من خلال تحركات مصر طيلة السنوات الماضية، على اعتبار أن إفريقيا كانت ولا تزال ضمن دوائر السياسة الخارجية المصرية، وأن التواجد الفاعل فيها يضمن لمصر الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية ويُعيد لها الزخم بعد فترات من التراجع. وتُعتبر رئاسة مصر للاتحاد الإفريقي خلال عام 2019 والجهود المصرية خلال تلك الفترة، علاوة على الزيارات المتبادلة واللقاءات بين القاهرة وعدد من العواصم الإفريقية، ملمحًا من ملامح عودة مصر لجذورها الإفريقية، ومن هنا تأتي سياسة مصر الخارجية لتعبر عن رؤية مصرية جادة في تنشيط التعاون والتنسيق بين مصر والدول الإفريقية عبر عدد من الوسائل والأدوات، سواء كانت دبلوماسية أو اقتصادية أو عسكرية على غرار الاتفاقيات سالفة الذكر.
رابعًا: تبني سياسة استباقية، تعمل مصر عبر أدواتها المتباينة وتقاربها مع دول حوض النيل وتحديدًا دول المنبع على تبني سياسة استباقية تمكنها من الحفاظ على مصالحها الحيوية في مياه النيل، خاصة فيما يتعلق بالاتفاق الإطاري لدول حوض النيل الذي تم توقيعه في “عنتيبي” عام 2010، والذي ترفضه كل من مصر والسودان على اعتبار أنه يتعارض مع الحقوق التاريخية والاتفاقيات الدولية التي تنظم الاستفادة من مياه النيل، ومن هنا يأتي التحرك المصري تجاه كينيا ومن قبلها أوغندا وبوروندي كخطوة استباقية لتوسيع نطاق المصالح المشتركة بين مصر ودول منابع النيل، ومن هنا يرمي التحرك المصري لتحقيق هدف استراتيجي يتمثل في الحفاظ على حصة مصر المائية من نهر النيل.
خامسًا: موازنة الحضور الإقليمي والدولي، لا شك أن القارة الإفريقية تشهد تنافسًا بين القوى الإقليمية والدولية يستهدف بسط النفوذ وفرض الهيمنة، ومن هنا تعمل مصر عبر حضورها المكثف في الآونة الأخيرة تجاه دول القارة على مكافأة وموازنة الحضور الدولي والإقليمي بما يضمن لها تعزيز وتأمين مصالحها الحيوية، خاصة وأن إفريقيا تأتي في القلب من المصالح العليا للدولة المصرية. وعليه يمكن لتعزيز التعاون الأمني مع عدد من الدول وتوطيد العلاقات على المستوى السياسي والاقتصادي والعسكري أن يُؤمن مصالح مصر الاستراتيجية، ويحافظ على أمنها القومي، ويضعها ضمن الفواعل أصحاب التأثير والنفوذ في القارة.
في الأخير، تشير الاتفاقية بين مصر وكينيا وغيرها من التحركات في الفترات الأخيرة إلى توجهات جديدة للسياسة الخارجية المصرية تدور حول العمل على استعادة الزخم وتوسيع دوائر الحركة في القارة الإفريقية، بما يؤدي في نهاية الأمر لاستعادة مصر لدورها التاريخي الرائد في إفريقيا باعتبارها إحدى القوى المؤثرة والفاعلة بما تملكه من مقومات تاريخية وبما تتمتع به من قبول لدى كافة الدول الإفريقية.