يُعد قطاع تجارة الجملة والتجزئة أحد القطاعات الرائدة للاقتصاد المصري، كما أنه شهد نموًا وتطورات ضخمة في الأعوام الأخيرة مع زيادة الطلب وبالتالي زيادة ربحية القطاع. ولكن أدت الجائحة وسياسات التباعد الاجتماعي والإغلاق للمتاجر (عدا المنتجات الأساسية) إلى اضطرابات ضخمة للقطاع، الأمر الذي أدى إلى تغير سلوك المستهلكين وأساليب شرائهم والمنتجات المطلوبة، وهو ما سيؤثر على سلوك المستهلكين، وبالتالي على القطاع في فترة ما بعد كورونا.
ويناقش هذا التحليل تطورات القطاع في السنوات الأخيرة وأثر الجائحة عليه.
أولًا: وضع قطاع تجارة الجملة والتجزئة
وفقًا لأحدث البيانات الشهرية للبنك المركزي للقطاع الحقيقي، فقد بلغ نصيب القطاع من الناتج المحلي الإجمالي بتكلفة عوامل الإنتاج وفقا للأنشطة الاقتصادية (بالأسعار الثابتة) حوالي 13.6% في العام المالي 2019/2020 بقيمة إجمالية تبلغ 529 مليار و50 مليون جنيه، وهي ما تعد ثاني أكبر نسبة بعد قطاع التصنيع. وقد زادت أهمية القطاع عن العام الذي سبقه بحوالي 0.1%، حيث بلغ نصيب القطاع 13.5% بقيمة إجمالية 509 مليار و249.5 مليون جنيه. إضافة إلى ذلك، فإن القطاع الخاص يشكل حوالي 94.6% من القطاع بقيمة إجمالية تبلغ 500 مليار و566.9 مليون جنيه في العام المالي 2019/2020، في حين يشكل القطاع الحكومي 5.4% من القطاع بقيمة إجمالية تبلغ 28 مليار و483.1 مليون جنيه في الفترة نفسها. علاوة على ذلك، وفقًا لمساعد أول وزير التموين والتجارة الداخلية ورئيس جهاز تنمية التجارة الداخلية إبراهيم عشماوي في قمة مصر للتجارة والاستثمار في دورتها الثانية بعنوان “نحو خريطة تفاعلية للاستثمار في قطاع تجارة التجزئة”، فقد بلغت مساحة تجارة التجزئة الرسمية في مصر 3 ملايين متر مربع، والتي تشمل مراكز تجارية وأسواق الجملة ومناطق لوجستية ومتاجر تجزئة ومخازن.
كما شهد القطاع استثمارات ضخمة في الأعوام الأخيرة، فوفقًا لتقرير مصر 2020 الصادر عن مجموعة أكسفورد التجارية، في 2019، افتتحت شركة ماجد الفطيم- وهي شركة تجزئة ومقرها الأساسي في دبي- مول سيتي سنتر ألماظة في القاهرة وهو جزء من خطة الشركة للاستثمار في مصر بحوالي 23 مليار جنيه. كذلك فإن كارفور أيضًا كانت قد أعلنت في أكتوبر 2019 عن خطتها للاستثمار بحوالي 500 مليون دولار على مدار 2020 لتشمل ثلاثة محلات سوبر ماركت ضخمة (هايبر ماركت) و24 سوبر ماركت. إضافة إلى ذلك، وقعت مصر مع شركة التجزئة الإماراتية “لولو” على اتفاقية للاستثمار في مصر بحوالي 500 مليون دولار وهو ما يشمل 4 هايبر ماركت والتي من المقدر أن توفر حوالي 8 آلاف فرصة عمل. هذا بالإضافة إلى الزيادة في المولات والمتاجر المحلية.
إضافة إلى ذلك، ساهم نشاط القطاع الزراعي المصري ومعالجة الأغذية -وهو من القطاعات التي تسعى الدولة إلى تنميته وزيادة صادراته- في نمو قطاع الجملة والتجزئة المصري، حيث انخفضت الواردات المصرية من هذه المنتجات مع تدهور قيمة الجنيه المصري ولكن نما الإنتاج المحلي. كذلك استثمرت العديد من الشركات الدولية ومتعددة الجنسيات في القطاع الزراعي المصري ومعالجة الأغذية. على سبيل المثال، فقد قامت الشركة الروسية للصناعات الزراعية “EFKO” بتوقيع مذكرة مع الشركة المصرية لتجهيز وتعبئة الزيوت في أكتوبر 2019 والتي تهدف إلى إنشاء مشروع لتصنيع وتعبئة الزيوت النباتية في مصر بإجمالي استثمارات تبلغ 300 مليون دولار.
ثانيًا: تداعيات الجائحة على القطاع
أدت الجائحة والاضطرابات الناجمة عنها في سوق العمل من غلق الأعمال وزيادة البطالة وخسارة الأسر لمصادر دخلهم وغيرها من الاضطرابات في السوق المالي وسوق البضائع وتدهور الوضع الاقتصادي بشكل عام إلى انخفاض ثقة المستهلك في الاقتصاد المصري وأيضًا في قدرتهم الشرائية. مما أدى إلى لجوء المستهلكين إلى شراء المواد الأساسية والاهتمام بالأسعار بشكل أكبر نسبيًا من قبل الجائحة على حساب جودة المنتج. هذا بالإضافة إلى كونهم أكثر عرضة إلى اللجوء إلى الادخار بدلًا من الإنفاق على المنتجات الترفيهية. الأمر الذي أدى في النهاية إلى آثار سلبية على حجم ضخم من تجار الجملة والتجزئة.
لذلك، لجأ العديد من تجار الجملة والتجزئة إلى التجارة الإلكترونية لتوفير تكلفة التأجير- والتي شاهدت ارتفاعا في الأسعار بنسبة 21% في 2019 بسبب الداخلين الجدد في السوق لربحية القطاع- واللجوء إلى المنصات الإلكترونية لعرض منتجاتهم بشكل آمن بعد اضطرارهم إلى الإغلاق. وعلى الرغم من عدم ثقة العديد من الأشخاص في التجارة الإلكترونية وتفضيلهم لأساليب الشراء التقليدية خوفًا من جودة المنتج ومن غيرها من العقبات التي تتعلق بالدفع الإلكتروني، إلا أن جائحة كورونا تعد فرصة لها. فقد تعززت ثقة المستهلكون في التجارة الإلكترونية بعد اضطرارهم للجوء إليها أثناء الإغلاق وأيضًا مع تحسن جودتها بشكل ملحوظ. الأمر الذي سيؤدي إلى تغير سلوك المستهلكين في فترة ما بعد كورونا.
وتبلغ قيمة التجارة الإلكترونية، وفقًا لتقرير مجموعة أكسفورد التجارية، 2.5% من إجمالي مبيعات التجزئة الحالية ومن المتوقع أن ينمو القطاع بحوالي 33% سنويًا ليصل إلى 3 مليارات دولار بحلول عام 2022. وعلى سبيل المثال، فقد أعلنت شركة “جودز مارت” “GoodsMart” المصرية- وهي شركة لتسوق البقالة إلكترونيًا- أن الطلبيات قد ارتفعت بحوالي ثلاثة أضعاف في أعقاب الجائحة. وبالتالي، فقد ساهمت التجارة الإلكترونية في تعزيز مرونة الشركات الصغيرة والمتوسطة. ولكن على الرغم من مساهمة التجارة الإلكترونية في الحد من تداعيات الجائحة على القطاع الذي اضطر إلى الإغلاق للحد من الإصابات باستثناء المنتجات الأساسية، إلا أنها قد تؤدي إلى زيادة الضغوط على أصحاب المتاجر في المستقبل بسبب تكلفة الإيجار والتي قد تؤدي إلى خروجهم من المنافسة.
ولكن مع تكيف المستهلكين للوضع الحالي وأيضًا مع تعافي الاقتصاد المصري من الآثار الناجمة عن الجائحة، كذلك مع ازدهار التجارة الالكترونية وتسهيل عملية الشراء بشكل آمن، فقد تعافي القطاع من تداعيات الجائحة، كما أن من المتوقع أن يعود سلوك المستهلكين وأولوياتهم إلى طبيعتها نوعًا ما والاهتمام بجودة المنتجات على حساب الأسعار مرة أخرى، وبالتالي زيادة بيع المنتجات ذات الجودة المرتفعة والمواد الترفيهية. ووفقًا للرئيس التنفيذي للبورصة المصرية محمد فريد، فقد نما القطاع بحوالي 4.6% في ظل أزمة كورونا واستحوذ على 13% من إجمالي قوة التشغيل في سوق العمل. كذلك، وفقًا لأحدث بيانات البنك المركزي الشهرية للقطاع الحقيقي، فمن المتوقع أن ترتفع القيمة الإجمالية للقطاع إلى 135 مليار و518.9 مليون جنيه في الفترة من يوليو إلى سبتمبر 2020/2021 من 129 مليار و396 مليون جنيه في الفترة نفسها من العام المالي 2019/2020، ليزيد نصيب القطاع إلى 14.7% من الناتج في يوليو/سبتمبر 2020/2021 من 13.8% في يوليو/سبتمبر 2019/2020.