دخلت الأزمة الداخلية في أثيوبيا طورًا جديدًا بعد التقدم الملحوظ الذي حققته الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي، حيث نجحت في قلب موازين الحرب وتقدمت بخطوات ثابتة وحققت انتصارات متلاحقة على القوات الحكومية، ويطرح هذا التطور تساؤلات حول تأثير هذا التقدم على حكومة أبي أحمد وعلى مستقبل الدولة في إثيوبيا.
أولا: مسارات تقدم قوات تيجراي والقوات الحليفة
تسعى قوات دفاع تيجراى وحلفاؤها من القوميات، للاستيلاء على مدينة ميللي الإستراتيجية فى إقليم عفر، وقطع طريق الإمدادات الحيوي من موانئ جيبوتي إلى العاصمة أديس أبابا. أيضا فإن مناطق (إيفا، واورا وجولينا) لا تقل أهمية كمدن أخرى تجعل قوات دفاع تيجراى تتوغل داخل العمق العفرى، وهي إستراتيجية اتبعتها قوات دفاع تيجراي فى وقت سابق عندما أسقطت نظام “الدرج” الجنرال منجيستو هايلي ماريام فى عام 1991، وتعمل من أجل تكرار تلك التجربة كشفرة مهمة لاقتحام العاصمة الإثيوبية خاصة بعد التقدم باتجاه مدينة دبري برهان الاستراتيجية التي تبعد أقل من 150 كيلومتراً عن العاصمة أديس أبابا والتي اقتربت منها قوات تيجراي في الثالث والعشرين من نوفمبر.
في ظل هذه التطورات تبنت الحكومة الإثيوبية موقفاً ملتبساً، فمن ناحية قبلت الحكومة الوساطة مع الجبهة الشعبية لتحرير تيجراى بعد أكثر من عام من الحرب التي شنتها الحكومة على الإقليم تحت مسمى عملية انفاذ القانون، وجاء هذا الموقف بعد أن حققت قوات تيجراي خلال الآونة الأخيرة انتصارات متلاحقة، غيرت ملامح الصراع بصورة كبيرة لصالح جبهة تحرير تيجراى وحلفائها، ويعنى هذا أن المعادلة أصبحت في غير صالح القوات الحكومية، وأن حكومة أبي أحمد باتت في وضع أكثر تعقيدا وتأزما، بعد هذه الحرب التي خاضتها تحت غطاء إثني. لكن من ناحية أخرى استمر أبي أحمد في التصعيد بإعلان اعتزامه تقدم صفوف المقاتلين على جبهات القتال، في موقف معتاد من حيث التضارب وتفضيل البدائل العسكرية العنيفة.
ثانيا: مواقف الأطراف من الوساطات ومحاولات التسوية
في 11 من نوفمبر 2021، أعلنت الحكومة الإثيوبية، باسم الناطق بوزارة الخارجية الإثيوبية، دينا مفتي، موافقتهم على الشروط لمفاوضات محتملة مع جبهة تحرير تيجراى وحلفائها، بعد جهود دبلوماسية عديدة رفضتها أديس أبابا في أوقات سابقة، من ضمن الشروط التي وضعتها للمفاوضات، انسحاب قواد دفاع تيجراى من إقليمي أمهرا وعفر، واحترام شرعية الحكومة المنتخبة، وعدم التقدم في الهجوم.
بتلك الشروط جاء رد فعل قوات دفاع تيجراي، على لسان الناطق الرسمي “جيتاشو ردا” أن عملية الانسحاب من الإقليمين غير مطروح قبل المفاوضات. وأشار “ردا” يجب على الحكومة السماح بوصول المساعدات الإنسانية لشعب تيجراي، ورفع القيود المفروضة على جبهة تحرير تيجراى.
وتقدمت القوى الدولية والإقليمية والاتحاد الأفريقي بجهود مختلفة من أجل تسوية الصراع والوساطة بين أطراف الأزمة خلال الفترة الأخيرة لا سيما في ظل تفاقم الأوضاع الإنسانية والخوف من اندلاع حرب أهلية واسعة النطاق لا تطال استقرار وسلامة الدولة الإثيوبية بل قد تشمل تداعياتها دول الجوار. وقد بلغت هذه الجهود ذروتها بعد الإعلان عن زيارة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن للعاصمة الكينية نيروبي، وهو ما دفع الرئيس الكيني أوهورو كينياتا لاستباق زيارة الوزير الأمريكي بالتوجه بزيارة مفاجئة لأديس أبابا في الخامس عشر من نوفمبر لم تسفر عن إحراز أي تقدم في محاولات التهدئة واحتواء الصراع، وهو ما انعكس بالسلب على مخرجات زيارة بلينكن لنيروبي.
ثالثا: الأبعاد المختلفة لأزمة حكومة أبي أحمد
تواجه حكومة إثيوبيا الفيدرالية بقيادة أبي أحمد تحديات جسيمة تتضمن:
التهديد بسقوط العاصمة: في ظل التطورات العسكرية بين الجانبين، قامت الحكومة الإثيوبية بإنشاء مراكز لقوات الطوارئ التابعة للجيش الإثيوبي حول أديس أبابا، للدفاع عنها فى حالة تعرضها للهجوم. وفي السياق ذاته دعا وزير الخارجية الإثيوبي ديميكى ميكونن، إلى تسليح المواطنين للدفاع عن الدولة الإثيوبية. أمام تلك التطورات الميدانية للمعارضة المسلحة، أظهرت عجز في الجيش الإثيوبي أمام قوات دفاع تيجراي وحلفائهم من القوميات الأخرى، وأصبحت العاصمة أديس أبابا مهددة بالسقوط، فيما خرجت العديد من الأقاليم الأخرى عن سيطرة الحكومة كإقليمي أمهرا والعفر المجاورين لإقليم تيجراى من جهة الشرق.
الانزلاق نحو حرب أهلية: بالتزامن مع ارتفاع وتيرة الصراعات العسكرية في العديد من الأقاليم الإثيوبية، هو الأمر الذى يشير إلى اتساع المواجهات العسكرية الى تؤدى إلى حرب أهلية في البلاد، استغلالاً لحالة الفوضى والاضطراب الأمني العام. ويمكن أن تتحول الأقاليم الغربية والجنوبية من البلاد إلى مراكز للفوضى والصراعات الأهلية بين الجماعات الصغيرة.
تداعيات العقوبات الأمريكية على إريتريا: أثارت العقوبات التي فرض الولايات المتحدة على إريتريا فى صراعها في إثيوبيا، ردود أفعال غاضبة إريترية وإثيوبية، وشملت العقوبات التي طالت أربعة كيانات ارترية، من ضمنها الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة (الحزب الحاكم) شركة البحر الأحمر، صندوق حدرى “الشركة القابضة للتجارة”، قوات الدفاع الإريترية، بالإضافة إلى الجنرال “أبراها كاسا” مدير جهاز الأمن، “حقوص قبر هويت كشا” الرئيس التنفيذي لشركة البحر الأحمر هو بمثابة وزير الاقتصاد الإرتيرى. تلك الإجراءات سوف تدفع إريتريا في الانخراط بالحرب الأهلية في إثيوبيا مرة أخرى لمهاجمة قوات تيجراى.
تصاعد الانتقادات داخل تحالف أبي أحمد: انتقدت بعض النخب السياسية من قومية أمهرا، سياسات آبي أحمد الإقصائية التي أتبعها ضد بعض القوميات خاصة قومية تيجراى، واعتبروه مهدد لبقاء الدولة الإثيوبية وحملوه تداعيات تلك الأزمة التي دخلت عامها الثاني منذ عقود من السنوات ظلت فيها إثيوبيا الدول الأكثر صمودا في ظل جوار مضطرب.
تفاقم الأزمة الإنسانية: في ظل الأوضاع الكارثية التي يفرضها الصراع نزح أكثر من 15 ألف إثيوبي في الأسابيع الأخيرة، إلى ولاية القضارف شرق السودان، فارين من القتال فى شمال إثيوبيا. وفى السياق ذاته قال منسق مكتب الأمم المتحدة لشئون الإنسانية أن القتال الدائر حاليا، أجبر 250 ألف شخص على الفرار من منازلهم في إقليم أمهرا المضطرب منذ أن استولت قوات الحلفاء على مدينة “دسي” ذات الأهمية الاستراتيجية.
العجز عن تأمين الدعم للعملية العسكرية: استخدمت الحكومة الإثيوبية العديد من أساليب فى حربها ضد قومية تيجراى، منها التعبئة العامة، رفض الوساطة، الحصار، والاستعانة بقوات الدفاع الإريترية والصومالية، بالإضافة إلى إبرام العديد من الاتفاقيات العسكرية مع كل من روسيا وتركيا. ولكن جميع هذه الطرق فشلت، لأنها افتقدت على عدم معرفة كاملة بتكتيكات حرب الأدغال والعصابات التي تبنتها جبهة تحرير تيجراى. كما أظهرت المكاسب العسكرية التي حققتها قوات دفاع تيجراى والحلفاء وعدم وجود كفاءات عسكرية مدربة وعلى قدر كبير من الخبرة العسكرية داخل منظومة الجيش الإثيوبي، وهو ما أظهر براعة وحنكة قوات دفاع تيجراى عبر قياداتها بأنهم رجال سلطة ودولة.
رابعا: مستقبل الدولة الإثيوبية
على المستوى الداخلي تواجه إثيوبيا، في الوقت الراهن أزمات متعددة الاتجاهات، سياسية واجتماعية وثقافية، أمنية ودينية، نتيجة لعملية الإحلال التي بدأت تظهر في الأفق بين مشروع الدولة المركزية التي يتبناها حزب الازدهار من خلال وصول رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد إلى السلطة في أبريل 2018، وبين مشروع الفيدرالية الإثنية والذي طرحته صيغة التحالفات بين القوميات في قتالهم ضد مشروع المركزية. وقد أظهرت الاستجابات المختلفة للمشروعين كيفية تعاطي القوميات والعرقيات الإثيوبية مع المعتقدات، التقاليد، الأعراف العرقية والقومية بوتيرة كبيرة ليس فقط لتحقيق مكتسبات سياسية، ولكن للحفاظ على الانتماءات الأولية الضيقة، والتي تعد أحد أهم سمات العرقية والأثنية والقبلية الإفريقية.
وتبدو فرص استعادة دولة إثيوبية موحدة متماسكة ضئيلة للغاية بعد أن أضحى عدم الاستقرار وزعزعة الأوضاع الداخلية هو النتاج الطبيعي للتحديات المرتبطة بمشروع الدولة الوطنية فى إثيوبيا، والتي تراكمت طوال الأمد فى العقود الماضية، وزاد منها فشل النخبة السياسية في إيجاد مخرج حقيقي لمعالجة تلك الانقسامات للحيلولة دون تفاقمها والانزلاق في الفوضى.
خلاصة
تنتظر إثيوبيا تطورات كبيرة نتيجة الصراع الإثني الدائر بين مكوناتها المختلفة وإقاليمها المتناحرة، ولا يبدو أن هناك أفق لتسوية سلمية، حيث أن السلاح هو لغة جميع الفرقاء الذين نزلوا إلى الميدان ولا يلتفتون إلى أي ضغوط أو اعتبارات داخلية او خارجية، وباتت الأوضاع تنذر بكارثة على المستويات كافة، ويبدو أن أبي أحمد قد قاد الدولة التي كانت قوة إقليمية لا يستهان بها في شرق القارة نحو الفشل والانهيار.