تسعى العديد من الحكومات الإفريقية والعربية في الوقت الحالي إلى تحفيز عمليات التنمية والبناء داخل بلدانها، وذلك في محاولة منها لإزالة آثار القلاقل والاضطرابات التي عاشتها على مدار العقود الماضية، وفي هذا الإطار تحرص الدولة المصرية وكدعم منها لكافة أشقائها الإقليميين على تقديم خبراتها وتجاربها في مجالات التنمية والتعمير، وذلك لتسريع خطى تلك البلدان نحو تحقيق التطور والنهوض. أهم أدوات الدولة المصرية لتحقيق هذا الهدف هو الدفع بالشركات الوطنية العاملة بمجال التشييد والبناء والمقاولات إلى أسواق الدول الإقليمية، وذلك للمساهمة في إعادة إعمار ما دمرته الحروب والنزاعات المسلحة التي اندلعت خلال العقود الماضية، بالإضافة للمشاركة في تشييد المئات من المشروعات الإنشائية الجديدة ذات الطابعين الاقتصادي والخدمي، التي تساعد على تقوية الاقتصادات الوطنية، وترفع من جودة الحياة المتوفرة للشعوب المحلية.
فرص واعدة
تتطلع أغلب دول المنطقة العربية ودول قارة إفريقيا إلى تسريع خططها التنموية، وذلك لرغبتها في اللحاق بركب الاقتصادات الناشئة على مستوى العالم، وهذا ما يدفع بتلك الدول إلى توجيه جانب كبير من استثماراتها نحو تطوير البنى التحتية الخادمة لحركة الاقتصاد والتجارة، مثل: تشييد الطرق والمطارات والموانئ البحرية وخطوط السكك الحديدية، ومرافق إنتاج الطاقة الكهربائية مثل السدود الكهرومائية ومحطات الخلايا الشمسية والمحطات الحرارية وغيرها، فضلًا عن تطوير المباني الخدمية مثل المستشفيات ومراكز الرعاية الصحية والمدارس، ومقرات إدارة الأعمال ومراكز تطوير التكنولوجيا.
ويحفز تلك الدول على الرغبة نحو تطوير حالتها الاقتصادية، ما بدأت تشهده الساحتان العربية والإفريقية من حالة ملحوظة من الهدوء الأمني والسياسي، وذلك بعد مرور سنوات من الاشتداد لحركة التنظيمات المسلحة والجماعات الإرهابية، بالإضافة إلى دخول الأنظمة الحاكمة في تلك الدول مرحلة التعافي، وذلك بعدما تعرضت لحالة غير متوقعة من الهشاشة، نتيجة لهبوب موجات متلاحقة من الثورات والاضطرابات التي كادت تسقط دولًا، وتودي بأخرى إلى حالة الفشل.
تكاليف تطوير مشروعات البنية التحتية وإعادة الإعمار في الوطن العربي وإفريقيا تُقدر الآن بآلاف المليارات من الدولارات، فالدول العربية التي عانت من الصراعات المسلحة مثل ليبيا والعراق واليمن وسوريا، تنتظر بداية عمليات إعادة الإعمار التي ستمتد على فترات متوسطة وطويلة الأمد، ومن المتوقع أن تبلغ التكلفة الإجمالية لتلك العمليات أكثر من 480 مليار دولار (انظر الشكل التالي رقم 1).
المصادر: سوريا “تقديرات البنك الدولي 2018م” – ليبيا “تقديرات الحكومة الليبية 2021م” – العراق “تقديرات اتحاد المقاولين العراقيين 2021م” – اليمن “تقديرات البنك الدولي 2020م”.
ستقوم بعض الدول الإقليمية ذات الاقتصادات القوية بتنفيذ مشروعات ضخمة لدعم وتطوير بنيتها التحتية، ومن أمثلة تلك الدول المملكة العربية السعودية التي تسعى بحلول 2030 إلى تنفيذ استثمارات بقيمة إجمالية تبلغ 420 مليار دولار، وذلك لدعم مرافق البنية التحتية والنقل في عموم المملكة، وستبلغ قيمة الاستثمارات المنفقة على تشييد المدن الذكية فقط أكثر من 47% من هذا المبلغ.
تستحوذ القارة الإفريقية هي الأخرى على نصيب ضخم من الاستثمارات المتعلقة بالبنية التحتية، فوفقًا لأحد التقديرات التي أطلقتها مؤسسة ماكينزي الأمريكية Mckinsey & Company المختصة باستشارات الأعمال، هناك مشروعات تشييد متاحة للتنفيذ في مختلف دول القارة حتى عام 2025 بقيمة تصل إلى 2.5 تريلون دولار، كما ستؤدي الزيادة المضطردة لسكان القارة الإفريقية التي ستصل بحلول 2050 إلى قرابة 2.5 مليار نسمة، إلى زيادة الطلب على إنشاء الوحدات السكنية الجديدة بواقع 10 ملايين وحدة سنويًا، وذلك وفق تقديرات الاتحاد الإفريقي لمقاولي البناء والتشييد.
شركات وطنية قوية
أدى الازدهار العمراني الذي شهدته الدولة منذ عام 2014م إلى تحفيز العديد من المستثمرين المحليين إلى دخول مجال مقاولات التشييد والبناء، لذلك يوجد في مصر الآن أكثر من 20 ألف شركة مسجلة على قوائم الاتحاد المصري لمقاولي التشييد والبناء، ويصنفهم بدوره إلى سبع فئات مختلفة على حسب مجموعة من المعايير، مثل حجم أعمال الشركة، ورأس مالها، وسنين خبرتها في السوق، وعدد العمالة التابعة لها، والقيمة المالية لمعداتها.
توصف أغلب شركات المقاولات في مصر حاليًا بأنها حديثة العهد كما أنها صغيرة أو متوسطة الحجم، لذلك يأتي 80% من شركات المقاولات المصرية في المراتب الأربع المتأخرة من تصنيف الاتحاد المصري لمقاولي التشييد والبناء. في مقابل ذلك توجد أكثر من ثلاثة آلاف شركة مصرية كبرى ضمن الفئات الأولى والثانية والثالثة من تصنيف الاتحاد، وتتميز تلك الشركات بامتلاكها سجل أعمال كبيرًا من المشروعات السابقة، بالإضافة إلى العديد من المؤهلات الأخرى المطلوبة للعمل في المشروعات الدولية.
وتعتبر شركة المقاولون العرب التابعة للقطاع العام، واحدة من أكثر الأمثلة نجاحًا بين شركات مقاولات التشييد والبناء الكبرى في مصر، حيث نجحت تلك الشركة على مدار 65 عامًا في اختراق 26 سوقًا عربية وإفريقية، ونفذت فيها ما يزيد على 100 مشروع (انظر الشكل التالي رقم 2)، ولقد تميزت تلك المشروعات بالتنوع، فبعضها مشروعات لتشييد السدود ومحطات الطاقة الكهرومائية، وبعضها الآخر مشروعات لتشييد الطرق البرية والموانئ البحرية والجوية، فيما توزعت المشاريع الأخرى بين تشييد المباني الخدمية والمصالح الحكومية وبناء المرافق الاساسية.
سد جوليوس نيريري ومحطة الكهرباء الملحقة به، والذي تتحالف المقاولون العرب في بنائه مع شركة السويدي إلكتريك المصرية، يوصف بأنه واحد من أبرز مشروعات الشركة في إفريقيا، حيث سينتج هذا المشروع فور اكتمال تشييده 6307 آلف ميجاوات / ساعة سنويًا، وهو ما سيؤمن إمدادات الكهرباء لـ17 مليون أسرة تنزانية. كما يعد مشروع تطوير وتوسعة ميناء طرابلس اللبناني من أهم مشروعات البنية التحتية التي تنفذها الشركة بالوطن العربي، حيث يتوقع لهذا المشروع أن يُساهم في رفع قدرة التداول بميناء طرابلس إلى 5 ملايين طن من البضائع سنويًا، بزيادة قدرها 500% عن حالته القائمة قبل التطوير.
من الأمثلة الهامة أيضًا لمشروعات الشركة في مجالات الطرق والبنية الأساسية، مشروع تطوير شبكة الطرق الأسفلتية حول العاصمة التشادية نجامينا بطول 186 كم، ومشروع تطوير شبكة الصرف الصحي بمدينة صيدا بطول 141 كم ومحطة المعالجة الملحقة بها.
المصدر: الموقع الرسمي لشركة المقاولون العرب.
كما تُعتبر شركة أوراسكوم Orascom constructions المصرية التابعة للقطاع الخاص هي الأخرى واحدة من أقوى الشركات المصرية العاملة بمجال مقاولات التشييد والبناء خارج مصر، فإلى جانب مشروعاتها المحلية التي يفوق عددها إلى الآن 27 مشروعًا، تنفذ الشركة حاليًا 23 مشروعًا دوليًا، 6 منها بدول عربية كالإمارات العربية المتحدة والجزائر والبحرين والمملكة العربية السعودية. وقد كان من أهم تلك المشروعات عملية تطوير محطة الحامة لتحلية مياه البحر بالعاصمة الجزائر، والتي تنتج يوميًا 200،000 متر مكعب من المياه المحلاة، فيما تعتزم الشركة خلال الفترة القادمة توسيع دائرة أعمالها الإقليمية، وذلك عن طريق الدخول إلى عدد من أسواق الدول الإفريقية الواقعة جنوب الصحراء والتي تتميز بتعدادها السكاني المرتفع مثل غانا والسنغال وتنزانيا وكينيا.
كما تُعتبر شركة السويدي إلكتريك Elsewedy electric واحدة من أكبر شركات المقاولات التخصصية في مصر، حيث تهتم تلك الشركة بتنفيذ أعمال البنية التحتية المتعلقة بإنتاج ونقل الطاقة الكهربائية، ولقد استطاعت شركة السويدي خلال السنوات الماضية أن تنفذ 25 مشروعًا مختلفًا لمحطات وخطوط لنقل وتوزيع الكهرباء بعدد من الدول العربية والإفريقية، مثل المملكة العربية السعودية والجزائر وزامبيا وإثيوبيا وغانا وتنزانيا، إلى جانب ذلك استطاعت الشركة أن تفوز بتنفيذ عدد من المشروعات ذات الطابع الهندسي المدني في عدد من الدول الشقيقة، مثل إنشاء 54 كوبري وبربخ أعلى طريق برج بوعريرج السريع جنوب العاصمة الجزائرية، وتطوير عدد من حواجز الأمواج الحامية لمدينة مابوتو بجمهورية الموزمبيق.
منافسة محتدمة
وجود العديد من الفرص التنموية في قارة إفريقيا وإقليم الشرق الأوسط، دفع بالعديد من الدول إلى محاولة السيطرة على أكبر الحصص الممكنة من استثمارات المقاولات، وتُعتبر الساحة الإفريقية أفضل مثال لتصوير هذا التنافس المحتدم بين دول العالم المُصدرة لصناعة التشييد البناء، فوفقًا لتقرير Africa Construction Trends Report الصادر عن مؤسسة ديلويتي DTTL Delloitte البريطانية المختصة في استشارات وتقييم الأعمال، كان عدد المشاريع الكبرى المنفذة في إفريقيا عام 2020م هو 385 مشروعًا بقيمة مالية تجاوزت 399 مليار دولار أمريكي.
ولقد تنافست على تلك المشروعات العديد من شركات المقاولات التابعة للدول الكبرى والاقتصادات الناشئة، بالإضافة إلى الشركات الإفريقية المحلية (انظر الشكل التالي رقم 3)، إلا أن الشركات التابعة لدولة الصين استطاعت السيطرة على النصيب الأكبر من تلك الاستثمارات، حيث استطاعت الشركات الصينية أن تنفذ ما نسبته 31.4% من إجمالي مشروعات التشييد في القارة، فيما نجحت الشركات الإفريقية والحكومات المحلية في الاستحواذ على 30.6% من جملة المشروعات المنفذة، تلتها في الترتيب التحالفات المشتركة بين الشركات الإفريقية والدولية والتي سيطرت على 15% من المشروعات، فيما لم تستطع الشركات الأوروبية أن تستحوذ منفردة سوى على 9.9% من مشروعات التشييد، كما لم تنجح الشركات التابعة لبقية دول العالم ومن بينها الولايات المتحدة وروسيا والمملكة المتحدة وتركيا وأستراليا واليابان وكوريا الجنوبية إلا في الحصول على ما مجموعه 13% من جملة المشروعات في القارة السمراء.
المصدر: DTTL Delloitte.
تشهد العديد من دول الشرق الأوسط حاليًا حالة متصاعدة من التنافس بين شركات التشييد والبناء الإقليمية والعالمية، وذلك لرغبة تلك الشركات في الحصول على حق تنفيذ المشروعات المزمع تنفيذها في إطار تطوير البنية التحتية لبعض الدول، أو في إطار برامج إعادة الإعمار بالدول التي شهدت عددًا من الصراعات خلال السنوات الماضية.
وتعتبر دولة العراق واحدة من أفضل الأمثلة في إقليم الشرق الاوسط لتنافس شركات التشييد والبناء، فمع وجود حاجة ماسة لتطوير كافة مرافق البنية التحتية بالبلاد التي عانت من الإهمال لقرابة 20 عامًا، ومع الاحتياج الشديد لإعادة إعمار المدن والمناطق التي دمرتها الجماعات الإرهابية خلال العقد الماضي، قامت الحكومة العراقية باتخاذ عدد من المبادرات لتوفير التمويل اللازم لتلك العمليات التنموية المكلفة.
ومن ضمن تلك المبادرات قيام الدولة بدعوة الشركاء الدوليين لتقديم الدعم المالي والفني الذي تحتاجه العراق عبر بعض المحافل الدولية، كما قامت أيضًا بتفعيل آلية النفط مقابل الإعمار مع عدد من الدول الشقيقة والصديقة، وذلك لتجنب استنفاد السيولة المالية للدولة، ولقد نجح العراق بتلك الآلية الأخيرة في اجتذاب شركات من مصر والصين لتنفيذ المشروعات التنموية المطلوبة، لكن عددًا من الدول الإقليمية كإيران وتركيا تقوم بالضغط على السلطات العراقية من أجل الحصول على بعض الحصص من مشروعات التنمية في البلاد، كما تسعى عدد من الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي لإزاحة الصين، والاستحواذ على ما تنفذه من مشروعات بداخل الأراضي العراقية.
خطوات لتعزيز مكانة مصر
توجد العديد من الفرص المتاحة أمام الشركات المصرية العاملة في مجال مقاولات البناء والتشييد، وذلك لتوسيع دائرة أعمالها بالأسواق الإقليمية في الدول الشقيقة على المستويين العربي والإفريقي. لكن حجم المنافسة الكبير الذي ستواجهه شركاتنا الوطنية في الخارج، يتطلب منا تنسيق مجموعة من الخطوات المتكاملة وذلك لتعزيز مكانة المقاول المصري، وهو ما سيضمن بدوره حصول مصر على حصص جيدة من سوق التشييد والبناء عربيًا وإفريقيًا.
أولى الخطوات التي يجب أن تراعيها الجهات المختصة، هي ضرورة وضع استراتيجية متكاملة لتصدير صناعة مقاولات التشييد والبناء إلى الدائرتين العربية والإقليمية، حيث تساهم مثل تلك الاستراتيجيات في تنسيق مجهودات الأطراف الفاعلة في الصناعة، سواء كانت جهات حكومية أو مؤسسات تابعة للقطاعين العام والخاص، مما يعظم بدوره من إمكانات قطاع التشييد والبناء المصري أمام المنافسين الخارجين، ويساعد الشركات الوطنية على التكامل فيما بينها في حال الاحتياج لتخصصات فنية مختلفة بأي مشروع إنشائي محتمل.
كما يمكن للحكومة المصرية أن تنسق برامج تحفيزية للشركات الصغيرة والمتوسطة العاملة بمجال مقاولات التشييد، والتي يقدر عددها الآن بأكثر من 16 ألف شركة، وذلك لكي تطور من إمكاناتها وقدراتها مع مرور الوقت، وهو ما سيؤهلها فيما بعد لمضاهاة المعايير الدولية التي تسمح لها بالعمل في المشروعات الخارجية، بالإضافة إلى ذلك تستطيع الجهات المختصة دمج الشركات المصنعة لمواد البناء والمنتجات التكميلية ضمن أي استراتيجية مزمعة للتصدير العقاري، وذلك للاستفادة من إمكانات الصناعات المصرية في تنفيذ المشروعات الخارجية، مما يعود بفوائد مضاعفة على الاقتصاد الوطني.
ويجب على الدولة المصرية أن تستمر في مساعيها السياسية لعقد الاتفاقات والبروتوكولات مع الدول الشقيقة في إقليم الشرق الأوسط وأقاليم التكتلات الاقتصادية الإفريقية الثلاث، من أجل تسهيل عمليات دخول وخروج الشركات المصرية وأفرادها ومعداتها، وإزالة كافة القيود الإدارية والتمويلية التي قد تعطل أعمال تلك الشركات أو تحد من قدراتها. كما يجب على الدولة أن تستمر في خططها القائمة لتقوية مكاتب التمثيل التجاري الخارجي، والتي تسهل على الشركات الوطنية الحصول على المعلومات المطلوبة حول طبيعة المشروعات التنموية المطروحة أو محل الدراسة في أي دولة، كما تساعدها في التغلب على المعوقات المحتملة وقت تنفيذ المشروع.
وإلى جانب ذلك، يجب على الجهات المختصة أن تراعي توفير شبكة كبيرة من فروع البنوك الوطنية بالدول المستهدفة في استراتيجيات تصدير صناعة مقاولات لبناء والتشييد، حيث يسهل وجود فروع البنوك الوطنية في تلك الدول عملية إصدار خطابات الضمان وتحويل المبالغ المالية لتنفيذ المشروعات الإنشائية المختلفة، مما يحقق سرعة ومرونة لشركات المقاولات في إنجاز الأعمال.
أخيرًا، يتعين على الحكومة المصرية أن تهتم بملف الدعاية والترويج لصناعة التشييد والبناء بداخل الدول المستهدفة في استراتيجيات التصدير العقاري، وذلك لعرض قدرات شركاتنا المصرية العاملة في هذا المجال والتي ظهرت بوضوح مع تنفيذ المئات من المشروعات الإنشائية داخل وخارج البلاد خلال السنوات القليلة الماضية، كما يجب على الحكومة أن تهتم أيضًا بتنظيم المعارض الدولية بتلك الدول المستهدفة في استراتيجيتنا التصديرية، وذلك لتحقيق التواصل المباشر بين العملاء المحتملين وممثلي شركات المقاولات الوطنية.