يشترك المواطن العادي والمثقف والناشط والمؤرخ والخبير وعالم السياسة وعالم الاجتماع والفيلسوف وممارس السياسة، في اهتمامهم بتقييم القرارات السياسية وبكيفية اتخاذها، والكثير منهم يميل إلى تبسيط الأمور، والقليل يدرك صعوبة عملية اتخاذ القرار وتقييمه.
من ناحية، هذه الدراسة هي محاولة لإلقاء الضوء على بعض تعقيدات القضية التي تعود إلى مشكلات عديدة، منها تداخل ما هو موضوعي وما هو ذاتي في عمليات اتخاذ وتقييم القرار. من ناحية أخرى، ترمي هذه الدراسة إلى تفسير مقولة سائدة في أوساط المثقفين والمحللين الغربيين، مفادها أن أداء قيادات الدول الديمقراطية الغربية تدهور أو على الأقل أصبح سيئًا جدًّا، على صعيد السياسة الخارجية والداخلية، وإن كان هذا صحيحًا، هل يمكن معالجة الموضوع ولو جزئيًّا؟
نظريًّا وعمليًّا، وضع المؤرخ هو الأفضل، إن أجاد ممارسة مهنته، وضعه أفضل لأن الأرشيف متاح، ولأنه يعرف كيف جرت الأحداث بعد اتخاذ القرار، ولأنه يستطيع –إن شاء- في أغلب الأحوال أن يحيد ميوله الذاتية، أقول في أغلب الأحوال لأن هناك أحداثًا ماضية ما زالت حاضرة، مثل الصراع العربي الإسرائيلي على سبيل المثال.
تجد عددًا معتبرًا من المؤرخين يميلون إلى مراجعة تقييم القرارات بعد دراسة شاملة لموضوعهم، فيقولون عن قرار بدا صائبًا لمعاصريه إنه كان في الواقع خاطئًا. والعكس صحيح، فقد يذهبون إلى تأكيد التشخيص الأول. هناك طبعًا مراجعات غير جادة أو ظالمة، أو خاطئة رغم جديتها، أو غير حاسمة. كل هذا لا يمنع أن وضع المؤرخ هو الأفضل.
وللفيلسوف مميزات نسبية تتلخص في قدرته على سؤال المسلّمات، ولكن أغلبه يميل إلى إهمال دراسات المؤرخين وعلماء السياسة، لأنه يرى أن التأصيل العلمي والمنطقي فيها ضعيف. لكن تبعات ميله هذا واضحة، تتمثل في إهماله أحيانًا لدروس الواقع، وهي مفيدة وإن كانت أحيانًا مقيدة للتفكير الحر.
الوضع الأصعب في تصوري هو وضع القائد السياسي، ويليه وضع الخبير، لأنهما لا يملكان كل المعلومات، ولأنهما لا يملكان إلا نادرًا ترف وقت الدراسة المستفيضة. هناك اختلافات مهمة بين وضع كل منهما؛ فالقائد مسئول، وقد تكون معلوماته أشمل أو أقل (وفقًا لكفاءة جهاز الدولة وفريق عمله)، ولكنه لا يملك ترف التخصص أو ترف إهمال بعض جوانب الموضوع.
ماهية القرار الرشيد؟
نبين أولًا فساد بعض المسلمات السائدة في الرأي العام. منها أن القرار الرشيد رشادة كاملة أمر ممكن لو صدقت النفوس، ومنها أن العمل الجماعي يحصن تلقائيًا ضد الأخطاء، وأن القرار الفردي يؤدي حتمًا إليها.
القرار الرشيد رشادة كاملة هو قرار حدد المشكلة الواجب حلها تحديدًا دقيقًا، وحسب حسابًا كاملًا للموارد والقيود، والمكسب والخسارة، ووازن بين كل السيناريوهات الممكنة، ودرس كل الحلول المحتملة، ثم بحث الاستغلال الأمثل للموارد المتاحة، وعين “الشخص المناسب” ليقوم على الأمر ويشرف عليه. هذا ببساطة غير ممكن إلا نادرًا جدًّا. هناك إجماع من المختصين –من خبراء علم القرار وممارسين للسياسة- على هذا.
أولًا: هذا يهمل عامل الوقت. الأصل –وتوجد بالطبع استثناءات– أنه لا القيادة ولا الخبير يملكان الوقت الكافي لدراسة الموضوع من كل الجوانب.
ثانيًا: يفترض هذا التصور أن المعلومات موجودة كاملة واضحة، وأنها ليست حمالة أوجه. ولا يتحقق هذا الفرض إلا نادرًا. حتى أعتى أجهزة جمع المعلومات لا تستطيع التأكد بنسبة مائة في المائة بما يدور في ذهن الفرقاء.
ثالثًا: أن اتخاذ القرار أو تقييمه يقتضي القدرة على حساب المكسب والخسارة من ناحية، والمفاضلة بين بدائل وسيناريوهات، وكلها في علم الغيب (إلا بالنسبة للمؤرخ الذي يعرف نتيجة سيناريو واحد وهو ما حدث بعد القرار).
كذلك، فإن مسألة تعيين الرجل المناسب تلعب فيه الاعتبارات الذاتية دورًا كبيرًا، وينطوي دائمًا على “رهان”. لأن نجاحات الماضي أو الفشل ليسا إلا مؤشرًا أو قرينة. ويشير كتاب “القيادة العليا” للدكتور “إليوت كوهين” إلى عبقرية الرئيس “لينكولن” الذي كان قادرًا على إعطاء فرصة جديدة لرجل قد فشل مرة ولكنه يراه كفئًا. ويروي كتاب هالبرستام “الأحسن والأكثر لمعانًا” قصة رجال جون كينيدي وجونسون، وهم من صفوة الخبراء، وكيف ورطوا الولايات المتحدة في حرب فيتنام. بالطبع، استخدام الموارد يخضع لقيود عديدة؛ فهي محدودة، كما أن صرف المال يخضع لضوابط وقوانين تعرقله. والاستثمار في البحث العلمي دائمًا هو رهان قد يكون رابحًا وقد يكون خاسرًا.
من الواضح أن حساب المكسب والخسارة هو عملية تلعب فيها العوامل الذاتية دورًا مهمًا، لا سيما فيما يتعلق بالقرارات التي تنتج آثارًا تعيش طويلًا. مصر -على سبيل المثال- ربحت كثيرًا من تدخلها في اليمن سنة ١٩٦٢، لكنه ربح لم يتضح إلا بعد عقد أو عقدين، وهذا القرار مثال جيد لما نقصده، فقد بدا حكيمًا وضروريًا في سبتمبر ١٩٦٢، وبدا كارثيًا بعدها بسنة، وكارثيًا لأبعد الحدود سنة 1967، وبعدها بعقد بدا معقولًا وجيدًا لأسباب منها أمن البحر الأحمر وباب المندب. ويمكن قول نفس الشيء فيما يتعلق بقرار واشنطن الاستعانة بالجهاديين ضد السوفيت في أفغانستان؛ القرار بدا حكيمًا بل عبقريًا أيامها، ولكن ليس كذلك بعد ١١ سبتمبر 2001.
وبالمناسبة، هذه الأمثلة تطرح أسئلة لا نهاية لها وبعضها مهم، منها مثلًا: هل الخطأ في القرار الأصلي أم في المتابعة؟ من البديهي أن أي قرار يجب أن يدرس قدرة الدولة ورجالها على تنفيذه، والقدرة على تحمل تكلفته لفترة يجب تحديدها، ولكن حساب تلك القدرة مسألة صعبة جدًّا لو كانت المدة الزمنية معروفة مقدمًا، ومستحيلة لو لم تكن كذلك.
سؤال آخر، نفترض –ولدينا أمثلة- أن قرارًا أو سياسة حققت أهدافها بالكامل، ثم اتضح بعد مدة طويلة (أو قصيرة) أن المكاسب التي حققتها هذه السياسة أو تلك القرارات هي مكاسب مؤقتة، أما على المدى الطويل فهي “ورطة” تجلب الكوارث. قيل -على سبيل المثال- إن بسمارك على عبقريته وحنكته أوجد وضعًا لا يستطيع إدارته إلا عبقري مثله، وضعًا تكون فيه ألمانيا مستهدفة من كل دول أوروبا المهمة، لا يستطيع قائد “عادي” التعامل معه؛ هل هذا يقتضي مراجعة لحكم التاريخ عليه؟ قطعًا ستختلف الآراء، هنا نريد فقط أن نبين تداخل الذاتي والموضوعي في عملية التقييم.
ويمكننا أيضًا الحديث عن القرارات التي تؤثر على سمعة البلاد بالسلب أو بالإيجاب، وكيف يمكن تقدير عائد السمعة الطيبة وتكلفة السمعة السيئة؟ هل مكيافيلي دائمًا على حق عندما يقول “الأفضل من أن تكون محبوبًا أن يخشاك الناس”. من الواضح أن لا رد مطلقًا على هذا، إلا القول بأن أسوأ وضع هو أن تكون مكروهًا ولا تثير الخوف.
وبصفة عامة، يقتضي أي قرار الموازنة بين ضرورات ومصالح وغايات ووسائل ومقتضيات متعارضة كلها بالغة الأهمية، المصلحة والسمعة الأخلاقية، الأمن والاقتصاد، السرعة والاستقرار، التصعيد والتهدئة.. إلخ.
المشكلة الثانية فيما يتعلق بعملية المقارنة بين الواقع والبدائل التي استُبعدت هي غموض مفهوم السببية. وهنا نلخص المشكلة كالآتي: السببية معناها حرفيًّا: كلّما فعلت “أ” حصلت على “ب”، أي إنها تفترض التكرار، والتاريخ لا يتكرر إلا نادرًا، والأوضاع لا تتكرر إلا نادرًا، كل “قانون” له عدد هائل من الاستثناءات. في العلوم الاجتماعية والإنسانية القوانين “ترجح” ولا “تؤكد”. وقد تستطيع أن تتحمل ترف الخطأ في المعمل أو في الجامعة، لكن حياة الأمم ومصيرها قضية مختلفة. ما أقصده أنك لا تستطيع أن تتوقع بدقة رد فعل الفرقاء على ما تفعله، حتى لو كان نمط سلوكهم معروفًا، مع استثناءات مهمة سنذكرها.
وتزداد الضبابية مع ازدياد عدد الخصوم والحلفاء والفرقاء وتنوع مواردهم ومصالحهم. ومن الواضح أن العولمة ساهمت بقدر كبير في زيادة الضبابية؛ فعدد الفرقاء زاد، وزاد تنوع مصالحهم ومواردهم، بحيث أصبح من الصعب تحديد عدد الفرقاء وكيفية موازنتهم للاعتبارات المتعارضة. ويُعد تعدد المقاربات لعلاج أزمة وباء كورونا مثالًا جيدًا على ما نقوله.
ويبدو لي بعد سنوات من الدراسة (لا تعصمني من الخطأ طبعًا) أن الخصال المطلوبة هي الحصافة والفطرة السليمة (أو ما يسميه الفيلسوف الكبير “برلين” القدرة على الإحساس بالواقع وفهمه)، بمعنى أن نفهم خصوصية كل وضع، ومتى وكيف يجوز القياس على السوابق، والقدرة على التمييز بين المحوري والثانوي، والقدرة والرغبة في الاستماع إلى رأي مخالف ومناقشته. وجدير بالذكر أن إشراك الكثيرين في المناقشات لا يضمن -في حد ذاته- طرح ومناقشة الرأي الآخر. أضف إلى ذلك فهم ما يمكن طلبه أو فرضه من جهاز الدولة أو المجتمع، ودفتر تليفون جيد وقدرة على استعماله ورغبة في هذا، بمعنى معرفة من هم أهل العلم في تخصص ما ونقاط قواهم وضعفهم. وبعد كل هذا تأتي الثقافة التاريخية والسياسية الواسعة التي تعين جدًّا لكنها ليست ضرورية. وفيما يتعلق بالقائد تحديدًا يمكن إضافة القدرة إلى استغلال الفرص السانحة، والقدرة على تقليل الخسائر عندما تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن.
إحدى المشكلات الجوهرية في عمليات اتخاذ وتقييم القرار –وبالمناسبة كل عملية اتخاذ قرار تنطوي على تقييم ولو متسرع لبدائل- هي الموازنة بين اعتبارات المدى القصير والمدى الطويل، وبين ما هو جزئي وما هو شامل، ولا نقول إن الغلبة يجب أن تكون للشامل أو للمدى الطويل. بل نقول إنه –بقدر الإمكان وهذا ليس دائمًا ممكنًا- يجب عدم نسيان أحدهما. ويلاحظ دوليًّا أن هناك تراجعًا في الاهتمام بالمدى الطويل، باستثناء ما هو متعلق بالأمن الحربي والعسكري.
ما قصدته من هذه المقدمة الطويلة هو بيان أن نقدنا لتدهور مستوى القرارات في الديمقراطيات الغربية لا يتأسس على تصور ساذج حول ماهية وإمكانية القرار الرشيد. نعلم الصعوبة ونعلم أن حكم التاريخ شديد القسوة، ولا يلتفت بما فيه الكفاية لمعضلات عملية صنع القرار. ولكون الصدفة تلعب دورًا كبيرًا في الأحداث.
رغم فهمنا لاستحالة القرار الرشيد، أو على الأقل صعوبته، لا يمكننا تجاهل قضية تدهور كفاءة الحكام في الدول الديمقراطية الغربية. أولًا، مصطلح “تدهور” يتطلب تحديدًا، لأنه يفترض مقارنة، فهل نستطيع أن نجزم أن الأداء الحالي أسوأ من الأداء خلال الفترة بين اندلاع الأزمة الاقتصادية الكبرى في عشرينيات القرن الماضي وبدايات الحرب العالمية الثانية، حيث أخفقت النخب في إدارة الملفين الاقتصادي والأمني الخارجي؟ لا يمكن الرد بدقة لأسباب، منها: أن التحديات التي واجهتها الديمقراطيات الغربية في الثلاثينيات كانت أكبر بكثير، فقد يعتبر هذا ظرفًا مخففًا لصعوبات الموقف أو بالعكس ظرفًا مشددًا. ولم تدرك تلك النخب شدة الخطر، وتأخرت في التعامل معه. من ناحية أخرى، لعبت ذاكرة الحرب العالمية الأولى دورًا مهمًّا في شل العواصم المعنية؛ فلم يكن أحد راغبًا في تصعيد قد يؤدي إلى حرب عالمية جديدة. ومن ناحية ثالثة، كانت المعارف فيما يتعلق بإدارة الاقتصاد أقل تطورًا من اليوم، أي إن الأداء كان أسوأ ولكن الظروف المخففة كثيرة. ومنها أيضًا أن المخاطر كانت جديدة ومن الصعب تخيلها أو فهمها. لم يكن أحد من المراقبين يتصور إمكانية حدوث ما حدث بعدها رغم صراحة “هتلر” في كتابه “كفاحي”. وسنعود إلى هذه النقطة عند تقييمنا لأحاديث بعد القادة الغربيين.
لهذه الأسباب لا نعقد المقارنة بين أيامنا وعقد الثلاثينيات؛ بل نقارن بين أداء قادة اليوم ومن سبقوهم. ويبدو واضحًا أن الأجيال الحالية من القادة أقل توفيقًا في عملهم السياسي من بعض من حكموا بين سنة ١٩٦٠ وسنة ١٩٩٥.
ونشير هنا إلى ضرورة التمييز بين أوروبا الغربية والولايات المتحدة والصين، حيث يمكن القول إن الاتحاد الأوروبي ودول أوروبا الغربية قائمة على مشروع إرساء وتعميم حكم القانون ليشمل كل المجالات بهدف خلق عالم لا يحتاج إلى سياسة، أو أن تكون فيه السياسة مجرد سن قوانين وتطبيقها، بينما تُعلي الصين من شأن السياسة ولا تؤمن بالقانون ولا تراه إلا إجراء إداريًّا معاونًا. أما الولايات المتحدة فتؤمن بالتوازن بين السياسة والقانون، إلا أن رجال الأعمال والمال يتمتعون فيها بنفوذ غير مبرر.
وعندما نتناول قضية الأداء السيئ للساسة الغربيين، تجد كبار الموظفين المشاركين في رسم السياسة يشيرون بسرعة إلى عاملي ضغط الوقت والإعلام. ويرون أن نشأة قنوات الأخبار العاملة على مدار اليوم –وهذا تطور محمود من معظم الجوانب لأنه يخلق نوعًا من المشاركة الجماعية، ويقلل من المسافات بين مختلف الفئات- أوجد ضغطًا قاسيًا على المسئولين، لإلحاحها الشديد، ولأن صاحب أول رد فعل يُساهم بطريقة رئيسية في رسم ملامح المشهد، ويكتسب ميزة على حساب الفرقاء، ويجبرهم على الدفاع عن أنفسهم. وفي المقابل –وهذا ما يهمنا- لم يعد هناك وقت يسمح بدراسة الموضوع من كافة جوانبه، وذلك في وقت تتعقد فيه كل القضايا وتزداد ارتباطًا، وتزداد فيه أعداد الفاعلين. إحدى تبعات طغيان الإعلام المرئي ازدياد أهمية “تسجيل المواقف”، أي صياغة مواقف تلقى استحسان الرأي العام أو جماعات الضغط بصرف النظر عن حكمتها وتوابعها؛ فتتراوح التصريحات بين “العنترية” أو الخلو من المضمون خوفًا من إغضاب أحد. ما نقوله ليس مطلقًا، فهناك من يُجيد صياغة مواقف متزنة أو له ما يبرره ويرضي الجمهور أو على الأقل يقنعه. إلا أن الحصاد العام يوحي بأن الإعلام المرئي لعب دورًا في انهيار مصداقية الساسة. القليل فقط ينجح في أن يبدو صادقًا وكفْئًا في الوقت نفسه.
هذا وتلعب وسائل التواصل الاجتماعي والتكنولوجيات الحديثة –مثل التليفونات الذكية الحاملة لكاميرات- دورًا في زيادة الضغوط على أصحاب القرار، فالصور القاسية من شأنها التأثير على الرأي العام، كما أن بنية رواية النشرة الإخبارية تحتاج دائمًا إلى توزيع أدوار بطريقة مبسطة بين الخير والشرير، وتعظّم من تأثير التصريح السياسي غير الموفق أو من حجم مشكلة وتهمل متغيرات قد تكون مهمة.
كما سهّلت شبكات التواصل الاجتماعي عمليات الحشد للاحتجاج، لأنها تسمح للفرد بأن يعرف إن كان هناك من يشاركه في مطالبه أو غضبه وعددهم، وسمحت لأي مجموعة صغيرة أو متوسطة بأن تحصل على تأييد كتل كبيرة إذا وُفقت في خطابها. وبقدر ما هي توفق في عملية الحشد بقدر ما هي تعرقل أو تصعب عملية تعيين قائد أو فريق يمثل المحتجين ويتفاوض باسمهم. أي إن الشبكات تسهل التعبير عن المكبوت الفردي والجماعي، وتضعف الأحزاب، وتصعب الحلول الوسطى والتفاوض.
مشكلة ضعف السرية وضغط الوقت
وتفاقم تلك التطورات ميلًا رصده “توكفيل” في القرن التاسع عشر، وهو أن ضغط الرأي العام في النظم الديمقراطية يؤثر بشدة على ما يمكن أن يُقال وما يجب أن يُكتم، لمراعاة مشاعر فئات. لقد شاهدت كل المجتمعات في كل الأزمنة فوارق كبيرة بين ما يقال في العلن وما يقال في الاجتماعات والمجاس المغلقة. ومع ازدياد عدد المنابر كثرت عمليات التسريب وضعفت السرية، مما أثر سلبًا على ما يقال وجديته في الاجتماعات الخاصة والمغلقة؛ فلم يعد يضمن أحد سرية ما يقوله. ويلعب ازدياد التناقضات بين مكونات الشعب دورًا في نفس الاتجاه، وتضييق مساحة المصارحة. فرنسا مثلًا بها أكبر جالية يهودية وأكبر جالية إسلامية في أوروبا، وأي تصريح متعلق بالشرق الأوسط يمكن أن يثير توترًا أو فتنة. وجدير بالذكر أن التزام السكوت أو الحرص في مثل هذه القضايا يأتي بنتائج عكسية، فيغذي نظريات المؤامرة ويقوي مقولات من يري أن النخب أدمنت الكذب.
موضوع السرعة والتسرع ليس القضية الوحيدة فيما يتعلق بالقيود التي يفرضها الوقت. ففي الدول الديمقراطية تعرقل التوقيتات الانتخابية الإصلاحات التي تحتاج إلى وقت قبل أن تظهر نتائجها والتي من شأنها تعميق الاستقطاب أو على الأقل خسارة فئات من جمهور الناخبين. ولا يوجد إصلاح عميق لا يضر بفئات من الرأي العام. والقادة الذين نجحوا في فرض إصلاحات حقيقية (بصرف النظر عن تقييمنا لها) دفعوا ثمنها وخسروا الانتخابات (شرودر في ألمانيا، هولاند في فرنسا، أما ماكرون فقد واجه احتجاجات واسعة). وبصفة عامة، يمكن القول إن الإصلاح الجذري يثير دائمًا مشكلة توقيت. التوقيت الأفضل هو عندما يكون الوضع هادئًا والموارد متاحة (أي إصلاح جدي يتطلب إنفاقًا مهمًا)، لكن في مثل هذا الوضع لا يتفهم الرأي العام ضرورة الإصلاح، ويخشى القادة أن تفشل العملية فيتهمهم الناس بتخريب منظومة كانت فاعلة. وعندما يكون الوضع مأزومًا يكون الرأي العام أكثر تفهمًا لدواعي الإصلاح، ولكن الموارد والقدرة عليه أقل. وواقعيًا يميل القادة إلى خوض العملية فور انتخابهم على أمل أن تظهر النتائج قبل الاستحقاق الانتخابي التالي. هناك استثناءات بالطبع، أهمها الحالة التي يشعر القائد المنتخب أن عليه محاولة تنفيذ وعوده غير الواقعية قبل أن يخوض أي إصلاح، وعندئذ يكون الإصلاح محدودًا خجولًا خوفًا من تأثيره على الانتخابات القادمة.
سيقول البعض إن المشكلة الأخيرة -الخوف من التأثير الانتخابي للإصلاحات- ليست بالمستحدثة، وهذا صحيح، لكن المشكلة أن الإصلاحات التي تفرضها العولمة هي الأعمق منذ نهاية الحرب العالمية الثانية لأنها تعيد تعريف العقد الاجتماعي القائم على رأسمالية/ اقتصاد سوق زائد دولة رفاه.
هذا في وقت يسود فيه التشاؤم، حيث تعتقد الأغلبية أن الأسوأ قادم، وأن أبناءهم سيعيشون حياة أصعب من تلك التي عرفوها، وتسود فيه شكوك حول نوايا وقدرات النخب على مواجهة التحديات. المستشار “كول” في مطلع التسعينيات كان قادرًا على إقناع الألمان بضرورة الصبر والتضحية لفترة قد تطول، اليوم لا يوجد قائد غربي يستطيع أن يقنع جمهوره بهذا.
المسارات المهنية للساسة
هناك من يرى أن تطور مسارات الساسة المهنية أثّر بالسلب على معرفة مجتمعهم. طبعًا الإحصائيات واستطلاعات الرأي وعلم الاجتماع، لا سيما الانتخابي، يُمدون الساسة بالمعلومات، ولكن المعلومات المبنية على أرقام شيء، والمعرفة الناتجة عن الاختلاط بالناس ومعاشرتهم والاستماع إليهم شيء آخر. أغلب الساسة المنتمين للأحزاب التقليدية يقضون عمرهم في أروقة الحزب ومؤسسات الحكم، ولا يتعاملون مع الجمهور إلا إذا انتخبوا عُمَدًا. وساهم في توسيع الهوة نوعية الدراسة والمناهج والاتجاه إلى تحويل العمل بالسياسة إلى مهنة تتطلب مؤهلات ومهارات محددة. وعلى فرض أن السياسي احتفظ بصلات مع الجماهير -في دائرته مثلًا- إلا أنه يحتاج لتخصصات عديدة وإلى خبراء لا صلة لهم بالجمهور. ومن ناحية أخرى، يؤدي انتماء جزء كبير من نخبة الخبراء ومن الساسة إلى نفس الفضاء الاجتماعي (مدينة واشنطن مثلا/ أروقة الحزب/ المدرسة القومية للإدارة في فرنسا) إلى أن تحتل التوازنات المكونة لهذا الفضاء والمنافسة للهيمنة عليه، وحسابات الصعود فيه، والعلاقات الشخصية الإيجابية والسلبية فيه؛ حيزًا متضخمًا في دوافع وأسباب القرار، وهو حيز يكبر على حساب المصلحة العامة وضرورات الصورة الشاملة والمجالات الأوسع. هذا جليّ واضح في تعيينات السفراء والمشرفين على ملفات لها صلة بالسياسة الخارجية، لأن الرأي العام أقل اهتمامًا وإلمامًا بها. ويعرف المختصون أمثلة كثيرة لقرارات خاطئة ذات تبعات واضحة لا يفسرها إلا العلاقات السيئة بين المسئولين.
وبالمناسبة قولنا إن الخبراء لا صلة لهم بالجمهور لا يُقصد به تسفيههم؛ فليس من المطلوب من طبيب أو من عالم اقتصاد أو من مهندس أو من خبير استراتيجي معرفة اتجاهات الرأي العام وفهم تطلعات الجماهير. هذه المعرفة من اختصاص السياسي وعالم السياسة. وقد أدى تراجع قدرتهما على القيام بمهمتهما إلى الإضرار بسمعة الخبراء في كل المجالات. وعلى كل حال، فإن جهل العلماء بتطلعات الجمهور لا يعني أنهم دائمًا على خطأ، بل يعني أن القائد لا يرغب أو لا يستطيع دائمًا الأخذ برأيهم خوفًا من ردود فعل الجمهور. هذه الحالة شائعة، لا سيما فيما يتعلق بالملف الاقتصادي.
بعض الملاحظات قد تكون ضرورية هنا. أولًا، حكمنا على الساسة وعلماء السياسة انطباعي؛ نعم نتابع بقدر المستطاع ولكننا لم نقم بتشكيل عينة وبدراستها دراسة مستفيضة. ثانيًا، نستثني علماء اجتماع الانتخابات وخبراء استطلاع الرأي من كلامنا. ثالثًا، نحكم على الساسة والخبراء الغربيين ومدركاتهم انطلاقًا من خطاباتهم وممارساتهم، وقد لا تعكس هذه الخطابات أو الممارسات قناعاتهم الحقيقية. أكثر من هذا، نحن متأكدون أن البعض لا يصدق ما يقوله (نحن مقربون من ناس على اتصال بهم). لكن الخطاب والممارسة هما الفيصل. رابعًا، لا نقول إن النخبة مجمعة على سياسة وخيارات بينما الشعب لا يريدها؛ فلا النخبة على خط واحد ولا الشعب. خامسًا، لا نقول إن تلك النخب غبية والشعب هو الذكي أو العكس. قد نقول إن تجارب الانتقال الديمقراطي الناعم نسبيًّا في أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية أنستهم أن الأصل أن الثورات وعمليات صنع شرعية جديدة وتداول السلطة وإعادة تشكيل العلاقات الاجتماعية تشهد صراعًا قد يكون بالغ القسوة والدموية. السياسة ليست حوارًا بين باشوات ونبلاء وخبراء.
ما نقوله إن بين النخب وفئات مهمة من الشعب فجوة كبيرة ومتزايدة؛ الجماهير تتهم النخب بالجمع بين التعالي عليها والانعزال عنها –وللتهمتين ما يبررهما من وقائع- وتغليب مصلحتها وأيديولوجيتها هي على مصالح وأيديولوجيات الشعب، وكل هذا مرفوض في مجتمعات تكون فيها المساواة والتمثيل السياسي ركنين للعقد الاجتماعي. وتتهم الجماهير النخب بالفشل في الإدارة، وترك الشعوب تدفع ثمن تلك الأخطاء. وتقول مثلًا -في تبسيط مخل- إن النخبة تسببت في أزمة ٢٠٠٨ العالمية ولم تدفع ثمنها بل صالت وجالت، في حين تراجعت أحوال الطبقات الأخرى.
ونركز أساسًا على الفشل في القيادة وفي اتخاذ القرارات.
الساسة والمتخصصون
كما قلنا فإن الفجوة بين النخب وفئات كثيرة تعود في شق منها إلى ظروف موضوعية، منها تعقد المشهد تعقيدًا بالغًا، داخليًّا وخارجيًّا. على سبيل المثال، لم تعرف البشرية نظامًا يمكن أن نصفه بالعالمية قبل سنة ١٩٤٥، ومنذ سنة 1945 حتى ١٩٩٠ كان هذا النظام ثنائيًا، مما سهل تثبيته وإدارته. أما وضعه اليوم فجديد تمامًا، ويتغير دائمًا. لم يعد من الممكن مثلًا تجاهل تبعات الكوارث التي تُصيب الشرق الأوسط وإفريقيا لأنه يترتب عليها نزوح ملايين من البشر إلى أوروبا. وتعود الفجوة أيضًا إلى ارتفاع سقف المطالب الشعبية المشروعة، وإلى الأيديولوجيات والمفاهيم السائدة في النخب المعولمة. وسنكتفي هنا بإعطاء بعض الأمثلة.
تؤمن كل النخب بضرورة المقاربة “العلمية” للأمور، والمقاربة العلمية هي ملعب المتخصصين. وبالمناسبة لا يمكن افتراض أن جمهور الخبراء دائمًا على حق فيما يتعلق بتخصصهم، ولكننا لن نخوض في هذا هنا، وسنكتفي بالتصريح بأن المتخصصين اللامعين في مجالهم لا يفهمون في غيره إلا نادرًا، ولكن السياسة تتطلب رؤية شاملة عابرة للتخصصات لا يمكن تأسيسها على علم خالص، فهي دائمًا في شق منها انطباعي، تحاول توفيق ما لا يمكن توفيقه (مثلًا مقتضيات الصحة والاقتصاد). وإزاء هذا الوضع -استحالة تأسيس رؤية شاملة أو كلية على أسس علمية- مال الكثيرون إلى المفاضلة (الواعية أو غير الواعية) بين خيارين؛ إما القول باستحالة الرؤية الشاملة، أو تأسيسها على أيديولوجيات، ونسوا أو تناسوا تنظير أرسطو لخصال السياسي وهي باختصار فهمه لكل وضع في خصوصيته والقدرة على العمل في إطار هذا الفهم، ونسوا أو تناسوا أن المقاربة العلمية ليست الصورة الوحيدة الممكنة للمقاربة العقلانية. وبمعنى آخر، يتأرجح أغلب القادة بين مقاربات فرعية لا اتساق بينها أو يكون الرابط بينها أيديولوجيا لا تأخذ كل العوامل في الاعتبار ولا تفهمها كلها.
أمثلة أخرى، من المعروف أن تدريس المواد المتعلقة بالنظام الدولي تحبذ إيجاد نظام دولي مؤسس على مبادئ ليبرالية، ويوسع دائمًا من نطاق المأسسة والعمل الجماعي وحكم القانون، ولا غبار على هذا بالطبع، بل هذا ضروري نظرًا لكمّ وخطر التحديات الجديدة، إلا أن القادة والساسة والخبراء لا ينتبهون دائمًا إلى تأثير هذه المقاربة وتغليبها على غيرها على تقييمهم للأوضاع. مثال: قرار الرئيس “أوباما” بسحب قواته من العراق وبزيادة التواجد العسكري في أفغانستان. كان السبب الرئيسي فيما يبدو هو أن الحملة ضد أفغانستان لها شرعية قانونية على عكس حرب العراق، ويمكن أن يُضاف إلى هذا الرغبة في توجيه رسالة إلى العالم مفادها أن عصر “بوش الابن” انتهى. كل هذا مبرر، إلا أنه يبدو أن سؤالًا مهمًا لم يُطرح: هل يمكن تحقيق أي نجاح في أفغانستان؟ أو على الأقل لم يُطرح سؤال المقارنة بين احتمالات تحقيق نجاح في الحربين. وبالتالي، يمكن القول –مع بعض التحفظات- إن الرئيس “أوباما” انسحب مبكرًا من بلد كان النجاح فيها محتملًا ليخوض حربًا لا يمكن تحقيق فيها أي نتيجة، لا سيما بعد أن قرر رفض تقديرات العسكريين فيما يتعلق بعدد القوات.
ويجهل بعض القادة الغربيين أبجديات الاستراتيجية وعلم الحروب، وإدارة الأزمات. ومن حقنا أن نتساءل عن دور تنظيم التعليم العالي في إيجاد هذا الوضع. في الستينيات كانت دراسات الأمن جزءًا من الدراسات الاستراتيجية، اليوم انعكس الوضع وأصبحت الاستراتيجية مادة ضمن مواد كثيرة تدرس في تخصص دراسات الأمن. بالطبع، لا نستطيع الجزم بوجود علاقة سببية واضحة ولكن تراجع أهمية الفكر الاستراتيجي واضح.
نعود أيضًا إلى الرئيس “أوباما” لتمتعه بتقدير فئات واسعة، قال في حديثه لـ”جيفري جولدبرج” إن القوات الأمريكية لا تستطيع أن تتدخل في كل صراع صغير، وعلى القائد تجاهلها لتكون القوات جاهزة للصراعات الكبرى والمهمة. وهذا الكلام على حكمته الظاهرة ناقص، ويتجاهل دروس التاريخ، هذا الكلام يجب تكملته بالتشديد على ضرورة إجراء تقييم للموقف يحدد أهمية احتمالات اتساع نطاق النزاع وتفاقم المشكلة؛ إن كانت عالية راجحة فلا بد من إخماده وحله وهو صغير. وأدت مقاربات “أوباما” إلى التأخر في محاربة تنظيم “داعش” وعدم الانتباه إلى خطره قبل سقوط الموصل رغم تعدد التحذيرات (وللإنصاف علينا أن نقول إن موقف رئيس الحكومة العراقية آنذاك نوري المالكي لم يساعد أوباما، الذي لم يرغب في الظهور مصطفًّا إلى جانبه ضد قوة سنية حتى لو كانت متطرفة).
تأثير المسلّمات الليبرالية والديمقراطية على مدركات جماعات السياسة الخارجية
ومن المعروف أن “توكفيل” قال إن المد الديمقراطي حالة اجتماعية قبل أن يكون نظامًا سياسيًّا، وإن هذا المد غيّر من طباع الإنسان ومن نظرته للعالم تغيرًا جذريًا، وأي فرد تواصل مع جماعة السياسة الخارجية الغربية يستطيع أن يرصد أو يلمس عمق تأثير النظرة “الديمقراطية” للعالم على التحليل الموصوف بالعلمي. لا نقول إن التخلص من مسلّمات الرجل الديمقراطي (أو غيره) مرغوب فيه دائمًا أو مستحيل، بل نرى أنه قد يكون مفيدًا وأنه يحتاج إلى وقت وإلى ممارسة ومغالبة النفس وخبرة طويلة. تجد كثيرًا تحليلات تفترض أن أي نظام غير ديمقراطي مهما كان لا مصلحة له في احترام القانون الدولي، ويدمن الكذب في كل الملفات بما فيها تلك التي لا تعتبر سياسية، والتحالف مع نظام غير ديمقراطي رذيلة من المستحسن أن تتم في الخفاء، وكل معارض لنظام سلطوي إنسان فاضل قائل للحقيقة مدافع عن الحق. قد يبدو كلامي كاريكاتوريًا، ولكنه ليس كذلك. ما زلت عاجزًا مثلًا عن فهم كيف نجح المرحوم “أحمد جلبي” في إقناع بعض ألمع كوادر النخبة الأمريكية بوجهة نظره.
رصد تأثير المسلمات الليبرالية والديمقراطية على مدركات الفاعلين في جماعات السياسة الخارجية في الدول الغربية يتطلب كتابًا. بداية نكرر أن هذا الفكر ومقاربته ضروريان، ولكن لا ينتبه الكثيرون إلى بعض آثاره الثانوية. على سبيل المثال، انقسمت جماعات السياسة الخارجية وغيرها حول تقييم استقرار النظم السلطوية. وبعد الربيع العربي، رجحت كفة القائلين بعدم استقرارها، وإن لم يختف القائلون بالرأي الآخر. ولم ينتبه الكثيرون إلى ضرورة عدم التعميم لأسباب منها أن مفهوم النظام السلطوي يخفي التباين والاختلاف الشديدين بين الأنظمة المصنفة في هذه الخانة. وساد تصور بأن الشعوب ستثور حتمًا، وستعاقب حتمًا الدول الغربية على دعمها المفترض أو الحقيقي للأنظمة غير الديمقراطية ولتعاملها مع “الطغاة”. وساد تصور بأن كل دول العالم ستكون إن آجلًا أم عاجلًا ديمقراطية. ويترتب على كل هذا -وعلى تصور ما بعد حداثي يرى أن الديمقراطية ليست حكم الشعب وضمان تداول السلطة بقدر ما هي التوسع الدائم في مفهوم الحقوق والتقليل الدائم من الواجبات- أن الدول الغربية، لا سيما الولايات المتحدة، تتعامل مع حلفاء سلطويين، فتسعى في الوقت نفسه إلى دعمهم وإلى تغييرهم غير منتبهة إلى التناقض بين الهدفين (أشار إلى هذه النقطة “لورانس فريدمان”)، وإلى الضغينة التي تترسب لدى كل من الحكم ومعارضته. هي طبعًا سترفض اتهامها بالهدم، وستقول إنها تسعى إلى تحول تدريجي إلى الديمقراطية، وهي قطعًا صادقة في أحوال وكاذبة في أحوال أخرى. ويزيد من الطين بلة عدم إدراك بعض الفاعلين الغربيين -وليس كلهم- أن التمسك بشعارات ديمقراطية سهل جدًّا، وأن المدافعين عن مشروعات شمولية يجيدون توظيف تلك الشعارات.
وهناك لدى البعض -ولا نعمم- ميل إلى اعتبار الحاكم السلطوي مسئولًا عن كل سلبيات مجتمعه؛ من الختان إلى الإرهاب مرورًا بالفساد ومشكلات أخرى، ولو حاربها الحاكم ونظامه فإن فشله في القضاء عليها تمامًا سيُنسَب حتمًا إلى طبيعة نظامه من قبل هؤلاء. قد أكون مبالغًا في تعميمي، ولكن الربط الغربي بين السلطوية والإرهاب والزعم أن الأولى سبب الثاني، وليس العكس، أمر مؤكد.
ونود أن نشير إلى أن هذه التصورات -حتمية التحول إلى الديمقراطية- لم تكن دائمًا وبالًا على الدول التي تتعامل مع الغرب. نشرت مجلة Foreign Affairs مرة مقالة تناولت “فشل” السياسة الأمريكية تجاه الصين، وبيّن كاتبها –ألخص الفكرة الرئيسية- أن الولايات المتحدة تصورت أن دعم الاقتصاد الصيني سيولد حتمًا طبقات وسطى، وأن صعود الطبقات الوسطى سيحتم طبعًا التحول إلى الديمقراطية. والحصاد أن واشنطن ساعدت بعناد يثير التعجب الصين لتصبح أقوى منافس لها. ومن المعروف أن الرئيس “أوباما” وغيره تصوروا الشيء نفسه فيما يتعلق بإيران.
ونود أن نشير أيضًا إلى كوننا لا نرفض رفضًا باتًّا المقولة بحتمية التحول إلى الديمقراطية، نقول فقط إن هذه المقولة ما زالت قيد الاختبار، وإن الحديث عن الحتمية لا يرد على سؤال مهم: هل التحول الحتمي سيحدث في سنوات قليلة أم سيحتاج الأمر إلى عقود وربما قرون؟ ونقول فقط إن الإيمان به يؤثر على رسم السياسة الخارجية، وإن تأثيره لا يكون دائمًا إيجابيًا. وهو حاليًا سلبي.
ويمكن القول إن السياسة الخارجية الغربية متأثرة بعوامل وعواطف واعتبارات متناقضة، تؤدي في أحوال ليست بالقليلة إلى رفع سقف المهام والمطالبات والأهداف مع تقليص، بل وتقليل، الموارد المادية والبشرية المخصصة لها. نقول إننا لسنا متأكدين من عمومية هذه الظاهرة، لكن تكرارها مثير للقلق. بدأت الظاهرة في حدود علمنا مع تعامل الرئيس “كلينتون” مع التواجد العسكري الأمريكي في الصومال، حيث سحب بعض القوات وأبقى على بعضها الآخر، مع زيادة أهداف وعدد المهام المكلف بها القوات، وأدى هذا إلى اصطدام دموي مع فرقاء محليين وانسحاب مهين. لكن المثال الأبرز هو التعامل الغربي مع الأزمة السورية، وقد نخصص مقالة أخرى له.
نكتفي هنا بالإشارة إلى خلاصة كتاب لسفير فرنسي، أن حصاد هذه الأزمة هو هزيمة للغرب تماثل أهميتها أهمية الهزيمة في الحرب الأهلية الإسبانية في ثلاثينيات القرن الماضي. ومغزى المقارنة ودلالتها واضحان، حيث يجمع المؤرخون على اعتبار الهزيمة في إسبانيا نقطة تحول في صالح الفاشية أدت لاحقًا إلى الحرب العالمية الثانية. لسنا متأكدين من دقة هذا التحليل، ولكنه يعكس مدركات قطاعات من جماعات السياسة الخارجية الغربية. وما هو ملفت للنظر أن الكاتب رأى أن المشكلة في قرار عدم التدخل العسكري وليست في تحديد الهدف.. على الرئيس “الأسد” الذهاب.
على العموم يترتب على الجمع بين التناقضات اللجوء المتزايد إلى سلاح العقوبات، ومن المبكر جدًّا الحكم على فعاليته، ونكتفي بالتحذير من التسرع في التقييم وفي التعميم. ويترتب عليه أيضًا سيادة أمرين أحلاهما مر؛ إما حالة إنكار أم إحساس بالفشل يؤثر على الثقة بالنفس، وكلاهما يؤثر سلبًا على التحليل.
ونرى أن المشكلة الأساسية في تحديد الأهداف، وهو تحديد غير واقعي في أحوال كثيرة. في مقالة أشرنا إليها في إطار تحليلنا للخطاب الغربي عن روسيا قال كاتبها إنه آن الأوان للتخلي عن فرضية حكمت طويلًا المقاربة الأمريكية، وهي أن واشنطن تملك من الأدوات ما يمكنها من دفع أو إجبار روسيا على تغيير تصوراتها عن أمنها القومي وبالتالي سياساتها، وكان الجدل يدور حول تفضيل العصا أم الجزرة. وأعتقد أنه من الممكن الوصول إلى نفس الخلاصة فيما يتعلق بملفات أخرى، مع التنبيه إلى كوننا لا نرفض دائمًا ارتفاع سقف الأهداف فقد يكون ضروريًا. وعلى العموم، فإن المبالغة الساذجة في تحديد الأهداف لها آثار جانبية عديدة، منها التشكيك الدائم في جدوى نصر عسكري حاسم. نحن طبعًا لسنا من دعاة الحروب، ولكن لا يمكن استبعادها في عالمنا الحالي. ومن الآثار الأخرى الامتعاض المتزايد من السياسات الغربية في عواصم كثيرة.
هذه النبذة غير كاملة وقد تكون انطباعية. نحن مثلًا ركّزنا على عيوب أو خصائص تشترك فيها كل دول الغرب المهمة. ومن الواضح أن لكل دولة تصوراتها وميولها وثقافتها، وتراثها في السياسة الخارجية ومدرستها. مثلًا الولايات المتحدة تميل إلى التسرع في شيطنة خصومها وتتصلب في المفاوضات، وفرنسا تحاول جاهدة الاحتفاظ بمظهر القوة المحورية وهي ليست كذلك دائمًا. أما بريطانيا فإنها تميل إلى الاصطفاف مع الولايات المتحدة ظالمة أو مظلومة، وتنتهج ألمانيا في أحوال ليست بالقليلة سلوك الراكب الذي لا يدفع تذكرة. وتتخذ كل الدول، لا سيما الولايات المتحدة وألمانيا، بين حين وآخر قرارات مفاجئة ومنفردة تضر بمصالح الكل. ومن ناحية أخرى، لم نتحدث على الإطلاق عن وجه آخر للسياسات تراجع جدًّا ولكنه لم يختفِ ويتعلق بالسياسات المرتبطة بالاستغلال الاقتصادي، ولا عن الحالات التي لجأ فيها الغرب إلى سياسة بالغة الخشونة للدفاع عن منظومة الاستغلال. وقبل كل شيء قد نكون ظالمين لكوننا لم نذكر بما فيه الكفاية عوامل تعقد المشهد وسرعة تطوره. ولم نتحدث كثيرًا عن التحول التكنولوجي مثلًا ولا عن صعوبة تحليل المعلومات.. إلخ، ولكن يبقى مع ذلك وجود كم من القرارات التي لا يمكن الدفاع عنها لا سياسيًا ولا أخلاقيًا.