التقى الرئيس الأمريكي “جو بايدن” في جدة بقادة دول مجلس التعاون الخليجي (البحرين، والكويت، وعمان، وقطر، والمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة) وقادة كل من مصر والعراق والأردن (GCC+3)، في 16 يوليو الجاري، وقد أُطلق عليها “قمة جدة للأمن والتنمية”، وكانت هذه القمة الأولى من نوعها بين هذه الدول. وقد انتهز الرئيس “بايدن” هذه الفرصة للتأكيد مجددًا على الأهمية التي توليها واشنطن لشراكاتها الاستراتيجية الممتدة لعقود في منطقة الشرق الأوسط، وكذا التزامها الدائم بأمن شركائها والدفاع عن أراضيهم؛ مع الإقرار بالدور المتزايد الأهمية للمنطقة. وهو ما دفع بعض التحليلات إلى اعتبار السياسة الأمريكية بصدد مراجعة تدفعها مجددًا إلى الانخراط بالمنطقة، وليس الانسحاب منها. الأمر الذي أثار العديد من التساؤلات حول فحوى ومحفزات التغير في سياسة واشنطن تجاه منطقة الشرق الأوسط.
الرغبة في الانسحاب
في أول خطاب رئاسي له حول السياسة الخارجية، بتاريخ 4 فبراير 2021، تبنى الرئيس “بايدن” نبرة تبدو مغايرة لسياسة سلفه “دونالد ترامب”؛ إذ شدد على استعادة الدور القيادي لواشنطن، متعهدًا بـ”بناء تحالفات دولية جديدة”. فيما اعتبر موقع “الحرة” الأمريكي -حينها- أن الشرق الأوسط لم يحظَ بالاهتمام الكافي في خطاب “بايدن”، بالاستناد إلى تجاهله الحديث حول القضايا الشائكة بالمنطقة، والإشارة إلى بعض الملفات كحرب اليمن، والتحديات المرتبطة بروسيا والصين، والتعامل مع اللاجئين. وهو الأمر الذي تم تفسيره من قبل أغلب التحليلات باعتباره رغبة أمريكية في الانسحاب من المنطقة، أو تقليل الانخراط الأمريكي بها على أقل تقدير لصالح ساحات أخرى باتت تحتل أهمية متزايدة بالنسبة لواشنطن، سيما منطقة المحيطين (الهندي – الهادئ). وهي المسألة التي دللت عليها تحركات الإدارة عبر استكمال مسار “فك الارتباط” بالشرق الأوسط، وسحب بعض الأصول العسكرية من السعودية بما في ذلك بطاريات صواريخ “باتريوت” وحاملات طائرات، والتركيز على تشغيل نظام دفاع “ثاد” المضاد للصواريخ الباليستية، وكذا إنهاء مشاركتها ضمن تحالف دعم الشرعية الذي تقوده السعودية في اليمن، بجانب إعادة تموضع القوات الأمريكية بالعراق، ناهيك عن الاستمرار في سياسة التهدئة والاحتواء التي صاغها الرئيس “باراك أوباما” في التعامل مع إيران من خلال العمل على التوصل إلى اتفاق نووي.
وفي هذا السياق، غلفت سياسة واشنطن تجاه منطقة الشرق الأوسط خلال العام الأول لإدارة “بايدن” ما أمكن اعتباره حالة من “عدم الاتساق” الناتجة عن عدم وضوح الأهداف الأمريكية في المنطقة، سيما مع تراجع الأهداف التقليدية الخاصة بأمن إسرائيل وتأمين تدفق النفط. إذ لم تعد إسرائيل في المحيط المعادي الذي يتطلب تواجدًا أمريكيًا لحمايتها؛ كما أن أهمية الطاقة التي تملكها المنطقة قد شابها بعض التراجع. علاوة على ذلك، فقد استنفدت المنطقة الكثير من الموارد والجهود الأمريكية بطريقة جعلت من الصعب إقناع الشارع الأمريكي –المنقسم بالفعل– باستهلاك المزيد من الموارد والجهود الأمريكية في المنطقة. لذا، بدا وكأن إدارة “بايدن” تتعامل مع أزمات الشرق الأوسط فرادى، وليس وفق رؤية شاملة.
ومن جانب آخر، كان لإرث الرئيس “ترامب” تأثير واضح على سياسة إدارة “بايدن” تجاه الشرق الأوسط، بالاستناد إلى الأرضية التي وضعها في معظم قضايا المنطقة بطريقة جعلت من الصعب الخروج عليها أو محوها. فمثلًا بالنظر إلى الملف الإيراني، اتضح صعوبة تجاوز التداعيات الناجمة عن انسحاب “ترامب” من الاتفاق النووي. بعبارة أوضح، من غير المفترض أن تدير إدارة “بايدن” المباحثات النووية الإيرانية بنفس منطق إدارة “باراك أوباما” متجاهلة التغييرات التي وقعت. وهو ما يمكن أن ينصرف قياسًا على القضية الفلسطينية، فالسفارة الأمريكية ستظل في القدس، والاتفاقات الإبراهيمية ستشهد دعمًا مستمرًا؛ غير أن الإدارة لا تزال تؤكد على مقاربة حل الدولتين وتقديم المساعدات للفلسطينيين.
هذا، وقد باتت تشابكات الأوضاع على الأرض في المنطقة أيضًا كعامل مؤثر في سياسة إدارة “بايدن”؛ إذ إن السياسة لا تسير بالضرورة وفق الرؤية المرسومة، ولكن تظهر تشابكات تؤثر –بل وقد تضع قيودًا- على تنفيذ هذه السياسة. وهو الأمر الذي انعكس جليًا في موقف الإدارة الأمريكية من الأزمة اليمنية الذي تراوح ما بين ترك اليمن كدولة فاشلة تحت سلطة الحوثيين، وبين التردد في دعم الموقف السعودي. وهو ما ظهر مرة أخرى في التعامل مع تركيا، التي جمعتها بالولايات المتحدة توترات متكررة من جانب، ولكن استمر النظر إليها في إطار كونها مطرقة للغرب في مواجهة خصومه في المنطقة من جانب آخر. علاوة على ذلك، فإن مساعي تقليل الانخراط الأمريكي بالمنطقة قد ساهم في إحداث فراغ سعت لملئه قوى أخرى، خاصة روسيا وإيران عبر مسارات سياسية وعسكرية وبناء تفاهمات وتجنيد وكلاء. أما الصين، فقد اتجهت لتعزيز علاقاتها بالمنطقة عبر المدخل الاقتصادي.
إعادة الانخراط
حمل العام الجاري مؤشرات تدلل على اتجاه واشنطن لإعادة النظر في سياستها الخاصة بــــ”فك الارتباط” بالشرق الأوسط. كما مثلت الحرب الروسية – الأوكرانية التي اندلعت في 24 فبراير الماضي محفزًا حرجًا لإعادة انخراط أمريكي جديد بالمنطقة؛ إذ عاد الشرق الأوسط ليحتل أهمية متزايدة بالنسبة لواشنطن وحلفائها. وقد انعكس هذا الاهتمام في مجموعة الزيارات التي أجراها مسئولون أمريكيون وأوروبيون إلى دول المنطقة. وبالإضافة إلى ذلك، فقد أعلنت قيادة القوات المشتركة في منتصف أبريل 2022 عن تشكيل “قوة المهام المشتركة 153” للقيام بدوريات في البحر الأحمر لمكافحة “الأنشطة الإرهابية والتهريب.
هذا، وقد تجلت أبرز المؤشرات بعودة الاهتمام الأمريكي بالمنطقة بالجولة التي قام بها الرئيس “بايدن”، والتي شملت إسرائيل والضفة والسعودية، وعقد قمة جمعت قادة دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والعراق والأردن. خلال القمة، كرر الرئيس “بايدن” التأكيد على الأهمية التي توليها واشنطن لشراكاتها الاستراتيجية الممتدة لعقود في منطقة الشرق الأوسط، وأكد أيضًا على التزام واشنطن الدائم بأمن شركائها؛ مشددًا على الدور المتزايد الأهمية للمنطقة لواشنطن والعالم.
وحدد الرئيس “بايدن” خمسة مبادئ رئيسية لتوجيه المشاركة الأمريكية في الشرق الأوسط خلال العقود القادمة؛ ينصرف أولها إلى الشراكات مع الدول التي تشترك في النظام الدولي القائم على القواعد؛ ويتصل ثانيها بمسألة الردع لأية أنشطة تقوم بها قوة إقليمية أو أجنبية لعرقلة حرية الملاحة بالمنطقة أو السيطرة على دول ومناطق أخرى؛ ويستند ثالثها إلى الدبلوماسية من أجل تقليل التوترات ووقف التصعيد وإنهاء النزاعات؛ ويقوم رابعها على التكامل عبر بناء روابط سياسية واقتصادية وأمنية بين شركاء واشنطن بقدر الإمكان؛ بينما يدور خامسها حول مسألة القيم، سيما المتعلقة بحقوق الإنسان وكذا القيم المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة.
عطفًا على ما سبق، فقد أعلن الرئيس “بايدن” تخصيص مليار دولار كمساعدات للأمن الغذائي للمنطقة؛ والتعهد بمساهمة أمريكية بقيمة 100 مليون دولار لشبكة مستشفيات القدس الشرقية، بجانب تعزيز التعاون مع الشركاء الخليجيين بشأن الاستثمارات في المشروعات التي تتوافق مع أهداف الشراكة الأمريكية للبنية التحتية والاستثمار العالمية. كما رحب الرئيس “بايدن” بإبرام العراق اتفاقيات مع السعودية والكويت والأردن لجلب الطاقة بأسعار معقولة للعراق. وتحدث مع القادة حول أهمية معالجة أزمات الطاقة من خلال ضمان زيادة الإمدادات بشكل مطرد من قبل الدول المنتجة حتى 2022 و2023، بما في ذلك من خلال زيادة الاستثمارات في طاقة التكرير. وأخيرًا، أكد التزام واشنطن بتسريع العمل الجاري مع حلفائها وشركائها في المنطقة لتعزيز التعاون الأمني؛ عبر قيام واشنطن بتطوير بنية وشبكات دفاعية جوية وصاروخية أكثر تكاملًا ومواجهة انتشار الأنظمة الجوية والصاروخية في يد الجهات الفاعلة غير الحكومية التي تهدد أمن المنطقة.
تعكس الرؤية الأمريكية المطروحة، وكذا الملفات التي تم طرحها خلال القمة ما يبدو كاقتراب أمريكي أكثر شمولًا وديناميكية للتعامل مع المنطقة. ولا يعني هذا بالضرورة أن جولة “بايدن” قد تحقق كل الأهداف الأمريكية في المنطقة أو تمثل الدفعة الرئيسية لإعادة الانخراط الفعلي على الأرض؛ وإنما قد تمثل خطوة أولى رئيسية لدفع هذا المسار قدمًا. ولكن يظل من الضروري البحث في دوافع واشنطن خلف هذا التغيير، سيما وأن هذه الدوافع قد مثلت المحفزات الرئيسية لإعادة توجيه سياسة واشنطن صوب المنطقة. وبالتالي، فإن التغير في الوزن النسبي لهذه المحفزات قد يحمل تغيرًا مماثلًا في سياسات واشنطن.
واستنادًا إلى ذلك، يتضح أن الأولويات الأمريكية تجاه المنطقة باتت تحمل مزيجًا من الأمن التقليدي وغير التقليدي، الأمر الذي يُمكن إرجاعه إلى التحولات التي طرأت على مفهوم “الأمن” منذ نهاية الحرب الباردة، والتي عملت على تجاوز التهديدات العسكرية إلى استيعاب التهديدات غير العسكرية، أو “غير التقليدية” التي تشمل تغير المناخ ونقص وانعدام الغذاء وأزمات الطاقة والأمراض المعدية والكوارث الطبيعية والجريمة عبر الوطنية والاتجار بالبشر والمخدرات والهجرة الجماعية. وبالتالي، فإن تعميق الروابط بين واشنطن والمنطقة بات يتطلب معادلة ذكية تحوي متغيرات الأمن التقليدي وغير التقليدي؛ وهو ما يبدو أن واشنطن قد أدركته.
علاوة على ذلك، فقد أعادت الحرب الروسية-الأوكرانية أهمية طاقة الشرق الأوسط للحيلولة دون حدوث اضطرابات في أسعار الطاقة وكذا تعويض نقص المعروض منها، بجانب المساعي المكثفة لتجنب وقوع أزمة غذاء عالمية. كما أن تعميق الروابط بين واشنطن ودول المنطقة يُقلل –بشكل أو بآخر– من فرص خصوم واشنطن على تعزيز نفوذهم أو تدعيم روابطهم بالمنطقة. علاوة على ذلك، لم يعد الدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة لإسرائيل يدور في فلك الأمن والدفاع، وإنما تجاوز ذلك إلى تشجيع دول المنطقة على تحقيق المزيد من التطبيع مع إسرائيل؛ وهو الأمر الذي أمسى متصلًا –إلى حد كبير– بالمسألة الإيرانية وسلوك طهران المزعزع للاستقرار في المنطقة. وأخيرًا، تظل التهديدات المرتبطة بالإرهاب والجريمة كمحفز مستمر، انطلاقًا من كونها قد تستهدف واشنطن بشكل مباشر في قواعدها العسكرية بالمنطقة، ناهيك عن قدرتها على إعاقة التدفق الحر للطاقة والغذاء على الساحة الدولية.
مجمل القول، إن السياسة الأمريكية تشهد حالة من المراجعة وإعادة النظر تدفع باتجاه المزيد من التفاعل والانخراط في المنطقة. لكن يظل هذا التحول في طوره الأولي الذي يتطلب المزيد من الوقت وسلسلة من التحركات من أجل تشكيله وبلورته على النحو المطلوب. لكن تظل الملحوظة الرئيسية في الأمر أن الأزمات الجارية على الساحة الدولية قد أرسلت رسالة جديدة حول أهمية منطقة الشرق الأوسط بطريقة لن تحمل معها اهتمامًا أمريكيًا فقط، وإنما تحمل أيضًا اهتمامًا مماثلًا من القوى الأخرى.
رئيس وحدة الدراسات الأمريكية