في مفاجأة من العيار الثقيل، أطلق أربعة من السياسيين المسئولين في خطاباتهم أمام المنتدى الاقتصادي العالمي بدافوس في سويسرا -والواضح أنهم لم يخططوا لذلك- تصريحات قوية تؤكد على ضرورة إنشاء جهاز دولي لحوكمة استخدام تكنولوجيا المعلومات، التي تُعد واشنطن أكبر دوله رائدة فيها. فقد أكد “شينزو آبي” (رئيس وزراء اليابان) أن بلاده ستطرح الأمر خلال اجتماعات مجموعة العشرين المقرر عقدها في أوساكا باليابان في يونيو القادم، مشيرًا إلى إمكانية مد صلاحيات منظمة التجارة العالمية التي تتولى حوكمة السلع والخدمات لتشمل مجال المعلومات أيضًا.
ومعنى ذلك ببساطة وضع قواعد حاكمة على ما يمكن إنتاجه من تكنولوجيا في مجال المعلومات، وتحديدًا في حقلي الذكاء الاصطناعي والسيبر باور Cyber-power، وهما في تقديري أخطر المجالات من الناحية العسكرية واعتبارات الأمن القومي التي تحدث عنها “شنزو آبي” صراحة، لأنهما عماد “الإرهاب الناعم” الذي يعد أخطر سلاح للجيل القادم من الإرهاب العالمي من جانب، كما أنهما أكثر مجالات المعلوماتية تقدمًا في المرحلة الراهنة في ظل تطورات كبيرة تشهدها أكبر المختبرات العلمية في هذين المجالين.
من ناحية أخرى، أيد “رامفوسا” (رئيس جنوب إفريقيا، وعضو مجموعة البريكس) أنه سيضع هذا البند على جدول أعمال القمة الإفريقية القادمة المقرر عقدها في أديس أبابا قريبًا. وأضاف أنه يدعم ما جاء على لسان رئيس الوزراء الياباني من حيث حوكمة تكنولوجيا المعلومات، وخاصة في مجال السيبر باور، أو القوة الافتراضية كأولوية مطلقة.
كما كرّرت المستشارة الألمانية “ميركل” دعوتها “لإقامة سوق رقمية مشتركة” للاتحاد الأوروبي، مؤكدة أن حوكمة استخدام تكنولوجيا المعلومات أصبحت أمرًا مطلوبًا لمجمل قطاع تكنولوجيا المعلومات في ظل تصاعد المخاوف من التطورات العلمية الحالية لهذا القطاع.
وإضافة إلى ذلك، أوضح نائب الرئيس الصيني “وانج كيشان” أهمية التعاون الدولي لإقامة نظام للحوكمة العالمية، مؤكدًا حرية كل دولة في اختيار السياسات العامة الخاصة بها في هذا المجال.
وتعكس مجمل هذه التصريحات مجموعة من الدلالات والاستنتاجات المهمة، نوجزها فيما يلي:
1- تنامي القلق من التطورات العلمية التي يشير إليها المتخصصون في مجال تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي والسيبر باور، والتي تشير في مجملها إلى تطورات في صناعة الإنسان الآلي، ومستويات التسليح ودقته، وتطور فكرة “تأديب الدول المارقة باستخدام السيبر باور”، وتطور فكرة “التأثير في سياسات الدول عامة، وهو ما جسدته التدخلات الروسية في الانتخابات الأمريكية في عام 2016 وفي أحداث “ذوي السترات الصفراء” في باريس، وتوجيه الأحداث في عدة دول أخرى، ومن ثم فإنه قلق له مبرراته.
2- أن هذه الخطوة من جانب الدول الأربع ليست الخطوة الأولى في هذا المجال، فالاتحاد الأوروبي سبق أن أصدر في مايو الماضي قانون حماية المعلومات العامة General Data Protection Regulations الذي يحكم حماية المعلومات داخل دول الاتحاد الأوروبي، وهي خطوة لم تجد ترحيبًا أمريكيًّا.
3- تكمن المشكلة في عدم وجود “توافق” بين الدول الرائدة في تكنولوجيا المعلومات حول “حدود” الحوكمة المقترحة في هذا المجال، ذلك أن كل دولة تسعى لحماية مصالح متباينة. فالصين ترفض تدخل أي جهة في علاقاتها بمواطنيها مع تقدم تكنولوجيا المعلومات، وهو موقف ضعيف لا توجد مؤشرات كافية حتى الآن على إمكانية الحفاط عليه مستقبلًا لمدة طويل, أما اليابان فإنها تسعى إلى حماية خصوصية المواطنين والملكية الفكرية، والمعلومات الاستخباراتية ومعلومات الأمن القومي، مع ضمان التدفق الحر للمعلومات الطبية والصناعية والمرورية، والمعلومات التي تدعم العولمة وإزالة الحواجز. بينما يهتم الاتحاد الأوروبي بالحفاظ على سرية المعلومات الخاصة، ويسعى لتحقيق العدالة الاجتماعية وفقًا لأحكام القضاء الأوروبي؛ إلا أنه في الوقت نفسه لا يؤيد إقامة جهاز عولمي أعلى يتولى حوكمة استخدام تكنولوجيا المعلومات وتطورها في المستقبل. وأخيرًا، تدعم الولايات المتحدة شركاتها المعلوماتية التي تسيطر دون منازع على أسواق تكنولوجيا المعلومات في العالم، ومن ثم تكسبها مكانة لا تتمتع بها غيرها من دول العالم.
4- في ظل هذه الحالة من تضارب المصالح، من المرجّح أن تتركز عملية الحوكمة في البداية على الاهتمام بإعطاء العولمة بُعدًا إنسانيًّا أكثر مساواة وأكثر عدالة بين الدول، وداخل كل دولة على حدة، وبخاصة في مجالات الذكاء الاصطناعي والهندسة الوراثية والأمن القومي بما في ذلك السيبر بور.
5- وفقًا لما ذكره رئيس جنوب إفريقيا من اتجاهه لوضع هذا الموضوع على جدول أعمال القمة الإفريقية، فإن الأمر يتطلب من مصر الاستعداد لذلك من الآن، لأن الرئيس “السيسي” سيكون رئيس القمة القادمة، وسيأخذ الموضوع منه جهدًا ليس بالهين طوال فترة رئاسته لبناء توافق عام إفريقي بخصوص الموضوع من جانب، وبشأن إقناع الدول الإفريقية بالاهتمام بالموضوع أساسًا من جانب آخر، لأن أول من ستطبق عليه تكنولوجيا هذه المجالات الأربعة (الذكاء الاصطناعي، والهندسة الوراثية، والأمن القومي والسيبر باور) هي الدول النامية بصفة عامة.
6- رغم تعرض صناعة الروبوت لأربع انتكاسات كبرى في الأعوام (1965، 1974، 1992، 1997)؛ إلا أن الحلم لا يزال قائمًا، ويتولى زمام الذكاء الاصطناعي اليوم جيل جديد من الباحثين تقدمت على أيديهم وحماستهم مجموعة جديدة من الأبحاث، ما فتح الباب مرة خامسة لإنتاج إنسان آلي ذكي له القدرة على التعلم الذاتي والاستفادة من أخطاء الماضي. كما فتح المجال أمام تطوير الكائن المعلوماتي المعزز Inforg والكائن السيبري Ceyborg. فإذا كان تاريخ الذكاء الاصطناعي هو تاريخ الفشل، أو تاريخ التقدم المتواضع جدًّا، فمن الواضح أن حماسة باحثي الذكاء الاصطناعي يجعلنا اليوم أكثر حماسة لهذه الأبحاث الجديدة، دون أن نحدد مدى النجاح من عدمة.
7- تقديري أن الفرصة مواتية لمصر تمامًا للقيام بدور ريادي في إفريقيا والعالم، لدعم تحولات تكنولوجيا المعلومات في دول العالم الثالث وإفريقيا استنادًا إلى المؤشرات التالية:
أ- إجماع أقوى خمسة مؤشرات عالمية لقياس اقتصاديات المعرفة على وجود 3 دول نامية تعد الأكثر تأهيلًا للعبور إلى اقتصاديات المعرفة الأكثر ربحية والتي تتحول فيها المعلومة إلى سلعة، وتتحول فيها الفكرة إلى مشروع في اقتصاد رمزي مرن أساسه المعلومة، وفقًا لتحولات الأسواق الثلاث (العمل ورأس المال والسلع). وفي هذا الإطار، يمكن الإشارة إلى أن هذه المؤشرات هي دافوس، وداو جونز، وجولدمان شاس، واستاندرد آند بورز، والفايننشيال تايمز، وهذه الدول هي مصر والمكسيك وإندونيسيا فقط.
ب- بقدر إفريقية مصر فإنها تُعد مدخلًا للاتحاد الأوروبي والعالم الغربي عامة بقيادة واشنطن لإعادة صياغة سياساته الخارجيه نحو إفريقيا، في ظل علاقات طيبة تربط مصر بالاتحاد الأوروبي عامة وبألمانيا وفرنسا خاصة. وهذه السياسات الغربية جرى الإعداد لها طوال السنوات العشر الماضية، وتعيد رسم خرائط المنطقة العربية وإفريقيا وآسيا عبر مجموعة من المفاهيم الجديدة التي ترتبط بالثورة العلمية في مجال المعلومات والنانو تكنولوجي والبيوتكنولوجي، وهي ثورة فاقت الخيال بالفعل.
ج- أن الجيل القادم من الإرهاب هو الإرهاب الناعم، حيث ينفصل موقع الحدث تمامًا عن الإرهابي بمئات الأميال ويصعب تتبعه. وتنفصل قوة الدول عن جيوشها تمامًا، وينفصل اقتصاد الدولة عن جغرافيتها تمامًا؛ فالقوة تصبح رمزيه ذهنية، والاقتصاد يتحول من الحالة المادية (سلع وخدمات) للحالة الذهنية الرمزية (اقتصاديات معرفة مثل شركات: علي بابا، وأمازون، وجوجل، وآبل، وياهو، وأوبر، وكريم، والسيارات ذاتية القيادة، والتبادل الحر تمامًا لمنتجات هذه الاقتصادات المعرفية، ويتحول قطاع الأعمال إلى داعم للدولة ومشروعاتها والتي تصل ربحية كل شركة منها إلى ميزانية عدة دول)، وهي مسأله أثق أنها تستحق الدراسة بدقة من قبل السادة المختصين.
الخلاصة أن العالم حولنا يتغير بسرعة غير معتادة، والتأخير في الانضمام إليه لن يفيد بل سيضر، والفرصة مواتية لمصر لتحقيق أهدافها. وما حدث في دافوس يستحق منا بذل الجهد لنفهم إلى أين يتحرك العالم لنعرف كيف ننضم إلى المستقبل.