أثارت زيارة وفد رفيع المستوى من جمهورية جيبوتي برئاسة العميد طاهر محمد علي نائب رئيس أركان الدفاع إلى الهيئة العربية للتصنيع وهيئة قناة السويس في الرابع والخامس من سبتمبر 2018 العديد من التساؤلات حول طبيعة العلاقات المصرية الجيبوتية وما هي الأسباب التي تدفع مصر نحو العمل على تعزيز وتنمية العلاقات مع جيبوتي؟
أبعاد العلاقات المصرية الجيبوتية
تشكلت العلاقة بين مصر وجيبوتي وفقا لمجموعة من الأبعاد السياسية والاقتصادية والثقافية، فقد شهد عام 1977 النواة الأولى لهذه العلاقات حيث كانت مصر في مقدمة الدول التي أقامت علاقات دبلوماسية مع جيبوتي وذلك في أعقاب استقلالها عن فرنسا عبر افتتاح السفارة المصرية هناك، وعلى الرغم من العلاقات التاريخية الراسخة بين الجانبين إلا أن السياسة الخارجية المصرية في مرحلة ما قبل 2011 لم تمنح هذا البلد القدر الكافي من الاهتمام. ومنذ ثورة يونيو 2013 تبلورت العلاقة بين الطرفين على أساس التعاون والتوافق في مختلف القضايا والمجالات. فعلى الصعيد السياسي كانت جيبوتي من الدول التي عارضت بشدة تجميد عضوية مصر وتعليق نشاطها في الاتحاد الافريقي إبان ثورة 30 يونيو إذ اعتبرت – جيبوتي- وقتها أن ما حدث في مصر تعبير عن الإرادة الحرة للشعب المصري وحقه في تقرير مصيره، كما مهدت الزيارات المتبادلة بين الطرفين على كافة المستويات لعلاقات أكثر متانة وصلابة ، فمن خلال اللقاء الذي جمع بين الرئيس عبدالفتاح السيسي ونظيرة اسماعيل عمر جيلة رئيس جيبوتي في ديسمبر 2016 قام الجانبان بالتوصل لتفاهمات حول عدد من القضايا الإقليمية والدولية من بينها الوضع في منطقة القرن الأفريقي، وسبل تعزيز السلم والأمن في أفريقيا ،وآليات مجابهة وتطويق الإرهاب فضلا عن دعم استقرار دول المنطقة.
في السياق ذاته شهدت العلاقات التجارية بين البلدين تطورا ملحوظا، إذ بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين 27,7 مليون دولار خلال عام 2016 وهو ما يعني أن حجم التبادل التجاري بين البلدين ارتفع بمعدل 7,7 مليون دولار عما كان عليه خلال عام 2009 الذي بلغ وقتها نحو 20 مليون دولار.
ولا شك أن العلاقات الثقافية كانت حاضرة بين الجانبين وذلك من خلال استقبال البعثات الدراسية التي تقدمها الجامعات المصرية وخاصة الأزهر الشريف ، ناهيك عن الدور التي تلعبه الوكالة المصرية للشراكة من أجل التنمية، ففي عام 2010 : 2011 قدم الأزهر 11 منحة دراسية لطلاب جيبوتي ،كما خصصت وزارة التعليم العالي 15 منحة دراسية سنوية بالإضافة إلي 10 منح لطلاب الدراسات العليا وذلك خلال العام الدراسي 2016:2017 ، بالإضافة لذلك تقوم الوكالة المصرية للشراكة من أجل التنمية بتنظيم الدورات التدريبية في عدد من المجالات والتي من شأنها تنمية وإعداد الكوادر الجيبوتية حيث يبلغ عدد المتدربين سنويا في الوكالة حوالي 50 شخص، وفي عام 2016 حضر 11 متدرب جيبوتي تدريب قدمته وزارة الاتصالات المصرية بناء على بروتوكول بين الجانبين يقضي بالمساهمة في رفع كفاءة وتنمية القدرات الجيبوتية في مجال الاتصالات.
دوافع الاهتمام المصري بجيبوتي
يمكن التأكيد على أن هناك مجموعة من الأهداف والمحفزات التي دفعت مصر إلى التوجه نحو جيبوتي ومن بين تلك الأهداف ما يلي:
- الأهمية الاستراتيجية لجيبوتي ، بات من الضروري على مصر أن تولي اهتماما كبيرا ومتصاعدا بجيبوتي انطلاقا من الأهمية الاستراتيجية والجيوسياسية التي تتمتع بها الأخيرة حيث تقع على الشاطئ الغربي لمضيق باب المندب ، البحر الأحمر وخليج عدن شرقا ، ويحدها من الشمال اريتريا ومن الجنوب إثيوبيا ،ومن الجنوب الشرقي الصومال ، كما تعظم السيطرة الجيبوتية على ميناء دورالى والذي تمر من خلاله 30 % من تجارة النفط العالمية من أهمية موقع جيبوتي، الأمر الذي يدفع مصر إلى تنمية العلاقات معها والسعي نحو توطيدها وذلك من أجل المساهمة في تأمين الممرات الملاحية لتيسير حركة التجارة العالمية حيث يمر من خلال باب المندب ما يقرب من 4 ملايين برميل نفط يوميا، كما أن تهديد باب المندب يعتبر بمثابة تهديد لقناة السويس باعتباره المدخل الرئيسي إليها الأمر التي تعمل مصر علي الحيلولة دون وقوعه، كما أن التقارب المصري الجيبوتي يساهم في مجابهة التحديات الناجمة عن القرصنة والتهريب وغيرها من التحديات التي يمكن أن تُهدد الأمن في البحر الأحمر.
- الرغبة في استعادة المكانة وتعزيز قيادة مصر للإتحاد الإفريقي ، تسعى مصر من خلال تعزيز وتنمية علاقاتها بدول القرن الأفريقي ومن بينها جيبوتي إلى استعادة الدور المصري الرائد الذي تراجع وانحسر في الفترات السابقة لعام 2011 نتيجة الانشغال عن الدائرة الإفريقية ، كما تهدف مصر بشكل عام لتوطيد علاقتها بدول المنطقة حتى تتمكن من قيادة الإتحاد الإفريقي خلال عام 2019 بفعالية بما يضمن نجاحها في تحقيق آمال وطموحات الدول الأعضاء ، حيث تضع مصر عين الاعتبار أهمية مساهمتها في بلوغ رؤية 2063 بشأن التنمية المستدامة لدول القارة الإفريقية ومن هنا يأتي الاهتمام بجيبوتي خاصة وأن الأخيرة مقرا لعدد من التجمعات المهمة من بينها الهيئة الحكومية للتنمية “IGAD” والتي تهدف إلي دعم استراتيجيات التنمية وتنسيق عدد من السياسات الاقتصادية والاجتماعية بين الدول الأعضاء في المنظمة.
- البحث عن موطئ قدم في ظل حدة التنافس الدولي، تعمل مصر من خلال التقارب مع جيبوتي على عدم ترك الساحة خالية للقوى الدولية والإقليمية صاحبة التواجد العسكري هناك حيث أن تحول جيبوتي لدولة جاذبة للقواعد العسكرية يمكن أن يمثل مصدر تهديد للمصالح المصرية سواء داخل منطقة القرن الإفريقي أو من خلال تهديد حركة الملاحة في قناة السويس، الأمر الذي جعل البعض يذهب إلى التأكيد على أهمية تدشين قاعدة عسكرية مصرية في جيبوتي على غرار القاعدة الفرنسية والأمريكية واليابانية والصينية.
- الوساطة في حل النزاعات، تهدف مصر من تقاربها مع جيبوتي إلى لعب دور الوسيط في حل النزاع الحدودي بين جيبوتي وإريتريا خاصة وأن مصر لديها رصيد يسمح بإقناع إريتريا بالعدول عن موقفها واللجوء إلى التسوية السلمية للنزاع، وقد ثمنت مصر جهود إعلان التطبيع بين جيبوتي وإريتريا وذلك في أعقاب الزيارة التي قام بها وزير خارجية إريتريا عثمان صالح إلي العاصمة جيبوتي في 6 سبتمبر 2018.
المسارات المستقبلية للعلاقة بين مصر وجيبوتي
من خلال ما سبق يمكن التأكيد على أن مستقبل العلاقة بين البلدين سيتحدد وفقا لمسارين، المسار الأول ” بروز وتنامي العلاقة” ، ينطلق من فرضية فحواها أن العلاقات بين الجانبين ستتجه نحو مزيد من التعاون على كافة الأصعدة خاصة وأن هناك رغبة جادة من قبل القيادة السياسية المصرية في لعب دور يتناسب مع الخلفية التاريخية لمصر في إفريقيا، ويتماشى مع التطورات والتغيرات الحالية والتي يأتي في مقدمتها قيادة مصر للاتحاد الإفريقي 2019 ، إذ بإمكان مصر أن تطوع خبراتها في مجالات كالتعليم والصحة وغيرها في المساهمة الإنمائية في جيبوتي، كما يفترض هذا السيناريو قيام مصر بتوظيف قوتها الناعمة في تعزيز وتنمية تلك العلاقات وذلك من خلال زيادة عدد البعثات المقدمة من الأزهر والجامعات الحكومية للطلاب في جيبوتي، كما يمكن أن تلعب الوكالة المصرية للشراكة من اجل التنمية دورا أكثر حيوية في هذا الصدد من خلال استقطاب مزيد من أبناء جيبوتي وامداهم بالخبرات وتأهيلهم وتنمية قدراتهم في مختلف المجالات، ناهيك عن إمكانية استغلال الخبرة المصرية في مجال الزراعة والسعي نحو سد الفجوات الغذائية لجيبوتي من خلال إمدادها بعدد من المحاصيل الزراعية التي تحتاجها جيبوتي ،بالإضافة لإمكانية تمديد وتنمية العلاقات التجارية من خلال التدشين الفعلي للمنطقة اللوجستية المصرية الحرة في جيبوتي والعمل على تبني صيغة ورؤية تعاونية في مجال الموانئ. كما يمكن أن تتجه مصر نحو الشروع في تدشين قاعدة عسكرية مصرية في جيبوتي تفاديا للمخاطر التي يمكن أن تلحق بمصر بسبب القرصنة في البحر الأحمر وكذا التهديدات الإرهابية بالإضافة إلى سعي مصر لتأمين الممرات الملاحية وقناة السويس ولعب دور مؤثر في ظل التنافس الإقليمي والدولي في المنطقة، ولا شك أن في حالة نجاح مصر في لعب دور الوسيط أو الطرف الثالث في تسوية الصراع الحدودي بين جيبوتي وإريتريا سيؤدي ذلك إلى تعزيز العلاقات بين الطرفين بل قد يعيد لمصر دورها المحوري والفاعل في منطقة القرن الإفريقي.
المسار الثاني،” محدودية العلاقة” ينطلق هذا المسار من فرضية أن تظل العلاقة بين الطرفين على ما هي بحيث لا يتجه الجانبان نحو مزيد من التعاون بل وتظل فرص التكامل محدودة فلا تخرج عما هي عليه الآن ، لكن هذا السيناريو لا يتلاءم مع الرغبة المصرية في صياغة دور أكثر فعالية وتأثيرا في المنطقة ، كما أن حجم التحديات والمخاطر التي يمكن أن تنجم من ترك الساحة والمجال في منطقة القرن الإفريقي بدون النفوذ المصري يجعل من الصعب أن تتخلى مصر عن تطوير وتعزيز العلاقات مع جيبوتي على كافة الأصعدة، الأمر الذي يرجح أن تذهب العلاقات بين الطرفين في اتجاه المسار الأول.