يُثير فوز الحزب الديمقراطي (وهو الحزب المعارض للرئيس “ترامب”) بالأغلبية في مجلس النواب (وهو أحد مجلسي الكونجرس الأمريكي) بانتخابات التجديد النصفي الأخيرة، واحتفاظ حزب الرئيس (الحزب الجمهوري) بالأغلبية في مجلس الشيوخ؛ عددًا من الأسئلة حول طبيعة دور الكونجرس في صنع السياسة الخارجية، وتأثير هذا التغير في تركيبة الأغلبية في الكونجرس على مضمون السياسة الخارجية الأمريكية.
دور الكونجرس في السياسة الخارجية
يختلف دور الكونجرس الأمريكي عن باقي برلمانات العالم، ويتعدى دوره القيام بوظائف البرلمان المعتادة من تشريع ورقابة إلى المشاركة في إدارة الحكم.
ويلعب الكونجرس العديد من الأدوار في مجال السياسة الخارجية، ويستطيع في بعض الأحيان أن يفرض رؤيته في مجال السياسة الخارجية على الإدارة الأمريكية، ومن الأدوات التي يملكها في هذا الصدد قدرته على إصدار تشريعات ملزمة في مجال السياسة الخارجية، يكون على الرئيس تنفيذها حتى ولو لم يكن راضيًا عنها بشكل كامل، مثل التشريعات الخاصة بفرض عقوبات اقتصادية على بعض الدول.
ويملك الكونجرس سلطات دستورية كبيرة في مجال تنظيم التجارة الخارجية، ولا يستطيع الرئيس الأمريكي أن يدخل في مفاوضات حول اتفاقيات تجارية (ومنها اتفاقيات التجارة الحرة) دون الحصول على ترخيص بالتفاوض من الكونجرس. وللكونجرس بعد ذلك حق التصديق على هذه الاتفاقيات بالقبول أو الرفض.
إلا أن أهم أدوار الكونجرس في مجال السياسة الخارجية هو ذلك المتعلق بالاعتمادات المالية. فالكونجرس له دور أساسي في إعداد الميزانية الأمريكية، بما في ذلك الميزانية الخاصة بأنشطة السياسة الخارجية والدفاع. وللكونجرس دور رئيسي في الموافقة على صفقات بيع الأسلحة للخارج، وإعداد موازنة المعونة الأجنبية التي تقدمها الولايات المتحدة. ويستطيع -في هذا الصدد- أن يزيد من حجمها أو يقلصها أو يضع شروطًا عليها أو يجمدها.
يُضاف إلى ذلك عدد من الأدوار التي يلعبها الكونجرس في مجال السياسة الخارجية من خلال ممارسة دوره في الرقابة على السلطة التنفيذية، باستخدام أدوات مثل: جلسات الاستماع، والتحقيقات، وطلب المعلومات.
ويتطلب التعامل مع الكونجرس الأمريكي جهدًا أكبر بكثير من التعامل مع الإدارة الأمريكية، وذلك لضخامة عدد أعضاء الكونجرس بمجلسيه النواب والشيوخ والذي يبلغ 535 عضوًا، لكلٍّ منهم آراؤه في مجال السياسة الخارجية، حتى إن البعض ينظر إليهم على أنهم 535 وزيرًا للخارجية.
“
يلعب الكونجرس العديد من الأدوار في مجال السياسة الخارجية، ويستطيع في بعض الأحيان أن يفرض رؤيته في مجال السياسة الخارجية على الإدارة الأمريكية
“
السياسة الخارجية للديمقراطيين
يختلف الديمقراطيون عن الجمهوريين في إعطائهم أولوية لعدد من قضايا السياسة الخارجية، وعلى رأسها تلك المتعلقة بحماية البيئة، وقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان. كذلك يتحفظ الديمقراطيون على زيادة نفقات الدفاع في الموازنة الأمريكية، ويميلون إلى إعطاء أولوية في الإنفاق للخدمات الاجتماعية.
أما بالنسبة للملفات الإقليمية فإن الديمقراطيين أكثر تشددًا في مواقفهم تجاه روسيا من الإدارة الجمهورية للرئيس “ترامب”، وكثيرٌ من الديمقراطيين ما زالوا يعتقدون أن هزيمة “هيلاري كلينتون” (مرشحة الحزب الديمقراطي) في الانتخابات الرئاسية الأخيرة تعود إلى التدخل الروسي في هذه الانتخابات لمصلحة خصمها الجمهوري “دونالد ترامب”. ولدى الديمقراطيين حماس أكبر لفرض مزيدٍ من العقوبات على روسيا.
أما فيما يتعلق بالصين فإن الديمقراطيين منقسمون في موقفهم من الحرب التجارية التي يشنها الرئيس “ترامب”، فعدد من الديمقراطيين يؤيدون بعض جوانب هذه السياسة، خاصة ما يتعلق بحماية حقوق العمال الأمريكيين، والحد من تصدير فرص العمل للخارج. ولكن من ناحية أخرى، فإن الديمقراطيين يؤيدون الأسس التي قام عليها النظام الليبرالي الدولي منذ الحرب العالمية الثانية، وأهمها ما يتعلق بحرية التجارة. ويرفض غالبية الديمقراطيين التصرفات الأحادية فيما يتعلق بالعقوبات التجارية، ويطالبون بالتنسيق بشأنها مع حلفاء الولايات المتحدة، أو أن يتم التعامل معها في إطار آليات تسوية المنازعات في منظمة التجارة العالمية.
وبالنسبة للعلاقة مع كوريا الشمالية، يتحفظ الكثير من الديمقراطيين على انفتاح الرئيس “ترامب” على الرئيس الكوري “كيم جونج أون”، ويرون أن هذا الانفتاح لم يؤدِّ إلى تحقيق النتائج المرجوّة منه، وخاصة ما يتعلق بإمكانية إعلان كوريا الشمالية عن استعدادها للتخلص بشكل نهائي من برنامجها النووي.
“
هناك توافقًا كبيرًا بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري بخصوص العديد من قضايا المنطقة
“
وبالنسبة لقضايا الشرق الأوسط، يمكن القول إن هناك توافقًا كبيرًا بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري بخصوص العديد من قضايا المنطقة. فالحزبان يساندان إسرائيل بشكل كبير، بل وقد تزداد درجة هذه المساندة لدى الديمقراطيين باعتبار أن غالبية يهود الولايات المتحدة يصوتون للحزب الديمقراطي في الانتخابات المختلفة.
وبالنسبة لإيران، فعلى الرغم من أن بعض الديمقراطيين قد اعترضوا على قيام الرئيس “ترامب” بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران (اتفاق خمسة زائد واحد) نظرًا لأن التوقيع عليه تم بواسطة الرئيس الديمقراطي السابق “باراك أوباما”؛ إلا أن غالبية الديمقراطيين -خاصة المؤيدين لإسرائيل- ينظرون لإيران بشكل سلبي، ويرون أنها تمثل مصدرًا لتهديد أمن الدولة العبرية، وأحد عوامل عدم الاستقرار في المنطقة، ومن ثمّ لا يُمانعون في فرض مزيدٍ من العقوبات عليها.
ويؤكد كثير من الديمقراطيين على أهمية الوقف السريع للحرب في اليمن، وتسوية أزمتها بشكل سلمي، وبما يُساعد في وضع نهاية للأوضاع الإنسانية الصعبة بها، وهو الموقف الذي أصبحت إدارة “ترامب” تتبناه أيضًا.
“
ليس من المتوقع أن يؤدي فوز الديمقراطيين بأغلبية مجلس النواب إلى تحول كبير في توجهات السياسة الخارجية
“
الدور المتوقع لمجلس النواب الجديد
ليس من المتوقع أن يؤدي فوز الديمقراطيين بأغلبية مجلس النواب إلى تحول كبير في توجهات السياسة الخارجية، ويرجع ذلك لسببين رئيسيين:
الأول هو أن الرئيس “ترامب” سوف يستمر في لعب الدور الأكبر في مجال السياسة الخارجية بحكم صلاحياته الدستورية التي تُتيح له ذلك. والسبب الثاني هو أن نجاح أي مبادرة تشريعية في مجال السياسة الخارجية يتطلب أيضًا موافقة الغرفة الثانية من البرلمان (مجلس الشيوخ)، والتي ما زال حزب الرئيس (الحزب الجمهوري) يسيطر عليها.
ومع ذلك، من المتوقع أن يقوم مجلس النواب (ذو الأغلبية الديمقراطية) بوضع قيود على مبادرات الرئيس التي تتطلب موافقة مجلسي الكونجرس (النواب والشيوخ)، خاصة تلك التي تتطلب موازنات مالية، مثل تمويل الأنشطة الدولية أو برامج المعونات الخارجية. كذلك يستطيع مجلس النواب عرقلة الموافقة على الاتفاقيات التجارية (مثل اتفاق نافتا الجديد الذي وقّعه الرئيس “ترامب” منذ أسابيع قليلة مع المكسيك وكندا) لأن الاتفاقيات التجارية تتطلب موافقة مجلسي الكونجرس.
إلا أنه من المتوقع أن يسعى مجلس النواب للتأثير على السياسة الخارجية من خلال دوره الرقابي بشكل أكبر من دوره التشريعي. وسوف يستخدم أدوات مثل جلسات الاستماع لتوجيه أسئلة واستفسارات للمسئولين التنفيذيين عن السياسة الخارجية، وقد يلجأ أيضًا إلى طلب معلومات عن قضايا معينة تنتهج فيها الإدارة قدرًا من السرية في التعامل، وقد يلجأ أيضًا في بعض الحالات إلى تشكيل لجان للتحقيق بشأن سلوكيات الإدارة أو ارتباطات الرئيس “ترامب” المثيرة للجدل مع بعض الدول. وبالتأكيد سوف تكون سياسة “ترامب” تجاه الشرق الأوسط هي إحدى القضايا التي سوف يسعى مجلس النواب -من خلال لجانه المتخصصة- إلى لعب دور رقابي بشأنها.
وأخيرًا يمكن القول إن وجود أغلبية ديمقراطية في مجلس النواب وأغلبية جمهورية في مجلس الشيوخ، قد يؤدي إلى تعميق درجة الانقسام في السياسة الأمريكية، إلا أنه -من ناحية أخرى- قد يُتيح فرصة للتعايش، وتقليل فجوة الاختلافات بين الحزبين من خلال التوصل إلى حلول وسط ترضي الطرفين، والسياسة الخارجية هي أحد المجالات التي تكون مثالًا لهذا التعايش، خاصة أن مساحة التوافق فيها بين الحزبين أكبر من مساحة الاختلاف.